*محمد علي اليوسفي
يقودنا الاهتمام بالعلاّمة ابن خلدون إلى التساؤل عما يجعله مقيماً بيننا، صالحاً من حيث المنهج لقراءة واقعنا، سواء عبر طرق انتقائية ما زالت تسِم الكثير من البحوث والدراسات، أم عبر مسار يجعل من الأهمية طرح السؤال بصياغة أخرى مركَّبة ومتكاملة في آن: أيتميّز ابن خلدون بنظرة ثاقبة ورؤية عميقة إلى الحد الذي جعل منهجه مستمرَّ الجدوى والفاعلية في عصرنا أم أننا تخلفنا في عصرنا بأشكال ملتبسة ومتداخلة إلى درجة يمكن معها إجراء مقارنة، لا تخلو من مفارقة زمنية، بين ما نعيشه من تحولات مفصلية في أيامنا، وما عاشه ابن خلدون شاهداً على حضارة بدأت بالأفول وحاول جاهداً أن يفهم أسباب ذلك الأفول؛ وبذلك تغدو نقطة الالتقاء متضمنة بالضرورة ارتداداً إلى الوراء؟
أغلب الدراسات التي تناولت ابن خلدون ركّزت على ما تميّز به من حيث الأسبقية العلمية، وفرادته في فهم واقع عصره، وصولاً إلى ما ذهب إليه البعض من «راهنيّة ابن خلدون» أو استمرار صدقية ملاحظاته في واقعنا العربي الحالي، خصوصاً في ما يتعلّق باستيقاظ تحليلات كانت غافية أو مغيّبة، ذات علاقة بمفاهيم مثل العصبية والقبلية والدين، وضرورة الجمع بين تلك المفاهيم لتفادي الوقوع في ما يمكن أن نسمّيه اليوم «تطرّفاً» ويمكن الاستشهاد في هذا المجال، بمقطع مميز من «المقدمة» يقول فيه ابن خلدون: «ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء، فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء، ويعرّضون أنفسهم في ذلك إلى المهالك، وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر».
ولا بدّ من قراءة هذه الفقرة، بل وقراءة أثر ابن خلدون كلّه، ضمن واقع عصره، ومصطلحاته، فالقبائل والعشائر كانت تشكّل آنذاك عامة الناس أو «الشعب» بالمفهوم الحديث، أما «العصبية» التي يبني عليها ابن خلدون أساس منهجه وأساس العمران البشري، فقد تشعب الدارسون، وكذلك المترجمون الأوائل، في محاولة فهمها وأدّى الاجتهاد والاختلاف إلى تعقيد مصطلح العصبية أكثر، وما زاد الأمر تعقيداً أنّ ابن خلدون نفسه لم يحدّد هذا المعنى ولم يعرّفه تعريفاً شاملاً، بل اكتفى باستخدام بعض المرادفات له، وكانت نتيجة الاختلافات إغناء للتفاسير التي خضع لها مصطلح العصبية، وتراوحت تلك التفسيرات المنقوصة بين «التضامن» و«الوطنية»، و«العنصرية» أيضاً، كما ذهب إلى ذلك غاستون بوتول وغابرييلي وغيرهما من الدارسين الأجانب.
وكانت أغلب التعريفات تركّز على العصبية بوصفها الرابط الجوهري للمجتمع الإنساني والقوة الأساسية المحركة للتاريخ، غير أنّ تلك التعريفات ظلّت لصيقة بالتعميم وبعيدة عن الواقع العينيّ الذي درسه ابن خلدون، وخصوصاً في طريقة تمييزه بين البدو والحضر، أو «العرب» والحضر، وهذا ما أحدث بلبلة أخرى في فهم المقصود بالعرب مع الملاحظة أنّ هذا المصطلح مازال حتى أيامنا، يطلق على أهل البادية في بلدان شمال أفريقيا.
غير أنّ ابن خلدون لا يجعل «البدو» متّصفين بالعصبية و«الحضَر» فاقدين لها، فالأمر عنده يتعلّق بحيوية الريف سواء أكانت لدى البدو أم لدى الحضر، وكذلك بالانسجام والتجانس في جسم واحد للمجموع يتشارك في حياة اجتماعية ويضع نصب عيونه المحافظة على الجماعة.
وضمن البنى القبلية التي حلّلها ابن خلدون، كان لا بدّ للعصبية من وجود التراتبية القيادية المتوسعة من الرابطة العائلية الصغرى إلى عدد من القبائل الأخرى، من أجل ضمان المصالح والجباية واقتطاع الأراضي، وبذلك تصل العصبية إلى أن تصير أقرب ما تكون إلى شكل من أشكال التنظيم السياسي.
من العصبية إلى تهذيبها
لقد أدى انبعاث الفكر الديني في عصرنا وانتقال هذا الفكر إلى الممارسة الفعلية بمختلف أطيافها، إلى جانب استيقاظ الهويات الدينية على أنقاض الإيديولوجيات التي ميزت القرن الماضي، إلى بروز النزاعات العرقية والطائفية مهيمنة على ساحات الصراع السياسي في المنطقة العربية والإسلامية، وفي العالم أيضاً. بالنسبة لمنطقتنا، حدث ذلك نتيجة الأزمات التي عاشتها بلداننا بعد حركات الاستقلال سواء لجهة التحديث أم لطبيعة الحكم الفردي الذي وسم المنطقة العربية بميسمه وأجهض كافة المحاولات الهادفة إلى إرساء قواعد الديمقراطية.
وحتى بعيداً عن الصلاحية المطلقة لمنهج ابن خلدون في تحليل أوضاعنا ومعطيات عصرنا ما زالت مقولاته الكثيرة سارية في ثقافتنا على غرار الغلبة، والتقليد، واقتداء المغلوب بالغالب، والعصبية، وفساد الحكم، وما إلى ذلك.
غير أنّ المقولة الأهم التي يمكن ربطها بأوضاعنا إنما تتعلق بما ذهب إليه ابن خلدون من أنّ العرب «لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة» والسبب في ذلك كما يؤكد صاحب المقدمة: « أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرئاسة؛ فقلما تجتمع أهواؤهم. فإذا كان الدين بالنبوءة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم، فسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين المهذّب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد والتنافس». ويعود إلى توضيح ذلك أكثر: « إن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها والسبب في ذلك كما قدمناه أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية وتفرد الوجهة إلى الحق فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساوٍ عندهم، وهم مستميتون عليه…»
وحتى في متابعة مفهوم العصبية عند ابن خلدون نجد أنها تخضع بدورها للتهذيب مع وجود المحدد الديني. فإذا كانت العصبية تبدأ في درجاتها الدنيا مجزأة إلى عصبيات صغرى: «اعلمْ أنّ كلّ حيّ أو بطن من القبائل وإن كانوا عصابة واحدة لنسبهم العام ففيهم أيضاً عصبيات أخرى لأنساب خاصة»، ونظراً لكون الرئاسة إنما تتم بالغُلب: «وجب أنْ تكون عصبية ذلك النصاب أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب بها وتتم الرئاسة لأهلها»، ثم «إنّ القبيل الواحد وإن كانت فيه بيوتات متفرقة وعصبيات متعددة، فلا بد من عصبية تكون أقوى من جميعها، تغلبها وتستتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها، وتصير كأنها عصبية واحدة كبرى؛ وإلا وقع الافتراق المفضي إلى الاختلاف والتنازع (…) ثم إذا حصل التغلب بتلك العصبية على قومها طلبت بطبعها التغلب على أهل عصبية أخرى بعيدة عنها».
في العصبية نوع من التضامن واللحمة القبلية؛ فهي تجمع بين التآزر القبلي ومبدأ المساواة المستند إلى صلات قربى، مع دور سياسي لقائد ينتمي إلى عائلة ذات وجاهة ومن قبيلة كبيرة، إلا أنّ «الصبغة» الدينية هي الجانب القيمي الضروري في هذا المجال أيضا. فكما ذهب إلى أنّ العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية صار من الواضح أنّ ذلك يتضمن تغليب «خِلال الخير» في حقل السياسة؛ لا لشيء إلا لكون الإنسان «أقرب إلى خِلال الخير من خِلال الشر بأصل فطرته وقوَّته الناطقة العاقلة، لأنّ الشر إنما جاءه من قبل القوى الحيوانية التي فيه (…) والملك والسياسة إنما كانا له من حيث هو إنسان، لأنها خاصة للإنسان لا للحيوان؛ فإذا خِلال الخير فيه هي التي تناسب السياسة والملك، إذ الخير هو المناسب، للسياسة. وقد ذكرنا أن المجد له أصل يبني عليه، وتتحقق به حقيقته وهو العصبية والعشير، وفرع يتم وجوده ويكمله وهو الخِلال. وإذا كان الملك غاية للعصبية فهو غاية لفروعها ومتمّماتها، وهي الخِلال؛ لأن وجوده دون متمماته كوجود شخص مقطوع الأعضاء أو ظهوره عرياناً بين الناس. وإذا كان وجود العصبية فقط من غير انتحال الخلال الحميدة نقصاً في أهل البيوت والأحساب، فما ظنك بأهل الملك الذي هو غاية لكلّ مجدٍ ونهاية لكل حسب وأيضاً فالسياسة والملك هي كفالة للخلق، وخلافة لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم؛ وأحكام الله في خلقه وعباده إنما هي بالخير ومراعاة المصالح كما تشهد به الشرائع…»
لذلك لا يستبعد القائد ذلك الجانب الديني الذي يخدمه كمشرعن. وهذه الشرعية الإلهية لا تظهر لدى القائد في جانبها القيمي الإيجابي وحده، بل تخدمه في ممارسة أدوار أخرى أيضاً؛ مثل المراقبة والقمع!
ذلك ما يتحقق للقائد بعد بلوغه «السؤدد» كما يقول ابن خلدون. إذ تنشأ الدولة من تعاظم العصبية، وصاحب العصبية «إذا بلغ إلى رتبة طلب ما فوقها؛ فإذا بلغ رتبة السؤدد والاتباع ووجد السبيل إلى التغلب والقهر لا يتركه لأنه مطلوب للنفس. ولا يتم اقتدارها عليه إلا بالعصبية التي يكون بها متبوعاً. فالتغلب الملكي غاية للعصبية «.
أطوار
العصبية ذات خصائص اجتماعية وسياسية وفكرية قائمة في الرابطة القبلية أساساً. ومع انفصام تلك الرابطة يبدأ وهن الدولة؛ ومن ثم تفتتها. وإذا كان تقدم العمران وتوسع الدولة يؤديان إلى اضمحلال العصبية، فمعنى ذلك أنّ العصبية التي لعبت دوراً تأسيسياً، تؤدي، هي ذاتها، ولدى اضمحلالها المحتوم، إلى تقويض ما أسسته وأعلت بنيانه، إذْ أنّ «الخلل إذا طرق الدولة طرقها في أساسين: «فالأول الشوكة والعصبية وهو المعبر عنه بالجند؛ والثاني المال الذي هو قوام أولئك الجند، وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال.»
يحصل ذلك في سياق الأطوار الخمسة التي حددها ابن خلدون للدولة، وهي:
الطور الأول: طور الظفر بالبغية وغلب المدافع والممانع والاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة السالفة قبلها. فيكون صاحب الدولة في هذا الطور أسوة قومه في اكتساب المجد وجباية المال والمدافعة عن الحوزة والحماية، لا ينفرد دونهم بشيء لأنّ ذلك هو مقتضى العصبية التي وقع بها الغلب وهي لم تزل بعد بحالها.
الطور الثاني: طور الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بالملك وكبحهم عن التطاول للمساهمة والمشاركة. ويكون صاحب الدولة في هذا الطور معنياً باصطناع الرجال واتخاذ الموالي والصنائع، والاستكثار من ذلك لجدع أنوف أهل عصبيته وعشيرته المقاسمين له في نسبه، الضاربين في الملك بمثل سهمه (…)
الطور الثالث: طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك مما تَنزع طباع البشر إليه من تحصيل المال وتخليد الآثار وبعد الصيت؛ فيستفرغ وسعه في الجباية وضبط الدخل والخرج وإحصاء النفقات والقصد فيها، وتشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة والأمصار المتسعة والهياكل المرتفعة، وإجازة الوفود من أشراف الأمم ووجوه القبائل وبث المعروف في أهله، هذا مع التوسعة على صنائعه وحاشيته في أحوالهم بالمال والجاه، واعتراض جنوده وإدرار أرزاقهم وإنصافهم في أعطياتهم (…) فيباهي بهم الدول المسالمة، ويرهب الدول المحاربة. وهذا الطور آخر أطوار الاستبداد من أصحاب الدولة. لأنهم في هذه الأطوار كلها مستقلون بآرائهم، بانون لعزهم، موضحون الطرق لمن بعدهم.
الطور الرابع: طور القنوع والمسالمة. ويكون صاحب الدولة في هذا قانعاً بما بنى أولوه، سلماً لأنظاره من الملوك وأقتاله، مقلداً للماضين من سلفه، فيتبع آثارهم حذو النعل بالنعل، ويقتفي طرقهم بأحسن مناهج الاقتداء، ويرى أنّ في الخروج على تقليدهم فسادَ أمرِه وأنهم أبصر بما بنوا من مجده.
الطور الخامس: طور الإسراف والتبذير. ويكون صاحب الدولة في هذا متلفاً لما جمع أولوه في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته وفي مجالسه، واصطناع أخدان السوء وخضراء الدمن، وتقليدهم عظيمات الأمور التي لا يستقلون بحملها، ولا يعرفون ما يأتون ويذرون منها، مستفسداً لكبار الأولياء من قومه وصنائع سلفه، حتى يضغنوا عليه، ويتخاذلوا عن نصرته، مضيعاً من جنده بما أنفق من أعطياتهم في شهواته، وحجب عنهم وجه مباشرته وتفقده؛ فيكون مخرباً لما كان سلفه يؤسسون، وهادماً لما كانوا يبنون، وفي هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم، ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا تكاد تخلص منه، ولا يكون لها معه برء، إلى أن تنقرض…».
وكان إيف لاكوست في كتابه عن ابن خلدون قد أشار إلى هذا التناقض بين الدولة والقبيلة وبين الملك والأرستقراطية القبلية، ملاحظاً أنّ الحل البديل يتطلب تفكيك القبائل وبسط النفوذ ليكفّ التجار عن كونهم مجرد وسطاء وينتقلوا إلى وضع أيديهم على وسائل الإنتاج. وبالنظر إلى التناحر بين الأرستقراطية القبلية والأرستقراطية التجارية فقد انعدمت تلك الشروط ولم يجد ابن خلدون من حلّ سوى الانطلاق إلى الأحكام الأخلاقية ومهاجمة دور»الحضر» باعتبارهم الشر المجسد في خراب العمران، بعيداً عن العصبية، والحال أنّ تجار الحواضر في حاجة إلى حماية.
فيلسوف التاريخ
يعتبر ابن خلدون من الكتاب الموسوعيين الذين خاضوا في مجمل علوم عصرهم بالمقدار الذي بلغته من تطور آنذاك. لذلك استحق لقب العلامة قبل نشأة الموسوعات الغربية في عصر الأنوار الأوروبي. وحتى اليوم مازال بإمكان الدارس أنْ يعود إليه في مجالات متعددة، مثل التاريخ والعلوم والفلسفة والفقه وصولاً إلى علوم التربية. إلا أنّ ما يميزه طبعا هو تجاوز التراكم المعرفي الكمّي إلى استنباط حقيقة التاريخ بما هو: «خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال.»
وبوضع علم التاريخ كان ابن خلدون واعياً بأسسه العلمية البعيدة كل البعد عن الإنشاء ونقل الخبر كما كان يفعل سابقوه، فيتحدث عن طريقته في إعداد الكتاب قائلاً: «فهذبت مناحيه تهذيباً، وقربته لإفهام العلماء والخاصة تقريباً، وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكاً غريباً، واخترعته من بين المناحي مذهباً عجيباً، وطريقة مبتدعة وأسلوباً. وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها؛ حتى تنزع من التقليد يدك، وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال وما بعدك.» ويوضح أيضاً أنّ التاريخ: « ليس من علم الخطابة الذي هو أحد العلوم المنطقية(…) ولا هو أيضاً من علم السياسة المدنية، إذ السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة، ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤه «.
وبذلك أخضع التاريخ إلى القواعد العلمية. ويمكن اعتبار منهجه مفيداً بالمقدار الذي يظل عصره «مقيما» في عصرنا ولو جزئياً، من دون أن يعني ذلك عدم الاستفادة من تطور المناهج والعلوم العصرية، إذْ يؤخذ على ابن خلدون بعض مبالغاته كما في إعطاء الجغرافيا دوراً حاسماً، ومقارنته أعمار الدول بأعمار البشر، ومبالغته أيضاً في عزو سقوط الحضارات إلى الرفاهية والترف والتبذير مع إغفال عناصر الانحطاط المتأتية من الفساد السياسي وفقدان العدل، وإنْ كان يشير في مواضع كثيرة إلى أن الظلم مؤذن بخراب العمران و»أنّ العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذٍ من أنّ غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم. وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك. وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب (…) فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران…»
إبطال الفلسفة
ويمكن النظر إلى الأسبقية التي يمثلها ابن خلدون في ميدان العلوم الإنسانية والاجتماعية ضمن طريقته الوضعية التي جعلته يرفض الأفكار النظرية وصولاً إلى التشكيك في مشروعية الفلسفة والعلوم العقلية التي تلقاها على يدي أستاذه الآبلي، داعياً إلى « إبطالها». لقد رأى أنّ أوضاع عصره تتطلب غير التحليلات النظرية ولا بد من علم تطبيقي. فالعقل في نظره غير قادر على الإحاطة بكل الموجودات، ولا بد للعقلانية من الرجوع إلى التوحيد، ذلك أنّ الفلسفة، كما يقول في الفصل الحادي والثلاثين من المقدمة، وتحت عنوان «إبطال الفلسفة وفساد منتحلها» مع تأكيد صريح منه على أنّ: «هذا الفصل وما بعده مهم، لأنّ هذه العلوم عارضة في العمران كثيرة في المدن. وضررها في الدين كثير، فوجب أنْ يصدع بشأنها ويكشف عن المعتقد الحق فيها. وذلك أنّ قوماً من عقلاء النوع الإنساني زعموا أنّ الوجود كله، الحسي منه وما وراء الحسي، تدرك أدواته وأحواله بأسبابها وعللها بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية؛ وأنّ تصحيح العقائد الإيمانية من قبل النظر لا من جهة السمع، فإنها بعض من مدارك العقل. وهؤلاء يسمون فلاسفة، جمع فيلسوف، وهو باللسان اليوناني محب الحكمة (…) ووضعوا قانوناً يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق والباطل، وسموه بالمنطق.»
ويورد ابن خلدون بعد ذلك أمثلة عن القياس ويتعرض لأرسطو وإدراك السعادة بمقتضى العقل: «وهذا عندهم هو معنى النعيم والعذاب في الآخرة…» وبعد الإشارة إلى تلاميذ أرسطو من العرب مثل الفارابي وابن سينا، ينتقل إلى الدحض والوعظ : «واعلمْ أنّ هذا الرأي الذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه. فأما إسنادهم الموجودات كلها إلى العقل الأول واكتفاؤهم به في الترقّي إلى الواجب، فهو قصور عما وراء ذلك من رتب خلق الله، فالوجود أوسع نطاقاً من ذلك ( ويخلق ما لا تعلمون)…
ويعارض بين توصلهم إلى أحكام ذهنية كلية وبين الموجودات الخارجية المشخصة: « وأما البراهين التي يزعمونها على مدعياتهم في الموجودات، ويعرضونها على معيار المنطق وقانونه؛ فهي قاصرة وغير وافية بالغرض. أما ما كان منها في الموجودات الجسمانية ويسمونه العلم الطبيعي، فوجه قصوره أنّ المطابقة بين تلك النتائج الذهنية التي تستخرج بالحدود والأقيسة كما في زعمهم، وبين ما في الخارج غير يقيني، لأن تلك أحكام ذهنية كلية عامة، والموجودات الخارجية متشخصة بموادها»، لينتقل بعد ذلك إلى فلسفة ما بعد الطبيعة: «وأما ما كان منها في الموجودات التي وراء الجسم وهي الروحانيات ويسمونه العلم الإلهي وعلم ما بعد الطبيعة، فإنّ ذواتها مجهولة رأساً، ولا يمكن التوصل إليها ولا البرهان عليها لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية إنما هو ممكن فيما هو مدرك لنا».
لكنه يعترف بـ «ثمرة» واحدة متأتية من هذا المنطق: «وليس له فيما علمنا إلا ثمرة واحدة وهي شحذ الذهن في ترتيب الأدلة، والحجاج لتحصيل ملكة الجودة، والصواب في البراهين.»
ويختم ابن خلدون بالتنبيه والوعظ: « فليكن الناظر فيها متحرزاً جهده من معاطبها، وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه، ولا يُكبَّنَّ أحدٌ عليها وهو خلوٌ من علوم الملة فقلَّ أن يسلم لذلك من معاطبها. والله الموفق للصواب وللحق والهادي إليه. وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله».
المبشر من عمق القرون
وضعية ابن خلدون جعلته نقطة استقطاب منهجي بين اليسار واليمين، وكثيراً ما تم ذلك بأشكال إسقاطية وانتقائية، من المستشرقين الأوائل وصولاً إلى إيف لاكوست ومهدي عامل. وكان عرضة لسوء الفهم أيضاً. فوجدنا في الغرب من اتهمه بالعنصرية، ووجدنا في الشرق من اتهمه بالشعوبية (طه حسين)، إلا أنه وجد من يحتفي به في الغرب وفي الشرق. وكان ملهماً لرواد حركة الإصلاح منذ منتصف القرن التاسع عشر خصوصاً في تونس( خير الدين باشا، وابن أبي الضياف).
ولأنّ ابن خلدون كان ابن عصره أولاً وأخيراً، فقد وجد في الغرب من دافع على استباقه لعصره حتى بالمنظور العالمي، منذ المستشرقين الأوائل، فقورن عمله بمكيافيلي، وفيكو، ومونتسكيو، وأوغست كونت، وهيغل، ووليم جيمس، وغيرهم. وقال عنه فنسنت مونتيل، في تقديمه للطبعة الفرنسية الثانية من المقدمة:»إن ابن خلدون متقدم كثيراً على عصره ولم يتوصل أحد من أسلافه أو من معاصريه إلى وضع عمل بهذا الاتساع والشمولية». ورأى فرناند بروديل الذي تمعن في مسألة حضور الماضي في الحاضر وتفسيره له، أنّ ابن خلدون كان واحداً من أول المنظرين لتاريخ الحضارات بمنهجية متميزة…
وفي عصرنا الحديث تم النظر إلى منهج ابن خلدون باعتباره متناسقاً حتى مع التطور الأوروبي الذي شهده دور الدين في المجتمع والدولة. وكان الألماني كارل شميث قد خصص دراستين عن اللاهوت السياسي ودوره في الإرث الأوروبي الكاثوليكي والبروتستانتي واستمرار ذلك الدور في خلفية الأنظمة السياسية المعاصرة. وما أثار اهتمام الباحثين في فكر ابن خلدون هو ربطه بين الدين والسياسة سواء من خلال الخلافة، أم من خلال ما يدعوه بالملك والسلطان، باعتبارهما الشكلين الملكيين الممارسين للسلطتين الزمنية والروحية. وفي هذا التمييز يشكل الدين ضمانة ووظيفة «معدِّلة « عبر إخضاع السلطة المطلقة لمبدأ العدالة التي تزداد فعاليتها إذا تحددت بطبيعة إلهية. وما أثار الانتباه أيضاً في الدراسات التي تناولت ابن خلدون هو مقارنته بين الخلافة والبابوية، وما في ذلك من تماثل راجع إلى طبيعة العلاقة المتوترة بين «الأمير» و»الحبر الأعظم». وتظهر إسلامياً مع تجريد الخليفة من القرار السياسي العسكري لصالح الممالك المحلية التي يمارس أمراؤها السلطة الفعلية من دون تخلٍّ عن الولاء، أو بالأحرى، عن الرابطة الاسمية التي تربطهم بالخليفة؛ أي أنّ وظيفة الخليفة باتت أشبه ما تكون بوظيفة البابا إزاء الإمبراطور في التقليد الروماني الجرماني.
وحتى بالنسبة لمنهجية ابن خلدون فقد تم وضعها ضمن سياق التطور العالمي للأفكار والعلوم. فدافع الفيلسوف التفكيكي جان لوك نانسي عن رفض ابن خلدون لفلسفة عصره، معتبراً أنّ هذا الحكم السلبي كان صادراً عن «واقعيته» وتشكيكه في المسيرة التي اتخذها تطور الفكر الأرسطوطاليسي. ومن زاوية النظر هذه يغدو ابن خلدون في نظره، مبشّرًا، من عمق القرون، بديكارت ونيوتن.
ويميز جان لوك نانسي أيضاً في إيمان ابن خلدون الصادق تبشيراً بباسكال. أما افتتانه بكرم البيئة البدوية والريفية فيجد فيه إعلاناً عن الحظوة التي سوف تتمتع بها الطبيعة لدى جان جاك روسو، في حين ظل وصفه لعلم ما بعد الطبيعة صالحاً حتى بلوغ الآفاق التي أنجبت هايدغر وجاك دريدا.
إن التطورات التي تشهدها منطقتنا تجعل رأي ابن خلدون في الواجهة مرة أخرى سواء لجهة التأمل والتساؤل أم انطلاقاً من ضرورة معايشة زمننا كشهود غير محايدين على التحولات الكبرى والمفصلية في أيامنا، تماماً كما كان ابن خلدون شاهداً على عصره ومحللاً لنشأة حضارة وبداية أفولها.
ما فعله ابن خلدون هو القطيعة مع أفق انتظار عصره، كما أشار إلى ذلك بيار لوباب، إذ أنه قدّم لنا منطقاً تأويلياً أبعد ما يكون عن المقولات التقليدية؛ وهو منطق بلغ من «الحداثة» حدّاً لم يعد معه ينتمي إلى الجدال العلمي والسياسي والديني والفلسفي السائد في عصره، بقدر ما توجه إلى مخاطبة عصرنا»!
.………………………………..
المصادر والمراجع
1-عبد الرحمن بن خلدون، كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»
2-إيف لاكوست، العلامة ابن خلدون، ترجمة الدكتور ميشال سليمان، دار ابن خلدون، الطبعة الأولى، 1974
3-عبد الرحمن ابن خلدون بقلم الدكتور علي عبد الواحد وافي، صدر من دون تاريخ عن الإدارة العامة للثقافة في الجمهورية العربية المتحدة!
4-Mohamed-Aziz Lahbabi, Ibn Khaldûn, notre contemporain, Rabat-Paris (OKAD/L›Harmattan) 1987, 5e éd.
5- Discours sur l›histoire universelle (Al Muqadimma), par Ibn Khaldoun, traduit de l›arabe par Vincent Monteil (Paris/Arles, Sindbad/Actes Sud, 3e édition, 1997)
6-Fernand Braudel, Histoire des Civilisations : le passé explique le présent publié en 1959 dans « L’encyclopédie française » et repris en 1997 dans « Les Ambitions de l’Histoire », Paris, Éditions de Fallois, 1997.
7-Pierre Lepape,Le Monde Diplomatique, janvier 2003.
مآخذ
يؤخذ على ابن خلدون بعض مبالغاته كما في إعطاء الجغرافيا دوراً حاسماً، ومقارنته أعمار الدول بأعمار البشر، ومبالغته أيضاً في عزو سقوط الحضارات إلى الرفاهية والترف والتبذير مع إغفال عناصر الانحطاط المتأتية من الفساد السياسي وفقدان العدل، وإنْ كان يشير في مواضع كثيرة إلى أن الظلم مؤذن بخراب العمران و«أنّ العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذٍ من أنّ غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم. وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك. وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب (…) فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران».
الحل البديل
يشير إيف لاكوست في كتابه عن ابن خلدون إلى هذا التناقض بين الدولة والقبيلة وبين الملك والأرستقراطية القبلية، ملاحظاً أنّ الحل البديل يتطلب تفكيك القبائل وبسط النفوذ ليكفّ التجار عن كونهم مجرد وسطاء، وينتقلون إلى وضع أيديهم على وسائل الإنتاج. وبالنظر إلى التناحر بين الأرستقراطية القبلية والأرستقراطية التجارية، فقد انعدمت تلك الشروط ولم يجد ابن خلدون من حلّ سوى الانطلاق إلى الأحكام الأخلاقية ومهاجمة دور «الحضر» باعتبارهم الشر المجسد في خراب العمران، بعيداً عن العصبية، والحال أنّ تجار الحواضر في حاجة إلى حماية.
_______
*الاتحاد