بين الأدب الثوري والأدب اللقيط!!


*فراس الهكار


خاص ( ثقافات )


لا شيء يولد من العدم، ولا يمكن للفوضى المزمنة أن تنتج أدباً سواء كانت خلّاقة أو غيرها، لأنها فوضى في نهاية المطاف مهما حاول بعض المتحذلقين أدبياً تزيينها وإلباسها لبوس “التغيير الثوري”، وأن تكتب عن الفوضى أو أياً كان اسمها، يعني أن تعيشها بالضرورة، وتكون في وسط الزوبعة وإلا لن تتمكن مهما بلغت براعتك الأدبية وفصاحتك اللغوية من تصوير حجم المأساة الحاصلة، فتوثيق الحقيقة يحتاج إلى ما هو أعمق من روايات يحكيها أشخاص غير ثقاة يوظفون سرد الأحداث حسب مواقفهم الشخصية غير محايدين.

“دكانة الأدب”
يبدو أن بعض الأشخاص وجدوا الفرصة مؤاتية للاستثمار في (دكانة) ما يُسمى جُزافاً “الأدب الثوري”، هذا الاستثمار أجاده بالمرتبة الأولى كتّاب الصف الثاني وما يليه ممن اهترت أكفهم لكثرة التصفيق والتطبيل والتزمير خلال العقود الماضية، ودمغوا على جباههم بأنهم “مثقفو السلطة”، ولا يسعهم إنكار إعجابهم بهذا اللقب بل وسعيهم الدؤوب للحصول عليه، حتى أنهم اعتادوا التدجين وألفوه وأصبح طبعاً من طباعهم وسمة من سمات نتاجهم الأدبي الذي كانوا يروجون له ويبيعونه راضين مرضيين برعاية الحزب القائد.
وكغيرهم من مفرزات المخاض الذي عاشته وتعيشه سورية خلال هذه السنوات العجاف، انتفض هؤلاء الكتّاب وانبروا للحديث والترويج لما اسموه “أدب الثورة” واطلقوا على أنفسهم “الكتّاب الأحرار” ليكونوا بذلك كتّاباً يليقون بالفوضى وتليق بهم، وأغلب هؤلاء كانوا لوقت قريب في بلاط السلطة بمحض إرادتهم، بل لا يخفى على أحد أن هناك أسماء قدمت تنازلات كبيرة لتكون في الصفوف الأمامية للديكتاتورية زمن سطوتها، ولم تكتب أقلامهم آنذاك عن حماه وحلب، أو حتى عن الرقة المنسية. 
إذن قد اتضح جلياً بعد خمس سنوات أن “الأدب الثوري” المزعوم ضمَّ بالدرجة الأولى كتّاباً لم يفلحوا بالارتقاء بنتاجهم إلى الصدارة في عهد الدولة، فوجدوا فيما كان ضالتهم، وتصدروا المشهد في لحظة إعادة الاصطفاف، وكانوا في الصف الأول هذه المرة لكن ليس بتطوير مستوى نتاجهم الأدبي، إنما بالتزين بلبوس البرجوازية النتنة وتدخين السيجار الأمريكي ليكونوا غيفارات كرتونية، وتقليد رفاقهم من بقايا الاشتراكيين في مص دماء الناس، وهمهم الوحيد تأمين التمويل اللازم لمشاريع شخصية باسم نصرة القضية التي أضحت استثماراً مفتوحاً بكل شيء.
خاضت سميرة مسالمة رئيسة تحرير صحيفة تشرين السورية في زمن مضى، تجربتها الروائية الأولى وأصدرت رواية (نفق الذّل)، بعد أن سقطت من سرير السلطة وتلقفتها أحضان المعارضة، ولم تأت بأي جديد فيما كتبته، بل اجترت روايتها ما كان قد تحدث عنه أدباء سوريون في زمن كانت فيه السلطة على سروج خيلها كانت المخطوطات حينها تُهرّب إلى بيروت مدينة الحرية الثقافية وتعود مطبوعة وتدخل تهريباً إلى البلد عندما كان التطرق لهذه المحظورات وكسر التابو يُعد بطولة تُضاف إلى جودة المستوى الفني للعمل الأدبي، ورغم أن سميرة حاولت عرض سيرة ذاتية لصحفية قدمت تنازلات كبيرة لتحصل على منصب كبير في السلطة الديكتاتورية، إلا أن الرواية جاءت هشة ولم ترقَ لمستوى الحدث أو تقاربه. 
“الاستثمار الأدبي”
وبما أن الرداءة وصلت إلى الأدب كما تفشت في باقي مناحي حياة الفوضى، وأصبح الكاتب في سباق مع الزمن للحاق بموسم البيع قبل كساد البضاعة في دماغه، بغض النظر عن جودتها وصلاحيتها للاستهلاك.
وجد أدباء الصف الأول الفرصة مؤاتية لاستثمار اسمائهم في حلبة المصارعة، بعد أن كسروا المحظور سابقاً، وعلق القراء على صدورهم أوسمة البطولة عندما نشروا نتاجهم وعبروا عن وجع غير مألوف لم يكن أبناء جيلي الثمانينات والتسعينات قد شاهدوه، إنما عرفوه من خلال هذا النتاج الأدبي، ولم يعطوا أنفسهم فرصة للتأكد منه بل صدقوه وآمنوا به لإعجابهم باسم الكاتب وتقديسهم له، وتصدر هؤلاء الكتّاب المشهد الأدبي ليس لأنهم أبدعوا فنياً فيما كتبوه وحسب، بل لأنهم حطموا حواجز الرقابة التي كانت تكم الأفواه وتشتري الأقلام أو تكسرها، وتمكنوا من تهريب نتاجهم من بيروت إلى دمشق.
لو نشر الكاتب خالد خليفة روايته الشهيرة (مديح الكراهية) بعد اجتياح الفوضى الخلاقة مجتمعاتنا لفقدت أهم سماتها التي اكتسبتها من نشرها في زمن الأفواه المكمومة، فقد حطمت أكثر من “تابو” وحظيت باهتمام لم تحظَ به روايته الثانية (لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة) رغم فوزها بجائزة وترشيحها لأخرى.
كذلك كتب بعض كتّاب الصف الأول عن مجريات الأحداث دون أن يكونوا مقتنعين بما يجري على أرض الواقع أو مؤمنين به، لذلك لم يكن لهم موقفٌ معلنٌ مما عايشوه، بل اقتصرت مواقفهم على التداول فيما بينهم مع بعض الأصدقاء في بعض المقاهي، واندرجت كتاباتهم الخجولة في إطار الموجة الروائية، وروجوا لنتاجاتهم بين الأطراف المتنازعة لأنها تقف في مسافة متساوية بين الجميع، لكنها تتسم بالرزانة أكثر من غيرها.
“مراهقة كتابية”
أما مراهقي الكتابة والأدب فهؤلاء هم الذين تفتقت قريحتهم بعد أشهر من بدء المخاض العسير وانفلات عقال الأدب والأخلاق، وبدأوا بممارسة فعل الكتابة عبر شبكات التواصل الاجتماعي ترافقهم جوقة من المصفقين الذين “يهيصون” لهم، حتى (كبرت برأسهم الخسة)، كما يقول المثل الشعبي، وسبقوا اسماءهم بصفات مثل (كاتب، شاعر، أديب)، دون أن يراعوا حاجة الأدب إلى النقد كي ينضج ويستقيم وليس للردح الذي استفحل في الأوساط الثقافية حتى ماع الأدب وساحت الثقافة، ففي رواية فادي السهو (قناديل العسكر) التي صدرت مؤخراً لا تجد في محتواها ما يدلك على أنها رواية باستثناء الكلمة المكتوبة على الغلاف الخارجي تحت العنوان، هذا الكرّاس الأول للكاتب وقد تناول فيه الحدث السوري بناءً على قصص يحكيها العوام في الشأن السوري وهي تفتقر لأبسط مكونات السرد الروائي. 
وركز هؤلاء الكتّاب بشكل فاضح على تصوير حالات القمع والظلم والقهر والجوع التي يعيشها المواطنون الأبطال في كتاباتهم، وبدا في ذلك تحريضاً صريحاً لحمل السلاح وممارسة فعل القتل بدم بارد، ولم تعرف أعمالهم الحيادية إنما انحازوا إلى طرف زعموا أنه الحق وصوروه على أنه الملاك الطاهر النقي الذي يسعى الشيطان لافتراسه.
وتسابق بعض كتّاب (الموضة الروائية) من حديثي العهد ومستسهلي الكتابة إلى إنتاج أكبر عدد من الروايات في أقصر مدة ممكنة، وهؤلاء لا تختلف سرعة نتاجهم الأدبي عن مبدأ (مكبس البلوك)، وليست متابعة الحدث بأبعاده وعمقه واستشرافه مهمة لهم بقدر اللحاق بالركب وتحقيق أرباح تناسب طموح كاتب وليد.
انجز عبد الله مكسور خمس روايات والسادسة قيد الطباعة، ويعمل جاهداً لجذب القارئ وزيادة حجم المبيعات، بغض النظر عن المحتوى الذي يقدمه في نتاجه الأدبي، أما قيس الدمشقي كاتب رواية (ياسمين في الحرب) فقد حطم الرقم القياسي عندما أنجز روايته بثلاثة أسابيع فقط ويتحدث فيها عن فتاة اسمها ياسمين تركت دراستها وانخرطت في المشروع “الثوري الفاشل”.
“أدب الثورة”
يبدو أن هذا أصبح الشغل الشاغل لكتّاب الموضة الروائية الذين يرفضون التزام قواعد الأدب زاعمين أنهم يصوغون تجربة جديدة قائمة بحد ذاتها في الأدب الثوري السوري، متجاهلين إن أدب الثورة الحقيقي هو الذي يوقد شعلتها ويلهب حماس جماهيرها ويوجهها ويضبط إيقاعها، ويحميها من أن تتحول إلى فوضى عارمة يستغلها مرتزقة الحروف ويستثمرون فيها أينما استثمار، ولا يمكن لمن يفعل ذلك أن يكون أديباً ثورياً فمن يبيع حروفه في أسواق الدم، ويعربد فوق المنابر وأمام الكاميرات مُعلناً ولادة الأدب الثوري بينما أشلاء الأبرياء تتناثر في الطرقات، ليس سوى متطفل على تخوم الكتابة يمارس مراهقته الأدبية مستغلاً غياب الرقيب وانشغاله بالحدث المُعاش، ولا يمكن الحديث عن (أدب ثوري) أو عن نشوء مدارس أدبية جديدة يرسم ملامحها الشباب -كما بالغ بعض المتثاقفين الثوريين والأحرار في وصفها- قبل أن يهدأ الطوفان وترسو السفينة، ويتوقف شلال الدم وتستقر الأنفس وتطيب الخواطر حينها يمكننا الحديث عن ولادة طبيعية لنتاج أدبي دون تدخل جراحي ومن أبوين شرعيين يسقطان عنه صفة (الأدب اللقيط).

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *