جمال القيسي
( ثقافات )
يستهين كثيرون بالطاقة الإنسانية على الحب والتي بإمكانها تبديد هالات من سواد الظلم وغيوم الغمّة، وتحويل قصص المعاناة إلى حالات وظواهر نجاح باهرة، ويوغل القساة بظلم أنفسهم أولا وظلم الآخرين حين يتركون أبناء جلدتهم لأقدارهم على سند ضعيف من القول إن كل شيء في الكون له رب يحميه. وعلى قدر ما في العبارة من سلامة في الإيمان العميق إلا أنها تغدو قولا استسلاميا متهربا من وقوف الإنسان إزاء مسؤولياته وواجباته الأخلاقية السادرة في غي النسيان بأننا – وبسهولة – من الممكن أن نكون على الجانب الآخر من المعادلة ؛ فماذا نحن قائلون حينها لمن يسلمنا إلى أقدارنا كي نتحمل وحدنا قبضة الزمن القاسية دون معونة أو طوق نجاة ممن سلموا من أنياب الدنيا وأنيابها الفاتكة.
أستذكر في السياق فيلم البعد الآخر THE BLIND SIDE الذي حاز على جائزة أوسكار وكتبه للسينما وأخرجه جون لي هانكوك وبرعت بدور البطولة فيه ساندرا بولوك ونالت عنه جائزة أفضل ممثلة، ذاك الفيلم الذي يصور طاقة الحب التي بإمكانها تحويل غير المتصور إلى حقيقة ملموسة وقهر الرتابة في فعل الخير لدى الأغنياء والمقتصرة على تقديم التبرعات من بعضهم مع إراحة النفس من “شر القتال” والعودة إلى صومعة النفس بتطمينها من حسد الفقراء بأداء ما عليها تجاه الإنسانية.
الفيلم القائم على قصة حقيقية من تأليف مايكل لويس في الأصل تتمحور في نداء الضمير لدى أم مسيحية متدينة رفضت إلا أن تستجيب لمسؤولياتها الإنسانية الوجدانية الحقيقية؛ فلم تحتمل سير فتى تحت المطر والبرد القارس فآوته في بيتها الفسيح رغم تذمر زوجها الذي ظن في هذا الفتى السوء وأن العائلة ستصحو على سرقته لبعض مقتنيات المنزل، ومرد ظنه لون بشرة الفتى السوداء، وهي النظرة العامة الخاطئة من بعض الأغنياء إلى أسمال الفقراء وفي أمريكا خصوصا والذين يرون في تلك الأسمال مشروع قاتل وسارق ومؤذ سيما إن كانت لذي بشرة سوداء.
يصحو أهل البيت باكرا على الركن السفلي من بيتهم الذي قضى فيه الفتى ليلته فيجدونه غاية في الترتيب وقد غادر الفتى البائس سريره ومضى، لكن الأم تدركه قبل أن يغيب وتعيده إلى دفء البيت وبإقامة مريحة ساقها له الحظ المبتسم له من غيابت العدم، ويوما بعد آخر يقيم الفتى بين أخ وأخت حقيقييَن ويحبهما قدر محبة الأخ لإخوانه ويغار عليهما بشدة.
ليس الفيلم هو الحكاية قدر ما يؤدي من رسالة درامية تشدد على أن الخير يسوق الخير وأنه مع طاقة البذل والعطاء تزهر أوراق الجمال في أشجار الكون بدلا من انطمار جذور الشجرة من أصولها في غور النسيان والإهمال، ورسالة أخرى تؤديها القصة بإتقان تتجلى في أن الإنسان المجبول على الخير وأصالته في النفس السليمة لن توقفه الصعوبات أو العراقيل التي تتصدى لتيار الفعل الجميل بدافع عدم استحقاق الطرف الآخر للمعروف، فقط لأنه محكوم بطبقة الفقراء والتي من الممكن أن تسيء لعالم الأغنياء وراحة بالهم، وأن هؤلاء الفقراء لا يمكن أن “يثمر معهم المعروف” مهما سمت نفوسهم أو تلقوا الرعاية والاهتمام من إخوتهم الأغنياء.
ثمة مشهد طريف مقصود لا ريب بحنكة ومكر يعلي من شأن سؤال الفقر في وجه الغنى غير المفهوم في نظر الفقراء الذين ينطق بحالهم الفتى وذلك حين يسأل الأب الذي ضمه إلى أسرته عما إذا كانوا يتناولون الطعام مجانا في أي من الفروع الثمانين لمطعمه الشهير؟! وحين يكون الرد الطبيعي بصحة تساؤله يقفز السؤال المحير في نفس الفتى المحروم والذي ينبت من معنى الجوع الحقيقي عن مصير الزائد من الطعام من وراء الزبائن وأين تذهب به إدارة المطعم! ويصمت السائل حين يعرف أن هذا الكم الهائل من المتعفف عنه في أفواه الأغنياء لا يجد طريقه إلا للتخلص منه في سلة القمامة.
ولكي نعكس التساؤل ملقين حجرا في بئر الماء الراكد عن علاقاتنا الأسرية الضيقة والتي يرزح تحت كاهلها الآباء والامهات غير قادرين على مزيد من الصبر تجاه ولد أو ولدين نرى عبر تفاصيل القصة أن طاقة الحب تلهم من يمتلكها القدرة والمِكنة على قبول من ليس من ظهورنا وبطوننا مع تصور رهيف بأن الحياة تتسع لكل البشر لو كانوا يمتكلون الحب!
الحكاية في الفيلم تذهب إلى أبعد من المادة بكثير ذلك أن الأسرة لم تهب المسكن والمشرب والملبس للفتى والذي جعله يتجاوز محنته النفسية، بل إن ذلك كله كان من الممكن الاستغناء عنه في الجانب الآخر من المدينة..الحكاية قالت إن الحب هو وحده الذي أنبت كل الطاقات الإيجابية في روح الفتى!
* قاص وإعلامي من الأردن