البناء الحكائي في “ما الذي نفعله؟”.. لطيفة باقا




عبد الرحمان الكياكي



خاص ( ثقافات )

تتشكل مجموعة (ما الذي نفعله؟) للكاتبة لطيفة باقا من ثمانية نصوص قصصية هي:

1 – ديدان معوية: تتخلل النص رسالة متضمنة لوقائع حقيقية ومتخيلة، حيث الهاجس الأساسي الذي حرك الكتابة، له ارتباط بواقع تعيش فيه الساردة نوعاً من الإحباط والفشل في البحث عن الوظيفة من خلال كتابة طلبات شغل، (كتابة الطلب، كتابة الرسالة). ويتمظهر هذا الهاجس من خلال بنيات سردية صغرى ضمن البناء الحكائي العام، الذي يتحدد على ضوء تقنية الاسترجاع واستثمار الذاكرة، من خلال حديث الساردة عن ديدان معوية التي كانت تصيبها من حين لآخر وهي صغيرة، أعادت بعضاً من معاناتها من خلال حكيها عن الطفلة الصغيرة التي تعاني من هذه الديدان. 

2- حكاية سخيفة: أحداث هذه القصة تجعل من المقهى فضاء لها، وتطرح مواضيع اجتماعية لها ارتباط بالمعيش اليومي، قضايا اجتماعية وسياسية من خلال تصور الاطفال. “وفي حصة الرسم كان يرسم دائما سيارة ضخمة لا تقف في الضوء الأحمر وكانت تسأله لماذا؟ كان يجيب مندهشا من دهشتها: “إنها سيارة الرئيس.” (ص 19). والساردة في هذه القصة تتابع عملية السرد من الخلف، وتحاول تنظيمها، غير أنها في بعض الأحيان تظهر كشخص داخل العملية السردية، من خلال استثمار الذاكرة “صعدت إلى ذاكرتي بعض الكلمات الجميلة التي كان يرددها الأطفال” ص18. كما يمكن الإشارة هنا إلى تقنيات لها ارتباط بمرجعيات الكتابة السردية الجديدة (لعبة الضمائر.. قصة بدون أبطال.. بداية القصة من النهاية…). ستكون بدون أبطال.. مجرد أشباح في مقهى فارغ..” ص 20. 

3 – يداه: ظاهرة (الفيزا)، الخلاص المستحيل والممتنع، ظاهرة الإرهاب والبغاء، السخرية من العلاقات الجادة ومن العالم، من نظامه المقلوب البليد، كلها تعتبر تيمات أساسية في هذه القصة، وهي عبارة عن بنيات سردية صغرى ضمن البناء القصصي العام الذي يحكي عن فنانة تشكيلية ترسم أوراقا ميتة، غير أن الطابع المميز لهذه القصة هو المونولوج الداخلي، ورسم معالم الفضاءات (فضاء المقهى.. فضاء البيت)، أما خطاب الساردة هنا فهو خطاب يسخر من نظام روتيني، ويفضل العبث والفوضى. 

4- حساء رديء: البحث عن العمل هو التيمة الأساسية في هذه القصة، “أعمال التنظيف؟ ماذا تشرحين إذن لهذا اللعين؟ (…) أم تخبريه أنه في الواقع. .. لم تأت للتنظيف… بل لأن جيبك نظيف… وأن السيل بلغ الزبى. .. وأنني مجازة في خرافة حقيقية اسمها السوسيولوجيا.” (ص42) . فهل يمكن أن يتجرع الإنسان كل هذه الخروقات بسهولة؟.. بعد الخروج من البيت وضمن سياق الحكي تنتقل الساردة إلى الحديث عن السي الحاج، شيخ القبيلة، وحمارته بعد برمجة الصغار للعشية وموقف “أمي عيادة” مما حدث وسخريتها من السي الحاج.

5- صهد النساء صهد الرجال: تعد المقهى كفضاء رئيسي ينطلق منه الحكي في هذه القصة، حيث تتدرج الساردة في التقاطها اليومي المعيش بواسطة لغة عادية، تشخص المواقف الإنسانية بكل تفاصيلها من خلال بنية سردية صغرى (حكاية أمي عفو)، وطرق ظاهرة (الجن)، في شخص للامليكة (المسكونة) التي تنادي بصوت خافت (جيرار).. “- يا لطيف إن جنها نصراني إذن وليس مسلما كما قالت النساء” ص 50. وبيوت الدعارة من خلال شخصية (عيادة الهجالة)، و(فاطنة بنت العسكري). “.. أخذتا تتابعان الشبح حتى توارى داخل منزل ”عيادة الهجالة ” (ص 49). وتكون بذلك الكتابة القصصية من هذا النوع قد ساهمت وتساهم في فضح العلاقات الاجتماعية المتعفنة، والوقوف عند النوايا الخفية لمجتمع أكثر تعفنا .

6- حذاء بدون كعب: جميع شخصيات هذه القصة نسائية، والساردة كواحدة من بينهن تعيش نفس وضعيتهن، ونفس معاناتهن، أنها تفعل وتنفعل في مجريات الأحداث، إنها الفاعل الأساسي في البناء السردي بتعبير كريماس. وشخصيات هذه القصة تبدو غريبة الأطوار. (حلومة – الدكالية – ميلودة – أمينة…) حلومة تعرف القراءة والكتابة، تبدو غريبة الأطوار بكعبها العالي، تدخن، عاشت قصة مع ابن خالتها الذي كسر “قلتها” بين الأشجار، وتوعدها بالقتل إذا افتضح الأمر، وكانت نهاية القصة بالفرار من المستشفى. 

7- هذا كل ما في الأمر: تتمحور هذه الأقصوصة حول توجيه خطاب الساردة إلى شخصيتين رئيسيتين في الحكاية، ويدور الحوار حول بعض السخافات التي تبدو تافهة، رغم ما يميزها من عمق دلالي، تتعلق بجنس الذكور، والنساء، .. هذه السخافات التي كان الكبار متطرفين فيها، “لم يكبر أحد… ثم إن العيالات ناقصات عقل.. “جدتي مثلا كانت تمنعنا من النظر في عيون “النصارى” الزرقاء العميقة، تقول إن ذلك “حرام” ص74

8- ما الذي نفعله؟: القصة التي تحمل عنوان المجموعة، تتصدرها مقطوعة شعرية لأمجد ناصر. تبدأ القصة بالتساؤل عن الحكاية؟ حكاية اليوم، حكاية كل يوم، استمرارية الحكي وعدم محدوديته بمدة زمنية، هل تتم الحكاية بعد ترتيب الفوضى داخل هذا السكون؟ هل ستتم الحكاية فعلا؟. ..الساردة تطرح أسئلة عديدة، بخصوص التفكير في مشروعية ما تفعل “”وما تحكي” “سأتسلى قليلا بالتفكير في مشروعية ما أفعل”(ص78). وفي المقابل هناك المتلقي، هل له حق مشروعية الاستماع؟ القراءة؟ والقراءة هنا قد تكون في معناها الاصطلاحي، وقد تكون بمعنى النقد، التي تحتاج إلى العديد من الأدوات والمفاهيم، بواسطتها تتمنهج القراءة (حسب يمنى العيد). إن الساردة هنا تكشف عن قواعد اللعبة، اللعبة البائسة حتى العبث، والكتابة ترتب هذه “الفوضى” وتنفي هذا العبث، وبذلك فالمجموعة القصصية (ما الذي نفعله؟) حاولت وتحاول تكسير الخيوط الوهمية للسرد التقليدي، وتمارس فعل الكتابة بوعي، وتشتغل وفق التقنية التي تؤسس لذاتها من خلال الوعي بالكتابة نفسها. لقد أسست المجموعة القصصية (ما الذي نفعله؟) للكاتبة لطيفة باقا بنائها الحكائي من خلال مجموعة من التفاعلات النصية التي تتعالق فيما بينها لتشكل نصا محكيا متميزا بما يضمه من شخصيات وأحداث، وفضاءات (فضاء المقهى، فضاء المستشفى، فضاء البيت…) وأزمنة لها مرجعيتها في الواقع الاجتماعي والتاريخي، وتنوع هذه الفضاءات رهين بتنوع الشخصيات المختلفة التوجهات والمواقع والمواقف الاجتماعية التي يطبعها نوع من الحوار المؤسلب. هذه الشخصيات لها ارتباط وثيق بالواقع الاجتماعي من خلال أقوالها وأفعالها (أمي عفو، عيادة الهجالة، للامليكة (المسكونة)، الدكالية، الزمورية…) انطلاقا من أسئلة عديدة منها ما يرتبط بالبناء المحكي (من هو الحاكي؟ لمن نحكي؟ ما هي مسافة الحكي؟…) ومنها ما يرتبط بالواقع الاجتماعي. كما تتميز هذه المجموعة بالتعدد اللغوي وتنوع الملفوظات المدرجة على لسان شخوصها، وتنوع خطاباتها الذاتية ذات الصبغة الحوارية، والمرتكزة على أجناس تعبيرية تساهم في إغناء النص على المستوى الدلالي، كما تم التركيز على استحضار المحكي بطريقة بارودية. أما ما يميز لغة المجموعة القصصية وخطابها الحكائي فهو هيمنة خطاب السارد/ الساردة- (السارد(ة) الداخل حكائي)، الساردة/ الشخصية التي تعيش نفس معاناة شخصيات النص، ويترجم خطاب السارد(ة) من خلال هذه اللغة رؤيته(ها) للعالم، وخطابه(ها) يتحقق داخل خطاب شخصياته(ها)(حسب ميخائيل باختين) وبواسطة لغة عادية وبسيطة حاولت الساردة من خلالها تشخيص المواقف الإنسانية بكل عمق، والتقاط اليومي بأدق التفاصيل، كما حاولت وبعمق توضيح التراتبية الاجتماعية والأخلاقية، ساعية إلى استثمار الذاكرة من خلال تقنية الاسترجاع، إضافة إلى طرح مجموعة من التساؤلات التي كثيرا ما تفجر كل الأبعاد النظرية من خلال تفجير النص وأبعاده الممكنة… كما تحتوي المجموعة على بعض التطورات الأدبية والأيديولوجية المتعددة الأشكال. (اللغة الشعرية، لغة الفئات الاجتماعية..) هذه اللغات والتطورات تستعمل لتكسير نوايا الكاتب(ة) المفترض (ة) التي/ الذي يتحدث عن نفسه في لغة الآخرين، وعن الآخرين في لغته الخاصة.(1). إضافة إلى بعض الأجناس التعبيرية الخاصة التي تساهم في التكوين الأساسي للمجموعة القصصية، والتي تعتبر من المرجعيات الأساسية في تحديد شكلها. (الاعتراف، ، المذكرات الخاصة، الرسائل).

حاولت من خلالها ولوج مختلف العوالم بجرأة هامسة في أذن المتلقي بكل ما لديها من قدرة على الحكي، مازجة بين فضاء الذات وفضاء الآخر مهما تحددت هويته وتنوعت مشاربه، ساعية إلى تأسيس خطاب قصصي في علاقة مع المتلقي وخلق تواصل معه، طارحة التزاوج بين سرد الأحداث ووصف الطريقة التي تشكلت بها في ذهن الكاتبة (تصورها للكتابة القصصية) التي مارستها كتقنية داخل النص القصصي.

. عبد الرجمان الكياكي. • ما الذي نفعله؟ لطيفة باقا، منشورات اتحاد كتاب المغرب 1993 مطبعة المعارف الجديدة – الرباط -(1) – الخطاب الروائي- باختين ترجمة وتقديم الدكتور محمد برادة دار الأمان – الرباط (ص73).

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *