*محمد عبدالله البريكي
ثلاثة أيام فقط هي الفاصل بين الابتسامة والعتب الأخوي وبين كلمة “عطاك عمره” التي وصلت إليّ عبر اتصال حزين، بينما كنت مسافراً خارج حدود العمل .
ثلاثة أيام فقط هي الفاصل بين حضوره لافتتاح ملتقى السرد العاشر في الشارقة الذي أقيم بتاريخ 15 سبتمبر/أيلول ،2013 وبين رحيله عن كل هذه التفاصيل، وتلك الأحاديث الودية مع هذا وذاك في أروقة قصر الثقافة في الشارقة .
ثلاثة أيام هي الفاصل بين نيتي إخباره عن الفعالية المقبلة لبيت الشعر في الشارقة، وبين رحيله من دون اعتذار .
نعم . . لم يعتذر عن المشاركة، وهو الحاضر لفعاليات بيت الشعر باستمرار، وكانت إحدى جلساته في بيت الشعر أمسية جانبية قدم فيها مجموعة من الفواكه التي ربطها بعاطفة الأنثى التي تصدّرت غلاف ديوانه، جلس في مكتبي يقرأ بعضاً مما احتواه ديوانه الأخير الذي أحسست أنه يطير في فضاء الفرح بعد إصداره له، كتب لي وهو يهديني هذا الديوان “صديقي الشاعر المبدع محمد البريكي، هذا أنا أمام ذائقتك العالية، أرجو أن أرتقي 7/5/2013” ثم قال:
حين تكتبُ شعراً- توّضأ قُبيلَ القصيدةِ ثمَّ اخلعِ النعلَ وادخل إليها بباقة وردْ . . ولا تتيمم بجمرك إلا إذا جففَ القهرُ أنهاركَ الجارياتِ على شجر الروح أو حين تستمطرُ القلبَ والقلبُ يأبى . هو الشعرُ كاهنُنا الأبديُّ إذا ما
أقمنا الصلاةَ على حزننا أو على رغبةٍ في سياقِ الكلام .
كنت أستمعُ إلى هذه الكلمات وأنا أحصي ما يشير إلى الحالة النفسية التي يعيشها، فالجمر والقهر والتيمم للصلاة ثم الحزن، ربما هو اللجوء إلى الصلاة في لحظات الألم والوجع، ربما هي الفطرة التي في داخله أخذته من عالم عاش تفاصيله المؤلمة ليخرجه إلى عالم يندرج تحت كلمات خالدة “أرحنا بها يا بلال” ربما كان تشبيهاً فقط للشعر، لكنه حين يربطه بالصلاة فهو يعطي دلالة على ما يحمله في داخله من تقديس للصلاة، وأهميتها في إخراج الإنسان من مناخات تعصف بنفسيته إلى الهدوء والسكينة والروحانية .
هكذا يرى الشعر، وهكذا يلجأ إلى القصيدة ليبوح لها بما في داخله من وجع، وهكذا يلجأ إلى الكلام الذي يقول عنه: الكلامُ الذي طال مثل الزمان إلى أن غدا ماءنا والرغيفَ – رغيفُ الحكاياتِ من دمِ هابيل حتى أقاصي البُكاءِ بكاءُ البعيدين إن ذكروا الغائبينَ على وجعِ النأيِ حتى يصير الحنينُ أهازيجَ أُهزوجةُ الرعدِ حين تُغني السماءُ لماءٍ تسربَ من شِقِّها نحو جمرك .
لكنه وعلى الرغم من كل هذه المفردات التي تضج بها قصيدته، وعلى الرغم من كل هذا الجو المشحون بالكآبة والانكسار، والرحلة المتعبة المتعثرة خلف الرغيف الذي يسند جسده ليواصل الحياة والعطاء للشعر، تجده يقابلك بابتسامة شفافة، ويتحدثُ إليك بأريحية تنسيك مشاكساته وإيحاءاته بما يدور في داخله من عتب في بعض الأحيان .
لم يكن عاطف الفراية يعلم حين قابلته في ملتقى السرد عن الأمسية التي سيقيمها بيت الشعر له في أول شهر أكتوبر، ولم أشأ أن أخبره بها إلا قبل أيام قليلة من موعدها، لكنه للأسف لم يسمع مني هذا الخبر، ولم يعتذر عن المشاركة لأن أجله أتاهُ في ساعته المعلومة، وفاجأنا بغياب جسده الذي كان يتنقل بيننا، وبغياب ابتسامته وأحاديثه ومشاكساته، لم يبق لنا إلا تلك الذكرى الجميلة والشعر الذي نعود إليه بين فترة وأخرى، ليبوح لنا بما يعانيه كثير من الذين يشتغلون في هذا الحقل الثقافي من تعب، تعب يقول عنه عاطف الفراية رحمه الله: يا لظهري الذي مزقتهُ السياطُ بزنزانتي . . كان يلبسني واحد أتلقى السياطَ وآخر يلبسني ليعلق وهج النجوم على كتفيَّ .
________
* شاعر من الإمارات/ الملحق الثقافي للخليج