*عبدالله إبراهيم
ما وجدت من بين آلاف الكتب التي قرأتها مقدّمة مثيرة للعجب، والتأثير، والمخاتلة، كالتي وضعها “ثربانتس” لروايته “دون كيخوته” ففيها خالف أعراف الكتّاب في تدبيج المقدّمات بأن أفرط في ذم كتابه من أجل الإعلاء من شأنه، والتنصّل من نسبته إليه لتأكيد تلك النسبة، فكلما بالغ المؤلّف في بخس حقّ كتابه إنما يريد إضفاء الرفعة عليه، وكلّما زاد “ثربانتس” في وصف جنون الدون كيخوته، يكون قد وضع بين يدي القرّاء كتابًا رصينًا تتوافر في كاتبه شروط العقل، فبنفي الاتّزان عن الفارس النبيل تكرّست سمة التعقّل عند المؤلّف، وبرصف مساوئ الكتاب في الاستهلال تأكّدت عند القرّاء رغبة في تقديره. وقد أعرض عن الثناء على كتبه، بل وجده كتابا فاسدا لا يستحق الالتفات إليه، ومدخله إلى ذلك تصريحه بهجاء صريح لتقاليد الكتابة الشائعة في عصره من خلال المبالغة في إطرائها، فأضمر المدحُ في طياته قدحًا لا يخفى على أحد. لاحت مظاهر التهكّم في وصفه لكتابه عندما قارنه بكتب معاصريه، فما أن انتهى من تأليفه حتى جلس ينتظر الإلهام ليدبّج مقدّمة له، فراوغه الإلهام، وداوره متمنّعًا، وأبى أن يستجيب له “أشقّ ما صادفته هو كتابة المقدّمة”.
خارت قوى المؤلّف فهو غير قادر على قول أيّ شيء ذي قيمة يصدّر به كتابه. وكان أمله أن يخرج بكتاب يكون “أجمل وأروع وأظرف ما يمكن تخيّله”، لكنّه لم يقوَ على مخالفة نظام الطبيعة الذي “يقضي بأن يلد الشيء شبهه”، فماذا عسى “أن تلد قريحة عقيم فاسدة التهذيب مثل قريحتي، أللهمّ إلاّ تاريخ ولَدٍ جافٍ هزيل شاذّ مليء بالأفكار المتفاوتة لم يتخيّل مثله أحد من قبل؟”. وما دامت قريحة المؤلّف فاسدة فلا ينتظر منها أن تأتي إلاّ بكتاب يناظرها في الاضطراب والخلل، فهو وإن بدا إنّه الأب الحقيقيّ لكتاب “دون كيخوته”، لكنّه في الواقع لم يكن “غير أب زنيم”. إنّه أب دَعيّ غير مؤهّل للانتظام في قائمة المؤلّفين المعترف بهم.
شرع “ثربانتس” في إثارة نقمة القرّاء ضدّه وضدّ كتابه. وفيما هو يائس، وقد قرّر العدول عن نشر “الأعمال المجيدة التي قام بها ذلك الفارس النبيل”، زاره صديق” ذكيّ لطيف” وأخبره بألاّ يبالغ في أهميّة القرّاء، ويسرفَ في تقديرهم، فتلك مبالغة لا معنى لها، واحتفاء هم غير جديرين به، فكان أن أجابه عن حاله أمامهم، “بعد أعوام طِوال رقدتُ خلالها في صمت النسيان، وقد جئت اليوم حاملاً أعوامي على عاتقي، ومعي أسطورة جافّة جفاف عود الغاب، فقيرة من الإبداع، هزيلة الأسلوب، عارية من الأفكار، يعوزها التحصيل العلميّ والمذهب، خالية من الحواشي على الهامش ومن الشروح في الآخر”. أجمَلَ “ثربانتس” بهذه الشكوى عيوب كتابه حينما قارنه بالكتب الرائجة في عصره، وجلّها كان يوشّى بكلمات أرسطو وأفلاطون على نحو جعلها مصدر إعجاب القرّاء، إذ جاءت حافلة بآيات من الكتاب المقدّس، إلى درجة يُظنّ أن مؤلّفيها من أنداد القدّيس توما، ومن كلّ ذلك خلا كتابه، فلا وجود لما يُحشى به من هوامش، أو ما يُشرح في الآخر، وهو لم يقتبس عن مؤلّفين مشهورين ليورد ثبتًا بأسمائهم في مطلع الكتاب كما يفعل غيره، إلى ذلك ينقص كتابه “الاستهلال بالأناشيد” المنسوبة إلى المشاهير. ولكلّ هذه العيوب التي لا يمكن التغاضي عنها عقد العزم على إبقاء “السيّد دون كيخوته مقبورًا في أضابير محفوظات إقليم المانتشا، حتى تأذن السماء فترسل من يزيّنه بكلّ هذه الأشياء التي تنقصه”.
حينما أصغى الصديق الذكيّ إلى حجج “ثربانتس” ضرب كفًّا بكفّ، فقد توّهم بأنّ المؤلف صاحب حكمة ودراية، فإذا به يراه بعيدًا عن أن يكون كذلك “بُعد الأرض عن السماء”، فأنّى لتلك الأسباب الواهنة أن تعوق عقلاً ناضجًا مثل عقله، فليس ذلك القرار سببه قلّة المهارة بل الإفراط في الكسل. وما لبث أن وضع بين يدي صديقه جملة من حلول ناجعة، لو أخذ بها فسوف تجعله يعدل عن قراره في عدم “إذاعة تاريخ رجلك الشهير دون كيخوته، نور الفروسيّة الجوّالة كلّها ومرآتها”. ففيما يخصّ غياب الأناشيد والأهاجي والمدائح عن استهلال الكتاب، فعليه أن ينظمها بنفسه وينسبها إلى ما شاء من أسماء معروفة، ولو فُضح الأمر فيما بعد، وبان الكذب، وكشف الخداع، فلن تُقطع اليد التي كتبت ذلك.
ثمّ ينبغي عليه للاحتيال على افتقار الكتاب لأسماء المؤلّفين القدامى وأقوالهم أن يتصرّف في وضع عبارات مأثورة باللغة اللاتينيّة، ونسبتها للمشاهير، أو اقتباسها من الكتاب المقدّس، فلا أحد يمكن له كشف ذلك التزييف. وتُحلّ مشكلة الشروحات في نهاية الكتاب بإدراج أسماء الشخصيّات الشهيرة في المتن، وعليه في هذه الحال اقتباس ما شاء له من معلومات عنهم من الكتب الشائعة وحشو كتابه بها، فالمراجع المتوافرة عن كلّ ذلك لا تحصى. أمّا النقل عن المؤلّفين القدامى المشهورين، وهو “ممّا يرد في سائر الكتب، وينقص كتابك”، فعلاجه الاستعانة بكشكول جامع لكافة الأقوال المأثورة والاقتراض منه، بل ويمكن إدراج كلّ ما يحتويه ذلك الكشكول في كتابه، وحتى لو فُضح هذا السلخ الشائن، فينبغي على المؤلّف ألاّ يكترث له، إنّما عليه أن يزقّ كتابه بمزيد من تلك الأقوال حتى لو كانت غير مفيدة، فذلك “يضفي على الكتاب شيئًا من المهابة والتأثير”. فلا أحد يحفل بالتحقّق ممّا يسوقه المؤلّف في تضاعيف كتابه. ثم أن كتابه ليس بحاجة إلى تلك الزوائد والزخارف، لأنّه “هجاء لكتب الفروسيّة، وهي كتب لم يسمع بها أرسطوطاليس، ولم يكن عند شيشرون أدنى فكرة عنها، ولم يتناولها القدّيس باسيليوس بكلمة واحدة”.
وانتهى الصديق إلى مخاطبة المؤلّف: “ما دام القصد من كتابك ليس إلاّ كبح بل تحطيم ما لكتب الفروسيّة من تأثير وسلطان في عامّة الناس، فهل أنت في حاجة إلى استجداء أقوال الفلاسفة، ومواعظ الكتب المقدّسة، وأخيلة الشعراء، وخطب الخطباء، وكرامات الأولياء”؟ وإذ كان صمت المؤلّف يضمر جوابًا بالموافقة على الغرض من تأليف كتابه، فعليه أن يأخذ بنصيحة الصديق”اجتهد أن تكون ألفاظك بسيطة صافية أمينة حسنة السبك، وأن تكون فواصلك رنّانة، وحكايتك مسلّية موشّاة، وأن تكون معانيك مفهومة لا غامضة، ولا مضطربة”. أصغى المؤلّف الحائر إلى صديقه، فانطبعت كلماته في نفسه على نحو جعله لا يماري فيها، بل رآها “سديدة تستوجب الثناء”، حتى جعله يؤلّف منها استهلال الكتاب، فبأخذه في الحسبان تلك النصائح سوف يجد القارئ” قصّة دون كيخوته دلامانتشا الشهير بكلّ بساطتها وبغير خلط ولا التواء. وإنّ جميع سكان إقليم سهل مونتيل ليعتقدون إنّه كان أعفّ عاشق وأشجع فارس شوهد في هذه المنطقة طَوال عدّة سنوات”.
بعد أن كتب “ثربانتس” كتابه لجأ إلى واحدة من أمهر الخدع السردية التي ابتكرها، وهي التنصّل من كونه مؤلف الكتاب، فنسبه إلى مؤرّخ عربيّ يدعى “سيّدي حامد الإيليّ”، ولم يكتف بذلك إنّما شتم ذلك المؤرخ، واتّهمه بالكذب، والخداع، والتدليس، وهو انتقاص لا مضمون له، إنما خداع سردي يريد به الإشارة إلى نفسه؛ فاسم المؤلّف العربيّ الذي عزا إليه تأليف الكتاب، وهو “ابن الأيل”، إنّما هو إحالة على اسم “ثربانتس” الإسبانيّ Cervantes المشتقّ من Ciervo أي “الأيل الصغير”، كما رجّح ذلك المتخصّصون في الدراسات الثربانتسيّة، فقد كنّى عن نفسه بادعاء زائف، وتلاعب بدلالة الألقاب في اللغتين العربيّة والإسبانيّة ليمرّر خدعة سرديّة، فيكون المؤلّف قد أفرط في التزييف السرديّ ليضفي نوعًا من المصداقيّة على كتابه، وتقدير أهميته. ولا غرابة في ذلك؛ فأحداث الكتاب بمجملها تقوم على إثبات دعوى ونقضها على خلفيّة مبهجة من السخرية والتهكّم، فلا يُستكثر عليه أن يمدّ ذلك النسيج المتشابك من الادّعاءات المتعارضة إلى صلب موضوع تأليف الكتاب، وأوهم القرّاء بتفاهة كتابه، في المقدمة، من حيث قصد إلى إثارة فضولهم.
_________
*الرياض