الإنسانيون الجدد: تزاوج العلم والأدب


*لطفية الدليمي


منذ أسطورة دلمون وملحمة كلكامش ومرورا بالتراجيديات الإغريقية وصولا إلى البنيوية والتفكيكية ومذاهب ما بعد الحداثة، ينحو معظم نتاج الثقافة الإنسانية الأدبي باتجاه التشاؤم وتسفيه الأحلام البشرية وتقديم النذر بقرب النهايات الفاجعة وترثي النظرةُ اللاهوتية في هذا النتاج الفراديسَ المفقودة بسبب من خطايا البشر بينما تعزوها الأدبيات السياسية إلى صراع الإرادات عبر العصور العولمية الخمسة كما وصفها صموئيل هنتغتون في أطروحة “صراع الحضارات” المختلفة التي يسعى كل منها إلى التسلط والتحكم بالمكان والزمان عن طريق الصراعات والحروب والهيمنة السياسية والاقتصادية.
وينذر الأدب التشاؤمي من مستقبل مخيف للإنسانية بسبب التقدم العلمي العشوائي كما في أعمال جورج أورويل صاحب “مزرعة الحيوانات” و”1984″، واج. جي ويلز في روايته “آلة الزمن” المنذرة بمصير فاجع للبشرية، وبعدها غلبت نظرة التشاؤم هذه على معظم الأدبيات الإنسانية بما فيها الفلسفة والأدب والفنون والسياسة وعلم النفس، واشتغل كثير من الفلاسفة والمفكرين على ثيمة التشاؤم بل وكرّس بعضهم ما يشبه “عقيدة” التشاؤم كما فعل شوبنهاور ونيتشة واشبنغلر، ويمكن أن نضيف إليهم المفكر الروماني الأصل فرنسي الثقافة إميل سيوران ومعظم مفكري وفلاسفة ما بعد الحداثة.
يرى الروائي البريطاني تشارلز بيرسي سنو أن البشرية تملك ثقافتين منفصلتين هما ثقافة المعنيين بالآداب والفنون والإنسانيات وتقابلها ثقافة المشتغلين بالعلوم الطبيعية الكيمياء والفيزياء والرياضيات والبيولوجيا، ويشير إلى وجود فجوة شاسعة بل وقطيعة كاملة بين الثقافتين والعاملين فيهما وفي الفراغ الحاصل بين الثقافتين لا بد من ظهور ثقافة ثالثة كما طرحها بروكمان في كتابه “الإنسانيون الجدد-العلم عند الحافة” تقرّب بين نوعي الثقافة الإنسانية والعلمية فيستفيد الإنسانيون من العلماء مثلما يستفيد العلماء من الإنسانيات ويحدث نوع من الاتصال والتفاهم للتقريب بين اشتغال المخيّلة والعلم التجريبي .
وظهر في كلا الثقافتين مفكرون يجمعون بين العلوم الصرفة والثقافة الإنسانية وهم من يطلق عليهم رواد الثقافة الثالثة، ويقوم هؤلاء بتقريب العلوم بصورة مبسطة للجماهير ويقدمون إبداعا مميزا لثقافة عامة تجمع بين الأدب والعلم وينشرون أبحاثهم وكتاباتهم في كتب شعبية ووسائل إعلام مختلفة فينال الجمهور قدرا وافيا من المعرفة العلمية التي تعينه على التفكير بمنهج علمي، ويؤدي هذا التفكير المنهجي إلى تفهّم التطبيقات العلمية المتواترة، وعلى الجانب الآخر بدأ عدد من الأدباء والمعنيون بالثقافة الإنسانية بالاهتمام الجاد بالعلوم على نحو شبه موسوعي وقد أطلق على هذه الفئات المنبثقة من الثقافتين الإنسانية والعلمية مصطلح “الإنسانيون الجدد”.
يرى بروكمان في العلم تفاؤلا تفتقر إليه الثقافة العامة، فالعلماء لا يتشاءمون بل يمضون قدما لاكتساب المزيد من المعلومات الجديدة ومعالجتها، فكما يحدث في كل 18 شهرا أن تتضاعف قدرة الكمبيوتر على المعالجة نجد أن العلماء يكتسبون المعلومات الجديدة على نحو أكثر تسارعا، مما يجعلهم عمليا سادة التفاؤل على الضد من الأدباء والشعراء وبعض المفكرين الرافضين للتفكير العلمي ممّا شجع نظرة لاعقلانية وظلامية في المجتمعات وحتى لدى قادة دول كبرى.
ولعل منبع الكثير من تفاؤل العلماء يعود إلى كونهم يعملون في العالم التجريبي المبنيّ على الواقع فليس هناك عقيدة ثابتة أو حقيقة مطلقة أو موقف لا يقبل التغيير فتدور تجاربهم حول الكون والعلوم العامة بينما ينحصر عمل المتخصصين في الإنسانيات حول “الآخر” والعلاقات الإنسانية وتفرّعاتها ومشكلات الحكم والاقتصاد وصولا إلى تخوم التنازع والتواصل بين البشر المنخرطين في موقف يهمّش العلم والعلماء.
_______
*العرب

شاهد أيضاً

ليست مرثيّة لإميل حبيبي

(ثقافات) ليست مرثيّة لإميل حبيبي: الإنسان في جوهره مرزوق الحلبي عندما اتخذ الحزب الشيوعي قرارًا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *