*وارد بدر السالم
كنعان مكيّة عراقي-بريطاني معارِض وناشط سياسي معروف صاحب كتاب “جمهورية الخوف”، الكتاب الشهير الذي فكك منظومة النظام القديم وأدانه بوصفه منظومة حكم دكتاتورية شمولية، وربما هذا الكتاب هو الأكثر شهرة بين كتبه السياسية الأخرى.
مكيّة أحد عرّابي الاحتلال الأميركي للعراق والداعين إلى الحرب عليه ومن المؤثرين في هذا المجال وله سمعته السياسية وصوته المسموع في الإدارة الأميركية ، لذا فمقبوليته على هذا الصعيد كانت مقبولية دولية حينما كانت أميركا تخطط لغزو العراق وإسقاط النظام وقد برع مكية، مع أحمد الجلبي، في إثارة الرأي العام العالمي بهذا الشأن.
لمكية تصريح معروف قال فيه للرئيس الأميركي بوش، “إذا ذهبت إلى العراق وحررته ستكون قنابل طائراتك في سماء العراق عبارة عن صعّادات نارية لطيفة ..”
هذا الرجل الناري والسياسي المعارض أصدر قبل أيام وعلى غير المتوقع رواية حملت عنوان “الفتنة” ألحقها بكتاب صغير أطلق عليه اسم “هوامش على كتاب الفتنة” أوضح فيه مصادر الفتنة الروائية بتبرير مفاده أنه “يخشى أن يُساء فهمه”، وهي نادرة تأليفية في عالم الكتاب أن يشرح المؤلف ما قد يلتبس على القارئ من سوء فهم أو تأويل في غير محله. إذن من سرديات السياسة الخائنة إلى سرديات الرواية بدا فيها مكية أنه يطرح رؤية جديدة عن أزلام معارضين سابقين كما بدا كائنا ملتبسا إزاء الأخطاء الكبيرة التي مارسها سياسيو العراق الجدد ليقول –روائيا– هذه المرة إنه وقع في خطأ استراتيجي، محاولا أن يقوم بدور آخر فيه من الجرأة والندم ما يوازي الفعل التحريضي الأول ليقدم اعتذاره لشعب عانى من الويلات والأوجاع على مدار تاريخه السياسي.
مكية السياسي في روايته أعياه الخطاب السياسي القديم فانجذب مع مدّ الرواية في “الفتنة” التي لم تكن فتنة سردية فنية لأنها قائمة على انفعال سياسي وشعور بالإحباط وقصدية توثيقية لمرحلة حرجة من عمر العراق أراد المؤلف فيها هجاء رفاقه المعارضين اللصوص الفاسدين.
الرواية في وجهها العام سِيَرية يغلب عليها السرد السياسي لكن من باب الفذلكة الروائية قوامها رسالة اعتراف بذنب فادح أوصلت مكية إلى قناعة أخيرة حينما اعتذر من الشعب العراقي “لأنني لعبت دورا قبل حرب 2003 لإضفاء الشرعية الدولية والعالمية على أولئك الذين كنا نسميهم طيلة التسعينات المعارضة العراقية …وهؤلاء لا يستحقون أن يحكموا أحدا”.
ليست مهمة الرواية الكاشفة لمجموعة معارضين عملاء لا يفهمون العمل السياسي ولا إدارة الدولة فانغمسوا في الخيانة والفساد وتعريض الشعب إلى أسوأ ما يمكن أن يمر شعب من دونية وانحطاط وشيوع العصابات الطائفية، ومع استدراكات الرواية لمقتل رجل الدين مجيد الخوئي عام 2003 تكون الفتنة رواية اعتراف سياسي بفشل المعارضة حينما تحولت إلى مجموعة ذئاب تنهش بعضها وتستأثر بالبلاد بطريقة اختزالية طائفية خائنة لخصها مكية “سقط الطاغية فأصبحنا مدمنين على إرثه: الخيانة”.
هذا الموقف الصريح وهذه اللغة السياسية التي تشفّ عن اختزال مؤلم لما وصلت الحال إليه يشيران إلى ذنب فادح من رجل عمل في السياسة المعارضة والثقافة السياسية في حقلها المضاد “أنا أشعر بالذنب الشديد اليوم..”.
يعلن مكية ندمه -روائيا- بشعور مؤلم يلاحقه من أنه أحد أسباب الخراب ومن ثم خيانة المعارضة للعراق وشعبه وتحويله إلى بلد فوضوي يستشري فيه الفساد مثلما تستشري فيه الجريمة الطائفية..
“الفتنة” وثيقة روائية صادمة لرجل مؤثر سياسيا اعتراه بعد 13 سنة شعور بالإحباط والذنب والخطأ الكبير أنه كان أحد مروجي الاحتلال لشعبه، لجماعات وعصابات طائفية حوّلت البلد إلى مسرح للدمار والجريمة والطائفية..
شعورك بالذنب واعتذارك المتأخر جاءا بعد خراب البصرة يا سيد مكيّة …كما يقول المثل العراقي..!
_____
*العرب