دوريس ليسنج.. المتصوفة


*نصر عبد الرحمن


دوريس ليسنج، ظاهرة أدبية متفردة في تاريخ الأدب، أنتجت مشروعاً روائياً ضخماً، وشديد التميز على مدار أكثر من نصف قرن، واستحقت عنه جائزة «نوبل» في الأدب عام 2007. اتسم مشروعها برؤية سوداوية للعالم، ورسمت في أغلب روايتها عالماً متحللاً أو على وشك التحلل، تواجه شخصياته مصيراً مجهولاً، وتعيش حالة كابوسية ضاغطة، يسيطر عليها العنف والفوضى. أما على المُستوى الشخصي فقد كانت ولا تزال لغزاً مُحيراً، ومادة لكثير من الشائعات والأخبار المُتضاربة التي استمرت حتى بعد وفاتها. ربما كان السبب في ذلك أنها شخصية مُتعددة الجوانب وشديدة العُمق والتنوع إلى حد التناقض أحيانًا. 
ولدت «دوريس» في إيران، ثم انتقلت مع أبويها إلى جنوب إفريقيا أو «روديسيا»، كما كانت تُعرف في ذلك الوقت. عاشت تجربة عائلية مريرة، شاهدت فيها سطوة الأب على الأم، وفي ذات الوقت عاينت عن قرب بشاعة التفرقة العنصرية والسطوة من ذوي البشرة البيضاء على أصحاب الأرض الحقيقيين. لم تسبب لها تجربة الزواج سوى المزيد من الإحباط وتأكيد قناعتها الأولى بشأن الظلم الذي يسود المُجتمع ويقع أغلبه في النهاية على كاهل المرأة. تكونت لديها قناعات راسخة نتيجة هذه التجارب المريرة، وانعكست في مشروعها الأدبي بوضوح تام بعد ذلك. اشتهرت «ليسنج» باعتبارها كاتبة نسوية، حتى إن لجنة جائزة «نوبل» وصفتها بتقديم «التجربة النسوية على نحو ملحمي»، لكنها رفضت هذا الوصف، كما رفضت من قبل اعتبار النقاد روايتها «الدفتر الذهبي» بوقاً للدفاع عن حرية المرأة.
ورغم أنها كانت صاحبة مشروع سياسي، وانضمت إلى الحزب الشيوعي البريطاني، إلا أنها لم تكتب أعمالًا فكرية، واكتفت بالرواية كأداة للتعبير عن كل أفكارها. ولم تكن أعمالها انعكاساً مباشراً لأفكارها، فقد اتسمت موضوعات رواياتها بالتنوع والاتساع، وعرضت عدداً كبيراً من الأفكار من بينها الإحباط من الحياة الاجتماعية، والتفرقة العنصرية، والتقدم في العمر على المستوى الفردي وعلى مستوى البشرية.. هناك بون شاسع بين التفاؤل الاشتراكي بغد أفضل ونزعتها المُتشائمة بشأن مصير البشرية، وهناك فجوة كبرى بين الانتصار الجمعي أيديولوجي الطابع.
ورغم الروح التشاؤمية التي تسود أعمالها، هناك خيط رفيع وقوي من الإرادة الفردية التي تحاول مواجهة آثار وتبعات دمار العالم. إرادة صلبة مُسلحة بروح إنسانية، لا تستطيع تغير الواقع أو رأب الصدع في جسد العالم، ولكنها قادرة على التعايش والبقاء. كما تعمل هذه الإرادة الفردية الخاصة في مواجهة الشيخوخة والعجز البيولوجي، وتجعل أصحابها قادرين على الاستمتاع بالحياة. 
لقد جاءت هذه الفكرة، التي أحدثت اتزانًا في أعمالها، نتيجة تأثرها بالتصوف الإسلامي، وهي تختلف عن الفكرة السائدة في الثقافة الغربية عن البطل الفرد القادر على المُواجهة والانتصار. تقدم «دوريس» فردًا عاديًا بلا إمكانات خارقة -جسدية أو روحية-، ولكنه يستطيع تنمية قدراته الروحية وتطويرها، لكي يتغير ويتمكن من مواجهة الواقع العاصف أو التحديات الكارثية. لقد سعت «دوريس» إلى تعميق معرفتها بالروح الإنسانية، ولم تتوقف عند حدودها المعرفية الأولى، وواصلت البحث والتنقيب، وكان التصوف الإسلامي أحد تلك العوالم التي جالت فيها. ترى «ميوج جاين»، المُحاضرة بجامعة أوهايو ستيت ومؤلفة كتاب الصوفية في أعمال دوريس ليسنج، أن نشأة «دوريس» في إفريقيا جعلتها أكثر تقبلاً للأفكار الروحية، وأنها حملت تلك الأفكار معها إلى لندن، وكانت تتحدث مع من تعرفهم عن الدين الإسلامي والأفكار الصوفية، كما تحدت القرّاء في الغرب، وطرحت عليهم التفكير في التصوف كبديل مُحتمل لنمط الحياة الغربية. كما ترى أن هناك إغفالاً لفكرة التصوف في أعمال الكاتبة، رغم أن انتماء «ليسنج» للتصوف الإسلامي منذ نهاية الستينات لم يكن سراً، وأشارت إليه بحماس شديد في أكثر من مناسبة. 
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إنها اعتمدت في كتاباتها على بعض الأفكار الصوفية المُستقاة من كتابات «إدريس شاه»، وهو أحد أشهر دُعاة الصوفية في بريطانيا في الستينات، وأصدر عشرات الكُتب، ودخل في معارك فكرية كثيرة. كانت «ليسنج» من أشد مؤيديه والمُدافعين عنه، وقالت في مقابلة لها عام 1981: «أرى أن الصوفية التي يتحدث عنها إدريس شاه مناسبة لهذا المكان وهذه اللحظة». وعند وفاته عام 1996، قالت لصحيفة «تيلي جراف» إنها سعت إلى مقابلته بعد أن قرأت كتابه «المُتصوفون»، الذي يُعد أكثر الكتب التي قرأتها إثارة للدهشة، وأن الكتاب غيّر حياتها. قالت عنه «ليسنج» إنه ظل صديقها ومُعلمها لمدة ثلاثين عامًا، وأنه رجل مُتعدد الجوانب، وأكثر من عرفتهم حكمة وكرمًا وتواضعًا، ثم وصفت مُجمل أعماله بأنها «ظاهرة فريدة لن تتكرر في زمننا». كان «إدريس شاه» يعتمد على الحكايات الرمزية والقصص القديمة في طرح أفكاره من أجل ترسيخها، وهي تقنية اعتمدت عليها «دوريس» كثيرًا، وقامت بتضفير بعض القصص والحكايات الشعبية في السرد.
قالت «ليسنج» ذات مرة: «لدي ميل شديد نحو الصوفية حتى حين كنتُ أعمل بالسياسة. الصوفية مزيج فريد من الأفكار»، ودرست الصوفية الإسلامية بحماس شديد، رغم أنها لم تغير من قناعاتها أو مواقفها السابقة لتعميق فمهما للإنسان. وكانت ترى أن هذا يزيد من قدرتها على استيعاب البشر على الكرة الأرضية، ويساعدها على تخيل أشكال أخرى للحياة على الكواكب الأخرى، أو تصور ردود الفعل البشرية في عالم على حافة التفسخ، وهل لديهم القدرة على مواجهة هذه اللحظة التي تفقد فيها البشرية رصيدها من العلم والمنطق. وهذه الفكرة تحديداً هي ما جعلتها ترسم بعض شخصياتها بقدرات خاصة، ورغبة في التغلب على الواقع من خلال التأمل الصوفي.
رأت «ليسنج» في التصوف طاقة روحية تمنحها الهدوء والثقة في عصر حافل بالصراعات السياسية، وتسوده أفكار شتى عن نهاية العالم سواء بتغير مناخي يؤدي إلى عصر جليدي جديد، أو حرب نووية تنهي الحياة على هذا الكوكب. وهناك شخصيات في عدة روايات لها تتعامل مع مشاهد فناء العالم بنفس الهدوء وتحاول بث الطمأنينة في الآخرين، ومنها رواية «مدينة الأبواب الأربعة» عام 1969، ورواية «مذكرات ناجية» عام 1974.
وفي مُحاضرة لها عن التصوف، أشارت «دوريس» إلى أن الإنسان يحط من شأن نفسه ولا يُدرك إمكاناته الحقيقية. وأن العلاقة بين الإنسان وربه لا تحتاج إلى وسيط، بل تحتاج إلى خبرة شخصية خاصة، يمكن أن يطورها الإنسان كما يفعل المتصوف في سعيه للتقرب من الله. ولقد ظهرت هذه الفكرة مع عدد من شخصياتها الروائية التي تبحث بداخلها عن طريقة للتطوير الذات من أجل النجاة والهرب من عالم يتفسخ وتتداعى أركانه.
طورت «ليسنج» هذه الفكرة في بعض رواياتها بدمج الفرد في مجموعة ومُحاولة تنظيمها، حتى وإن اتسمت بالعشوائية والبدائية أحياناً، كما رأينا في مشهد العصابة المتماسكة، التي تعمل وفق نسق ما، لمواجهة شُح الموارد والأخطار التي تهدد من كُتبت لهم النجاة من كارثة دمرت العالم في رواية «مذكرات ناجية». ويمكن أن نلمح تمايزًا في رؤية «ليسنج» عبر هذه الرواية بين الشباب والعجائز. تحاول الشابة «إيملي» أن تنزل إلى الشارع وتواجه المخاطر وتحتك بالعصابة وتمارس نوعاً من البطولة الفردية، بينما تقوم الراوية، سيدة كبيرة السن لم تضع لها المؤلفة اسمًا، بعملية تأمل قوي (صوفي الطابع) في أحد جدران الشقة، حتى تتمكن من تغيير المكان والزمان.
______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *