حسين سليمان
يشير كارل غوستاف يونغ إلى أن الإنسان كانت لديه فرصة كبيرة في اكتشاف العالم، من خلال المكوّن النفسي الذي يملكه وليس العقلي الذي تجلى في العلوم النظرية والتطبيقية. كان قد توقف منذ فترة بعيدة عن التعرف إلى العالم من خلال البصيرة والحدس والإلهام الشعري، التي لم تكن في يوم من الأيام عبثا ولا فوضى، بل لها أقانيمها وتخومها.
وكان في ما بعد، في مكان آخر، قد قال عالم فيزيائي هو ريتشارد باينمان ما يتقارب مع ما ردده يونغ، لكن باينمان أوضح الأمر بتفصيل آخر يداور العقل إلى النفس، قال: حين تنتهي الفيزياء يبدأ الفن. وما الفيزياء إلا العقل وما الفن إلا النفس، إلا أن كلامنا هنا ليس دقيقا، ذلك لأن اكتشافات كبرى في العلوم تحققت من خلال البصيرة ومن خلال الحدس والأحلام، ومنها النظرية الموجية لشرودنجر. قبل أن يضع هذه النظرية الكبرى في علم الكم كان قد مر بحالة وجد نفسي وسُـكرانِ مع خليلته.
أصدقاؤه العلماء إن تعقدت توقعاتهم النظرية أو انهارت، يذهبون إلى الطبيعة، بعيدا عن عالم المدن، للتأمل وتشذيب الروح ومناشدة الإلهام، وهي حالات الفنان الشاعر الذي يفعل ما يفعلونه قبل أن يحقق منجزا إبداعيا كبيرا. لعل النفس هي الأصل في الإبداع الأدبي، ولها المكانة الأولى في الاكتشافات العلمية، من باب أن الإيحاء لعمل إبداعي، علمي أو أدبي، إنما ينبعث عن أعماق النفس وليس عن العقل الذي يحسب ويبني، يستقرئ ويستنتج. هذه الأفكار كانت قد بانت بجلاء منذ زمن لكن التنويه إليها والعودة مرة أخرى إلى مضامينها يرشدنا إلى إدراك وقراءة العالم من منطلقيه الإبداعي والعملي.
لا وجود للحقيقة كجوهر في هذا العالم، وهي ليست من مملكة الإنسان ولا من مملكة الكون، إنها فكرة متذبذبة متحولة أنتجها الإنسان. هي اعتقاد راسخ وإيمان قاعدته قائمة على الوهم. هذه القاعدة (الوهمية) هي الهبة الكبرى التي نملكها، فلولاها ما أنتجنا أديانا مختلفة على مر التاريخ ولا كنا أنتجنا أفكارا فنية وعلمية تناقض بعضها بعضا، على مر الزمن. كانت الأرض لا تدور ومن هذا الثبات جاءت فلسفات وأديان وفنون وسحر وعلوم، ثم دارت الأرض فتغير كل شيء. أصبح الرسم ثلاثي الأبعاد ونأى الله عن السماء، وأصبح المؤمن يشير إليه على أنه داخل الإنسان، في قلبه.
وتغير كذلك الأدب وراح يجوب الأبعاد القصوى غير المألوفة. إن الكون يعتاش على الموسيقى، والذرة الصغرى كذلك تحيا بالموسيقى وما يجري فيها لا تدركه العقول التي نشأت النشأة التقليدية أمست هذه العقول مقادة وتلعب دور التابع المستهلك غير المنتج- والإشارة إلى الموسيقى هي الإشارة إلى النفس، إلى الفنون والآداب التي تقف وراء تخوم العلوم (النظرية والتطبيقية). وهذه تتم ولادتها من المنبع الذي تولد منه العلوم الأخرى، إلا أنها أكثر حرية وأشمل وأوسع، وما يحرك العالم بشكل فعال هو تلك الأعماق وليست تلك التي نراها في فضاءات الميديا وصفحات الدعاية والإعلام.
إحدى الأدوات التي ما تزال تشغل فكر الإنسان هي السحر وفعاليته وواقعيته، ذلك المجهول الخرافي، الذي يقوم على مبدأ التشابه في درجاته البدائية، وينتهي بدرجات متقدمة في كل من الكلمة والعدد ، أما الكلمة فهي (الله في الكتب المقدسة وهي «كن فيكون» في الإسلام) وأما العدد هو المخزون في مصفوفات ثنائية وثلاثية ورباعية… تشابه إلى حد بعيد مصفوفات «هايزنبرغ» التي توضح طبيعة التحول الذري. حين اقتبس هايزنبرغ هذا التطبيق لم يكن يعلم أنه أحد تطبيقات الرياضيات العالية، نسق أفكاره التي تفسر التحول الذري على شكل أعداد متراصفة اعتبرها العلماء آنذاك فوضى وهذيان، وكان يجب أن يمر وقت كي يدركوا نظرية هايزنبرغ التي وضعتهم في حيرة وريبة من مبدأ الحتمية.
العلوم والأديان والفنون والسحر هما نتاج خلاق للإنسان لتفسير العالم والتحكم به، وكان السحر المكتوب بلغة الطلاسم هو الخيال الأبعد لأماني الإنسان، طي ظاهرتي الزمان والمكان والقدرة على استشراف المستقبل، وبالتالي إزاحة الأعداد في مصفوفة الصيرورة (صيرورة هايزنبرغ) إلى الشكل الذي يحبذها ويرغبها المرء. كانت هذه الخطوات في ما بعد قد غلب عليها طابع الشعوذة والاحتيال وهو طابع شبيه بالذي يفعله المرء اليوم في اتباعه الجاهل للأديان فيحرفها ويفسرها كما يرغب، ما يجعل الأمر مشابها لما طال عالم السحر. السبب كما يبدو هو الابتعاد عن الأعماق، انحسار الحرية وانعدام الصدق مع الذات…
يبحر الأدب في عالم الخيال، الذي بواسطته يتم الاتصال مع الكائن الإنساني الضائع، مع الكلمة، مع الوجدان، ذلك قبل أن يُسن تشريع وقبل أن تقام حدود، وهو حلم الكائن المتعب الذي حمل أكبر مما تحمل قدرته، وكان الأدب كما الفنون الأخرى، صورة وانعكاسا لما كان يجب أن يكون عليه الواقع، ولهذا فهو، خلقٌ للكائن الآخر في ديمومة الحياة استعارة تفاصيل الواقع كي يعاد اكتشاف خيارات الحياة المتعددة، الخيارات غير المحققة. بهذا فإن ساحة واسعة تنكشف، يـُلقى فيها الضوء على الكائن الإنساني متعدد الأوجه الذي مازال يعيش كذبة الإنسانية الكبرى، وما انتهى إليه من عاداتها وتقاليدها وتعاليمها. إن كان السحر البدائي قد بدأ بالتمثيل والتشابه، فكذلك الأدب، شعرا ومسرحا ورواية، يلعب فيهما التمثيل والتشابه دورا رئيسا ليرتقي بعد ذلك إلى مدلولات رمزية كثيفة المعنى، تنحو وجها آخر تراكميا، لن تقول، بل ستؤكد على تحول العالم كما تأمل. إلا أن الأمر يبدو هنا شديد الميتافيزيقية، يسمح لنا بأن نسأل السؤال التقليدي، إن كان الأدب بالفعل يؤثر في الواقع، في المجتمع؟
الجواب عن هذا السؤال لن يكون بالبحث عن تأثير الأدب في العالم، بل بالعكس، سيكون، أكثر وضوحا، حينما نتوهم برفع الأدب والفن عن العالم، وتدريب الإنسان على أن يعيش من دونهما، من دون الوجدان والمزاج اللذين يساهمان في الأصل بإعادة التوازن الذي اختل دوام حياة معتادة، مألوفة، لها حد وقانون. من دونهما، من دون الأدب والفن، سيظهر إنساننا المشوه، أشد بشاعة وأكثر آلية وغطرسة. وهو ما نراه في كثير من المرات في الحروب وفي ثنايا السياسيين الذين أداروا ظهورهم لما كان يجب أن يكون عليه العالم.
قوام الأدب والفنون كانت قد قالته كتب الأدب والفن، التي تحاول التأكيد على وجود العالم غير المصنوع، غير العقلي، السحري الروحي، من دون زمن. يصرخ «بركتور» في مسرحية «المحنة» لآرثر ميلر قائلا لرجال المحكمة الذين اسقطوا عليه تهمة الإلحاد: إنكم تنزلون السماء إلى الأسفل وترفعون العهر إلى العلى! هذا هو دور الأدب، أن ينظر النظرة المصححة إلى العالم الذي يتم تشويهه، وما على الأدب والفن إلا أن يعملا بشكل دائم كي يصححا هذه التشوهات الخلقية والوجدانية للعالم. هذه الجملة تشير إلى أن الأدب ينظر إلى عالم مقلوب معكوس، يرى الصورة الأخرى، الحقيقية القابعة عند الشاطئ الآخر. يتوهم العالم الآخر كي يحوله إلى عالم ملموس.
——
القدس العربي