*د. ابتهال عبدالعزيز الخطيب
كنت قد كتبت سابقاً عن موضوع اهداءات الكتب التي تصل من شباب صغار، هؤلاء الذين يثقلهم تدينهم بواجب انقاذ من يعتقدونه قد أضاع الدرب، فتجدهم محملين بنسخ متعددة من ذات الكتاب الديني، يدورون بها على مكاتب وغرف «الضالين»، يهدونهم النسخ حسنة التجليد وغالباً متعددة الألوان، يتركون خلفهم ابتسامات مغتصبة، ينتزعونها انتزاعاً من أرواحهم المؤمنة النافرة ممن أمامهم والمجبرة على رسم هذه الابتسامة كونها أداة من أدوات الجهاد، فكل العملية من أولها جهاد يتبدى في عناء الزيارة، اغتصاب الابتسامة، اجبار النفس على حديث لا يودونه ولربما لا يستطيعون مجاراته ولا تحمل تبعاته.
يرق قلبي عندما أراهم يقتربون بخفر من مكتبي، وكأني بهم في مهمة مقدسة سرية، يغلفونها بهذه الابتسامة ويخفون أهدافها بالحديث المتأدب الجميل. يبدأون عادة بمديح غير صادق، يشيرون إلى مقابلة هنا أو مقال هناك شرفوني بالاطلاع عليهما، ثم يتقدمون بالكتاب «الحل»، هذا المخطوط الذي سينقذني، مرفقينه بالجملة المعهوده «مجرد كتاب أود فعلاً معرفة رأيك فيه». أنظر في الوجوه البضة الصغيرة متخيلة ما يمكن أن يحدث لو أنني واجهتهم برأيي بعد القراءة، أراقب حركات الأيادي وتعابير الوجوه التي تنقبض وتنفرج، منتهية إلى الاسترخاء ما أن أقبل الهدية متخيلة ما يمكن أن يكون لو أنني أعلمتهم بنظرتي حول معنى وأبعاد هديتهم هذه. تصطبغ الوجوه العشرينية بلمحة انتصار، يستقر لديهم شعور قوي بالانجاز من حيث ضربهم لعصفورين بحجر، أعادوا إنساناً إلى جادة الصواب، وكسبوا الحسنات على قارعة هذا العمل الطيب، ومن ممكن أن يستنكر ضرب هذين العصفورين؟
يفوت هؤلاء الصغار فرق العمر والخبرة، تكاد فكرة المسؤولية الدينية وواجب هداية الآخرين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تضبب رؤيتهم تماماً عن معنى وتبعات اهداء كتاب يوعظ دينياً لأستاذ لهم في الجامعة، أو لأي شخص آخر يسبقهم في الزمن والعلم والخبرة. لا أدعي ان كل تلك تجعل من انسان أفضل من غيره، بالطبع لا، ولكن نقصها عند هؤلاء الشباب الصغير المتدين يجعل هذه الاهداءات الدينية الوعظية سيريالية المنحى خطرة المعنى، فمن خلالها يعلن هؤلاء الصغار الذين للتو بدأوا الحياة أنهم توصلوا إلى الحقيقة الكاملة، بل وأنهم، بمعية تدينهم وفقط تدينهم، أصبحوا في موقع يسمح لهم، ولربما يقسرهم، على هداية الآخرين وايصال الحقيقة لهم. كل ما يمتلكه هؤلاء الصغار هو شعور ثائر بالتدين، شعور كفيل بخلق مناضل ديني في كل منهم محمل بعبئ هداية الآخرين، شعور يوهمهم بامتلاك الحقيقة المطلقة، شعور يخلق نبياً مرسلاً في ضمير كل منهم، حتى وان قصرت سنواتهم عن استيعاب حجم المهمة وخطورة الرسالة.
كنت قد كتبت سابقاً عن اهداء من هذا النوع أتاني من فتاة منقبة في طور استكمال دراساتها العليا، اهداء كتاب هذا المقال أتى من شاب هو أصغر سناً يدرس في احدى كليات جامعة الكويت استكمالاً لشهادة البكالوريوس. الاهداء الأول كان كتاباً وعظياً سني المنحى والإهداء الثاني هو كتاب «علمي» شيعي التوجه يناقش قضية نظرية التطور وغيرها من النظريات العلمية ويعرج على حضارات سابقة في محاولة لدحض الإلحاد بحسب عنوان الكتاب. المثير في الموضوع أن الشاب «الموزع» لهذا الكتاب أكد أنه مؤمن جداً بنظريات الكاتب التي تكاد تكون كاملة تامة ولربما تصل لدرجة العصمة العلمية بحسب رأيه. كاتب الكتاب سيكون امام جديد، طبقاً لكلمات الشاب، وعليه فان ما يقدمه في الكتاب من آراء علمية ودينية لا يمكن أن تشوبه شائبة.
وفي حين أنه وبكل أدب جم طلب مني قراءة الكتاب وتقديم أي نقد علمي أو فكري له، الا أنه زرع بين كلماته ومن خلال أسلوبه إيماناً راسخاً بعصمة الكاتب، حيث بدا طلب القراءة أقرب للتحدي لاثبات عصمة هذا «الامام العالم» عن كونه رغبة حقيقية في تقييم مادته المكتوبة.
لا أدري كيف لشاب في القرن الواحد والعشرين أن يؤمن بعصمة بشر يحيا في زمنه ذاته، ولا ادري كيف ليافع أن يعتقد بامتلاك الحقيقة المطلقة وهو بالكاد يطرق باب الحياة وللتو يطل برأسه من شباكها نحو عمقها السحيق. وحده التدين الذي يقنعك بامتلاك الحقيقة المطلقة يمكن له أن يسبغ عليك مثل هذا الغرور، وحدها العقيدة التي تقنعك بتفرد الحق وأحادية شكله يمكن لها أن تغمرك بمثل هذه الثقة، فقط عندما تعتقد أنك على حق مطلق وغيرك على باطل مطلق يمكن لك أن تكون بهذه الجرأة، الجرأة على ادعاء المعرفة، الجرأة على دعوة غيرك رضوا أم أبوا اليها، الجرأة على المحاربة من أجلها. هو فقط هذا الاعتقاد الذي يتسبب لك بالعمى شبه الكامل، فلا ترى من الدنيا سوى موقعك، ولا تميز سوى «حقك» ولا تتعرف سوى على «حقيقتك»، يفوتك كل تنوع الدنيا وحقيقاتها المختلفة، تفوتك كل الأديان والتواريخ والآلهة الأخرى، ويبقى الحق حبيسك وأنت حبيس ما تعتقده حق. كم تصغر الدنيا عندما تتضخم «الأنا» وكم تضيق الحياة عندما تتسع ثقتنا بحقائقنا المفردة، كم نحن مخلوقات ضئيلة غريبة لا تستطيع تمييز أي حقيقة، حتى حقيقة ضآلتها التي تسد عين الشمس. كم نحن مخلوقات كوميدية محزنة.
_________
*القدس العربي