*نوري الجراح
هل يمكن لروائي أن يكتب روايته عن حدث إنساني مهول بينما الحرائق تكتب الأقدار البشرية؟ كيف يمكن للكاتب أن يكتب أدبا روائياً بينما العواصف تأخذ كل شيء وتأتي على كل شيء ولا تبقي سوى الدم حبرا للكتابة؟ كيف يكتب الروائي الكلمات في الأزمنة العاصفة ويصنع منها أدباً، بينما نهر الآلام البشرية يتدفق ولا يُرى في الأرض من على ضفتي المشهد سوى الهشيم؟ من هم شخصيات الرواية عندما لا تترك النازلة من حولها سوى مزق البشر وأدوات الموت. ولا يترك الطوفان، الذي ما زال لم ينحسر بعد، سوى جثث الغرقى وهشيم عالمهم.
***
ماذا سيقول هؤلاء الذين يذهبون إلى الموت أو يأتون من الحريق لو ظهروا في رواية كاتب، وكتبت لهم المخيلة ما يقولون؟ وهل يمكن للمخيلة أن تنطق الضحايا والمهشمين شيئا آخر يبز ذاك الذي أنزلته بهم المآسي وكتبته بمصائرهم الأقدار؟
كيف يمكن للأدب أن يكتب بينما الكائنات العزلاء تواجه همجيات ووحشيات لم تكتبها أساطيرُ ولم تصفها وثائق في التاريخ، ولم تعرف لها أسماء في القواميس. أفعال ووقائع غير مسبوقة في صورها المريعة وقد داهمت الوجود الإنساني وهددت هذا الوجود بأعمال ماحقة.
***
ماذا يقول الكاتب لو كتب؟ ماذا تقول شخصياته؟ هل تعيد الكتابة تصوير الوقائع بكاميرا الكلمات لتكون وثيقة إدانة حقوقية، أو عبرة اجتماعية وأخلاقية؟ أم تكتب لتستخلص معنى أو حكمة؟ أم هي تكتب لينتقم الأدب من التاريخ، ويرد الاعتبار للإنسان بإزاء عدو للإنسان وقيمه التي رسخ في الأرض، وها هو زلزال الموت والفناء يحاول تدميرها؟ هل نكتب لنعزّي أنفسنا؟ لنتسلى، لنقول إننا مازلنا أحياء وإن القصص تروى وإننا سندفع إلى لغة الرواية بكل صور الفواجع والآلام ومنها إلى سطح الشعور ليتخفف الإنسان وتاريخه من حمولة الألم وغيوم الشرور الراسبة في أعماقه بفعل ما دهمه وكسر المشهد الطبيعي لحياته الآمنة وعطّل؟ ماذا نكتب في أزمنة الخراب والموت، أيّ قصص وأيّ حكايات؟ وهل نكتب لنتفحص ما حلّ بنا، أم نكتب لنحفر في جسد الكوكب عبثية وجودنا؟ وبأيّ لغة نكتب كل هذا الذي نتساءل في حيرة كيف نكتبه؟
بلغة الواقع نكتب أم بلغات الخيال؟ بلغة القلب أم بلغة العقل؟ بلغة اليقين أم بلغة الشك، بلغة ما أمكن للبشر أن يبرهنوا به على ثراء تجاربهم، أم بعواء الغريزة وبكاء الحيوان النائم في أعماق الغريزة الإنسانية وقد أيقظه هول الوقائع وهشاشة الكائن وضعفه وجهله أمام فنون القتل وسطوة آلة الفناء؟
***
كيف نكتب ولماذا نكتب؟ سؤالان لم يتوقف الأدب عن طرحهما عبر الزمن والثقافات، ولم يكفّ الأدباء عن التعبير عن حيرتهم أمام شبكة الأسئلة المتصلة بالكتابة وألغازها؛ لغز اللغة ولغز الكتابة؟ لغز الدوافع ولغز السؤال؟ وبين هذه وتلك لغز تطلعات الكاتب وهو يغامر مع الكلمات، التي هي أمّ الصور وأمّ التجريد معا، وهي شبكة وضوح ما بعده وضوح وغموض لا يدانيه غموض. ويزداد الأمر صعوبة وتركيبا بالنسبة إلى الكاتب كلّما أنجز خطوة في مغامرة الكتابة ليجد نفسه عابرا على طريق تأخذه من مفترق إلى آخر وعند كل مفترق يولّد الأدب أسئلة جديدة.
***
وإذا كان للأدب وسؤاله كل هذا التعقيد في أزمنة السّلم، حيث الحياة ما تزال تجري في مجاريها الطبيعية، فكيف يكون حال الكاتب عندما يواجه أسئلة الكتابة وأسئلة الأدب في أزمنة العواصف والحروب والمآسي الكبرى في التاريخ؟
على أيّ منقلب يولد الأدب جديداً، ولأجل أيّ غايات سيكون هذا الجديد ليعبّر بنضارة التجربة وجدارة الفن عن الذات الإنسانية في مصائرها وتحدياتها الكبرى؟
***
في أيّ أرض وسماء جديدتين تتفتح الموهبة الأدبية المصدومة والمستفزة بالفواجع؟ بأيّ كلمات يمكن لمخيلة الكاتب وتجربته الخارجتين من مصهر المصائر الجماعية الأليمة أن تهزّ شجرة الأسئلة وتبدع الجمال الجديد الذي يملك القوة الخلاقة المبتكرة القادرة على اختراق الحجب والنفاذ إلى الأعماق الإنسانية بلغة مبتكرة وتكوينات نخلص منها إلى نموذج سردي روائي يمكن أن يكون أيقونة فنية تحفة أدبية تضيف إلى تاريخ الأدب وتصيب وجدان الإنسان وتسهم بقسط من دور الأدب في رفع الحطام من طريق المستقبل.
***
في الشهر المنصرم طوت التراجيديا العربية سنواتها الخمس. الأدب والفن والفكر والإعلام اعتبر هذه المأساة حدثا غير مسبوق، ووقائع لا قبل للعرب بها. مأساة مهولة أخذت طريقها إلى الأدب والفكر والفن وشكّلت السؤال الأكثر إيلاما واستعصاء في حاضر العرب، الذين وجدوا أنفسهم معها على مفترق وجودي.
بعض الأدباء والمفكرين رأى، كما رأى كثيرون غيرهم من قبل وفي غير لغة وثقافة، أن الأدب الجيد لا يكتب في الأوقات الصعبة، لا يكتب في أتون الحروب وأزمنة المأساة، ولكن بعد أن تخمد الحرائق وتنقشع الغيوم السود، وأن جل الأدب الذي يكتب في تلك الأزمنة إنما مصيره الهلاك مع من هلك من البشر، وفي ذلك ظلم للتجربة الإنسانية ومغامرتها الأدبية. فقد حملت لنا ألواح سومر وبابل وآكاد ومكتبات إيبلا ومعابد الآلهة القديمة في بلاد الشام ومصر والعراق واليونان وقرطاج وروما ما يناقض هذه الفكرة.
وحتى التجارب اللاحقة وصولا إلى المغامرات الأدبية الحديثة التي رافقت الحروب والثورات والمآسي وواكبتها أو تلك التي جاءت لاحقة عليها بوقت قصير، إن في الرواية أو في الشعر، تعاكس هذه الفكرة. وإلا كيف كنا سنتمتع بشعر وليم بتلر ييتس وروايات تولستوي ودوستويفسكي وباسترناك، وكازانتزاكيس، وشعر أبي فراس الحمداني ومالك ابن الريب وأبي البقاء الرندي وبابلو نيرودا ولوركا، ونزار قباني ومحمود درويش وغيرهم.
***
عندما يقتل أطفال، مئات الأطفال، بالغاز، ويمددون في الصور بكامل جمالهم البريء كما لو كانوا نائمين، ويراهم العالم كله وينتحب، ثم لا تُسمع لك أنّةٌ أيها الشاعر، فهذا يعني أحد أمرين إما أنك متّ أو أن الشعر مات. ولأن الشعر لا يمكن له أن يموت، لذلك لن تحيي الصور الوثائقية ضحايا الحرية بل هي دليل موتهم. لكن القصائد هي من ينهضهم من الموت.
***
الشهداء لا آباء لهم ولكن لهم أمّ عظيمة ربّتهم هي الحرية. لذلك فإن الشهداء لا يعودون إلى الحياة بوثيقة ولكن على أجنحة الشعر، في قصيدة عظيمة أو يتمشون في شوارع رواية خالدة.
______
*العرب