درويش والقاسم شقّا البرتقالة الفلسطينية


*عزمي عبد الوهاب


إنه «آب» اللهاب، كما تسميه العرب، أغسطس الحار الذي اختاره كتاب كبار للرحيل عن دنيانا، إلى دار الخلود، وما يعنينا من هؤلاء، محمود درويش وسميح القاسم، فقد رحل الأول في 9 أغسطس/‏آب 2008، بينما توفي الثاني في 19 أغسطس/‏آب2014، وعلى يديهما تحولت الخانة المكتوبة أمام هوية الفلسطيني من «لاجئ» إلى «مقاوم»، وكانت أولى الشهادات في هذا الإطار، ما سجله ورصده الشهيد غسان كنفاني، في كتابه المبكر والمهم «الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال (1948 – 1967)»، وقد بشر فيه بأسماء سميح القاسم ومحمود درويش وتوفيق زيّاد وغيرهم.
ما يعنينا أيضا ارتباط الشاعرين الكبيرين بضفيرة واحدة، أو على الأقل يمثلان ثنائية من ثنائيات الشعر والحياة، حتى إن سميح القاسم يقول في حوار أجري معه عن علاقته بدرويش: «العلاقة بيننا أقوى من الشعر بكثير، ففي واحدة من رسائله المتأخرة قال لي: «صداقتنا أقوى من الحب«علاقتي بمحمود ظاهرة إنسانية فريدة في الأدب العربي على الأقل، ومزيج من الحالة الإنسانية كفرد من العائلة».
عندما تكتب سيرة أي من الشاعرين فأنت تكتب سيرة الآخر، خصوصا ًفي الفترة التي عاشها درويش في فلسطين، قبل أن يغادرها نهائياً إلى القاهرة، ومن ثم إلى شتى المنافي، فسميح القاسم الذي ولد في عام 1939 في الرامة، ثم تابع دراسته في الناصرة، قادته خطاه إلى حيفا، ليلتقي نصفه الآخر أو «أحد شقي البرتقالة»، كما أطلق عليهما كثيرون.
في سيرته الذاتية التي حملت عنوان «إنها مجرد منفضة» يتحدث القاسم عن ملاحقات السلطات ««الإسرائيلية»» له، ولرفاقه الشعراء، ويتوقف أمام حيفا التي انتقل إليها، ليتعرف إلى الشاعر محمود درويش، ومنذ تلك اللحظة يعرفان المعاناة معاً، جراء الملاحقة والاعتقال والجوع والتشرد.
كان مقدراً للشاعرين أن يفترقا، حين يقرر درويش أثناء سفره إلى موسكو، ألا يعود إلى حيفا، وكانت محطته الأولى في رحلة المنافي الطويلة، القاهرة، انشطر القلب قلبين، انقسمت الخطوة إلى اثنتين، بات أحدهما على سفر دائم، والآخر مقيم هناك، في منازل الخطوة الأولى، إلى أن التقيا في القاهرة في أكتوبر 1988، حين زارها سميح القاسم لأول مرة، ليلتئم شمل الصداقة، التي وصفها رجاء النقاش ب «النموذج الرفيع للصداقات بين الأدباء».
يقول: «تبدو صداقة محمود درويش وسميح القاسم من الصداقات النادرة في هذا العصر، والحق أن كل شيء يجمع بين هذين الشاعرين، فهما أصحاب جرح واحد هو الجرح الفلسطيني، وهما متقاربان في السن، فقد ولد محمود درويش بعد سميح القاسم بثلاث سنوات، واشتركا في الحركة الشعرية الجديدة داخل الأرض المحتلة، وأصبحا أجمل رموز هذه الحركة، ودخلا السجون معاً وتقاسما العيش والملح والكتب، وتعرضا لكل ألوان الضغط والقهر بصورة مشتركة، ثم خرج محمود درويش من الأرض المحتلة سنة 1971 ليلعب دوره البارز المعروف اليوم في مجال القضية الفلسطينية، بينما بقي سميح في الأرض المحتلة يجاهد مع أهله وشعبه هناك».
قبل هذا اللقاء كان عليهما أن يلتقيا على الورق بشكل أسبوعي، ففي مجلة «اليوم السابع»، وفي 19 مايو/‏‏‏‏أيار 1986 سيقول محمود درويش: «كان كل واحد منا شاهداً على ميلاد الآخر»، ثم يتناوبان على تبادل الرسائل، لتنشر في التو، فيكون القارئ شريكاً في القراءة، وربما الكتابة، وكتب الروائي إميل حبيبي مقدمة لهذه الرسائل حين صدرت في كتاب، مشيراً إلى أهميتها قائلا: «لا ألوم إلا نفسي على أنني لم أنتبه إلى روعة هذه الرسائل المتبادلة بين شطري البرتقالة الفلسطينية – محمود درويش وسميح القاسم – إلا بعد أن تكاملت بشراً سويا، الأعمار بيد الله، أمامهما مديدة، أما قصدي فهو الانتفاضة، التي أحسا بمقدمها إحساس الطير بالعاصفة قبل هبوبها».
هذه الرسائل تسبقها قصيدتان كتبهما الشاعران، فيكتب سميح القاسم «تغريبة» مهداة إلى درويش، يقول: «لبيروت وجهان/‏‏‏‏ وجه لحيفا/‏‏‏‏ ونحن صديقان/‏‏‏‏ سجناً ومنفى/‏‏‏‏ قطعنا بلاداً وراء بلاد/‏‏‏‏ وها نحن في تعتعات الدوار/‏‏‏‏ نعود/‏‏‏‏ وزاد المعاد/‏‏‏‏ عناق سريع بباب مطار/‏‏‏‏ أكان اللقاء اعتذارا؟ /‏‏‏‏ أكان الوداع فرارا؟» وها هو درويش يرد تحت عنوان«أسميك نرجسة حول قلبي»: «سنكتب، لا شيء يثبت أني أحبك غير الكتابة/‏‏‏‏ أعانق فيك الذين أحبوا ولم يفصحوا بعد عن حبهم/‏‏‏‏ أعانق فيك تفاصيل عمر توقف في لحظة لا تشيخ/‏‏‏‏ هنا قلب أمي، هنا وجه أمك/‏‏‏‏ هنا أول الشعر والسخرية/‏‏‏‏ هنا أول السلم الحجري المؤدي إلى الله والسجن والكلمة».
في الرسالة الأولى يتساءل درويش: «ما قيمة أن يتبادل شاعران الرسائل؟ لقد اتفقنا على هذه الفكرة المغرية منذ عامين في مدينة استوكهولم الباردة، وها أنا ذا أعترف بتقصيري، لأنني محروم من متعة التخطيط لسبعة أيام قادمة، فأنا مخطوف دائماً إلى لا مكان آخر، ولكن تسلل الفكرة المشتركة إلى الكثيرين من الأصدقاء تحول إلى إلحاح لا يقاوم، كم تبهجني قراءة الرسائل…! وكم أمقت كتابتها لأني أخشي أن تشي ببوح حميم قد يخلق جواً فضائحياً لا ينقصني، حتى تحولت هذه الخشية إلى مصدر اتهامات لا تحصى ليس أفدحها» التعالي«كما هو رايج.»
ويرد عليه سميح القاسم قائلا: «هل تذكر كيف استولينا على مضافة أبي العليا وحولناها بلا استئذان إلى منتدى ثقافي لثلة من الشبان المدججين بدواوين على محمود طه ومحمود حسن إسماعيل وأبى القاسم الشابي وكتابات جبران؟ هل تذكر ذلك الشاب الذي حاصرنا وأمطرنا بوابل من قصائده حتى ضقنا ذرعاً فتهامسنا:«اللهم اجعل هذه الليلة خيراً… فهذا الفتى قد تأبط شعراً (!) ما كان النوم متاحاً إلا في ساعة متأخرة من الليل أو في أختها المبكرة من النهار… وآنذاك شددت اللحاف إلى ما تحت أنفك مودعاً: بخاطرك».
_________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *