*نزار حسين راشد
( ثقافات )
لم تكن تربطني ب”جون” أيّة صداقة،التقيته صدفة أمام مكتب الاستقبال في الفندق الّذي أقيم فيه،كنت أتبادل الحديث مع فتاة نزيلة،حين مرّ جون فحيّاها ثُمّ توقّف،فقامت بواجب التعريف،صار يستوقفني كلّما صادفني في القاعة،أو صالة الطعام،يبدو أنّ لديه عادة استيقاف الآخرين،وتبادل أحاديث قصيرة معهم،عرّفني أكثر بنفسه،قال إنّه من جنوب إفريقيا وأنّه سعيد بالتعرّف على رجل أبيض مثلي،أيقظت عبارته”رجل أبيض” في نفسي توجّساً غير مريح،ربّما أغراه قميصي المفتوح بامتداح بشرتي البيضاء،أو ربّما كانت لديه نوايا أخرى ستكشفها الأيام!
بعد أيّام التقيت الفتاة،قالت إنّها ذاهبة لقّدّاس الأحد،وعرضت أن أرافقها إلى باب الكنيسة ثُمّ أقفل راجعاً،ضحكت مرحّبة،وفي الطريق رويت لها ما كان بيني وبين جون،ضحكت بمرح،وقالت:ألا تعرف أنّه عنصري متعصّب؟!اتّضحت الصورة في ذهني أخيراً،وصممت على إثارة الموضوع مع جون حين ألتقيه!
لم يطل انتظاري،كنت مستلقيّاً على سريري في غرفة الفندق،حين دقّ جرس التلفون،ولعلع صوت جون على الطرف الآخر،ألا ترافقني أيّها الرجل الأبيض،إذا لم يكن لديك شيء آخر تفعله؟سنذهب لإحضار زوجتي من المطار،وافقت على الفور،فقد تولّد لدي حبّ استطلاع لا يقاوم للتعرّف على هذه الشخصيّة العنصريّة الفريدة،وإذا كانت زوجته مثله،فستصبح اللعبة أكثر تشويقاً،فربّما تختلف عنصريّة الرجل عن عنصريّة المرأة!لنر أيّهما أكثر تطرّفاً؟!
لم يكن جون سائقاً بارعاً،وكان يضطرّ للإعتذار للآخرين عن قيادته المضطربة،كوننا في عاصمة أوروبية!
حين وصلنا إلى بوّابة المطار،كانت الزوجة واقفة على الرصيف،وما إن لمحتنا،حتى شرعت تلّوح بيديها،غمز جون بعينه وقال:دعنا نتجاوزها قليلاً!ستصاب بالرعب حقاً،كارول لا تحب المزاح،ولذا فأنا مصمم على إغاظتها!وما إن تجاوزت السيّارة موقفها بقليل حتى انطلق صوتها خلفنا:جون ..جون..ها أنذا!لم يواصل جون دعابته،داس على الكوابح،فتح الباب وترجّل،عانقها بشوق،لم أدر إن كان صادقاً أو عناق مجاملة،ولكنّ المرأة عانقته بانفعال،لا يفصح إن كان فرحة بالوصول أم شوقاً حقيقياً لجون!
أستطيع القول أنني أصبحت جزءاً من العائلة،كنّا نترافق في جولاتنا في هذه المدينة الباردة،تناولنا كثيراً من وجبات الغداء والعشاء،وتجوّلنا في شوارع كثيرة،ولكنّي تجنّبت مرافقتهما إلى المراقص”الديسكو”،حتّى لا أضطّر إلى مراقصة كارول،فقد كانت أطول مني بكثير،وتحسّباً رُبّما من أن يتفتّق جون عن رجل غيور،وتعللت بأنّي لا أحب الأجواء الصاخبة!انتهزت كارول هذا التصريح وقالت أنّنا سنذهب إلى الشاطيء احتفاءً بقدوم الصيف الّذي أصبح على الأبواب،بعد هذا الشتاء الطويل القارص،الّذي قضينا أواخره معاً!
في أحد المرّات تركني جون برفقة كارول،وقال إنّه مضطر للذهاب بخصوص صفقة عمل،وأوصاني بإعادتها إلى الفندق!
كانت هذه فرصة لأستطلع آراء كارول،وعلى وجه الخصوص موقفها من عنصريّة زوجها،وحين لم تتطرّق إلى الموضوع من قريبٍ أوبعيد،رأيت أن أدخل في الموضوع مباشرة،لم تُفاجأ كارول من حديثي،اكتفت بالإبتسام،وقالت إنّ جون يقول أشياء كثيرة لا يعنيها،ثُمّ عرّجنا على مواضيع كثيرة،وتبيّن لي،خلافاً لأغلب ظنوني أنّها ذات ميول اشتراكيّة،وأنّها من أنصار منديلا،وأنّ العنصريّة ستنقرض في جنوب إفريقيا عاجلاً أو آجلاً،لأنّها ضدّ طبيعة الأشياء،ثمّ أجابت عن سؤال لم أطرحه،كيفيّة تعايشها مع جون،قالت أنّ هذا شيء طبيعي في البيئة الجنوب إفريقيّة،حيث ينقسم النّاس في مواقفهم من القضايا،ولا يلبثون أن يغيّروا مواقفهم تبعاً لتغير الأحداث،ثُمّ عقّبت في ما أحسست أنّه مجاملة مقصودة:المسلمون في جنوب إفريقيا دائماً ضدّ العنصريّة،ليس يسبب لون بشرتهم،بل بدافع من عقيدتهم الدينيّة الّتي تُحرّم التمييز العنصري،ثُمّ سألتني فجأة:هل أنت متديّن؟!تردّدت برهة قبل أن أجيب بنعم،فعقّبت أنّ هذا شيءٌ جيّد!
لم أكن متيقّناً إن كانت تقصد ذلك فعلاً،أم أنّها مجرّد مجاملة،حرصاً على أن لا تجرح مشاعري!
كان في الجو رعشة باردة،وتولّى جون نصب المظلّة الّتي لا داعي لها،فقد كنّا في لهفة للقاء الشمس،الّتي كانت تحجبها السحب الخفيفة العابرة بين الفينة والفينة!
بعد قدحين من البيرة،توّرد وجه جون،خفّ تحفظه وصار أكثر تحرّراً ومرحاً،حتى أنّه علّق بمرح على امتناعي عن مشاركته الشرب:هل أحضر لك الرّضاعة؟عاتبته كارول بنظرة ولكنّه لم يكترث،واصل ثرثرته وتعليقاته،حتّى حمله طيشه أن يدعوني بالرجل الأبيض،ولأوّل مرّة في حضرة كارول!زمّت شفتيها بغيظ لم تحاول إخفاءه،وتوقّعتُ أن تنفجر في وجهه أو توبّخه بحدّة،ولكنّها لم تفعل من ذلك شيئاً،صمتت لبرهة ثمّ قالت موجّهة حديثها إلي:لم لا تخلع قميصك؟أم أنّك تخشى الإصابة بالبرد؟ولم تنتظر حتّى أبتّ في طلبها،اقتربت منّي وشرعت في حلّ أزرار القميص،ثم أنزلته من فوق كتفي وألقت به أرضاً،ثمّ صرخت في مرح:جون أنظُر!هذا رجل أبيض حقيقي!حتّى أنت لا تضاهيه بياضاً فجسمك يميل إلى الحمرة حتّى أنّه أقرب إلى اللون البنّي!انفتحت عينا جون الّذي أُخذ على حين غرّة،ولم يلبث حتّى ألقى بالكأس جانباً،ونهض في نزق،ثُمّ غادرنا بخطى سريعة دون أن يقول شيئاً!حاولت أن أنهض لأتبعه حتّى أسترضيه،ولكنّ قبضة كارول كانت محكمة حول رسغي،الأمر الّذي لم أنتبه له من قبل،قالت:دعه يتعلّم درسه،سيسخط قليلاً كالأطفال ثم يعود إلى حضن أمّه،وأشارت بسبّابتها إلى صدرها!أنا أعامله كطفل،هذا هو جون:مجرّد طفل كبير!
مرّت الأيّام ،ولم يعد أحدٌ منّا يتذكّر تلك الحادثة،وحزمت كارول حقائبها وعادت إلى جوهانسبرغ،ودّعتني بمصافحة وقبلة دافئة على الوجنة،ولم يتورّع جون عن القول:هذه المرأة تميل إليك!وعلّقت بدوري:إنّها أم أكثر من أي شيء!ووافق جون على مقولتي بهزّة من رأسه!
بدا جون بعد رحيل زوجته،وكأنّه أسقط قناع الجدّية والرصانة،بدا أكثر حركة وحيويّة،وصار يخرج كثيراً دون أن يدعوني إلى مرافقته وكان هذا بالفعل أمراً غريباً،فجون لايطيق الوحدة بطبعه!
مضت أيامٌ على هذا النحو،حتّى جاء جون ذات صباح،وألّح عليّ في مرافقته،كان متحمّساً فوق العادة،الأمر الّذي أثار فضولي فرافقته بعد أن أوشكت على الإعتذار!وكان من الواضح أنّه لن يقبل بالرفض!
تمشّينا ببطء باتّجاه محلّات عرض الملابس،في الشارع الواقع خلف الفندق مباشرة،خلافاً لمألوف عادته،ظلّ جون صامتاً،وخمّنتُ أنّه يكظم في دخيلته أمراً ما،لعلّه سيصارحني به في اللحظة المناسبة!ذرعنا الشارع جيئةً وذهاباً عدّة مرّات،كان ذلك أيضاَ خلافاً لعادة جون،الأمر الّذي أكّد شكوكي،أنّ في الجوّشيء مريب!
قبالة أحد واجهات العرض،وقفت فتاة سوداء بوجه سمح وملامح جميلة،كأنّما رسمت بشكلٍ متقن،كانت الفتاة تخالسنا النظر،وكان هذا سلوكاً طبيعياً لفتاة شابّة تستطلع ما يجري حولها!
لفت جون نظري إلى وجود الفتاة ثُمّ سألني فجأة:كيف تجدها؟!جذّابة:قلت!حقّاً ؟عقّب جون !بلا أدنى شك:أكّدت وجهة نظري!هل هناك ما يمنعك من الزواج بها؟كونها سوداء مثلاً؟…هذا لا يثيرعندنا أية مشكلة!هذه عقدتكم أنتم العنصريون لا نحن!قلت ممازحاً!اصمت بالله عليك،ثار جون في وجهي،وكأنّما لامست وتراً حسّاساً!
عدنا أدراجنا إلى الفندق،وانقطع حديثنا من هناك،حول الفتاة والعنصريّة!
في المساء،وأنا أتهيّأ لمغادرة الغرفة،رنّ جرس التلفون،قال جون أنّه سيقابلني في الكافيه،لا بأس قلت!كان جالساً إلى طاولة ركنيّة،عاقداً كفّيه في قلق بادٍ يطلُّ من سحنته بلا مواربة!إجلس:قال!وخمّنت أنّه سيبوح لي بشيءٍ ما!أنت لست رجلاً أبيض:قال وقد لمعت في عينيه نظرة غريبة!ولم أدرك ما يرمي إليه فقلت مازحاً:ما على هذا اتّفقنا!اصمت:قال بحدّة:أنت لا تفهم شيئاً،وأردف قبل أن يترك لي مجالاً للدهشة:تلك الفتاة السوداء في السوق،هل تذكرها؟!،ماذا بشأنها:أجبت؟
هذه هي الفتاة الّتي أحب،هي حبّ حياتي،لقد أحضرتها من جوهانسبرغ،ودفعت تكاليف سفرها وأنزلتها في الفندق،وخنت زوجتي معها،وقبّلت قدميها حتّى،إنّها ليست مسألة جنس يا صديقي…لا..لا..لا..لقد كسرت كل حدود العنصريّة..أنا الرجل الأبيض اللعين،العضو في حزب بوتا اللعين الآخر ..هل تعرف ما هي المشكلة الآن؟المشكلة أنني كنت مؤمناً بوهم،وهذه الزنجيّة اللعينة قد أصبحت سيّدةً لي،لقد انقلبت الأمور يا صديقي،وكل ما قاله موغابي اللعين وبعده مانديلا اللعين كان حقّاً!أتدري ما المشكلة الأخرى؟لو عرفت كارول،ولا بُدّ أنّها ستعرف في يوم ما،ستسخر منّي!سيثبت أنّها كانت على حق هي الأخرى!لو أشهرت مسدّساً وأطلقت عليّ النار انتقاما لشرف العنصريّة،لكان ذلك هيّناً،ولكنّها ستمد ساقيها وتضحك،هل تعرف ما يعنيه ذلك يا صديقي؟بالطبع أنت لا تعرف!لأنّك لست رجلاً أبيض،وأنا هنا لاأتحدّث غن لون البشرة!بشرتك أكثر بياضاً منّي كما قالت كارول،هل تذكر؟
استرسل جون في حديثه،ثمّ انخرط في البكاء،التفتُّ فجأة !كانت الفتاة السمراء واقفة فوق رأسه وكأنّها تمثّلت فجأة،انحنت فوقه ووضعت راحتها فوق يده!ابتسمت لها وتركتهما وانسحبت!