الانتظار بين صموئيل بيكيت وأونوريه دي بلزاك


فتحي الحبّوبي



خاص ( ثقافات )
لعلّي لن أضيف شيئاً جديداً إن ذكّرت بأنّ الروائي والمسرحي والشاعر الأيرلندي الكبير صموئيل بيكيت (Samuel Beckett)هو أحد أبرز الأدباء العالميين وأشهر الكتّاب المسرحيين الطليعىيين في القرن العشرين. فقد عاش حياة مفعمة بالمجد ونال شهرة واسعة طبَّقت الآفاقَ. ويعود الفضل في هذه الشهرة بالأساس إلى انخراطه في الكتابة ضمن ما يعرف بمسرح اللامعقول أو مسرح العبث بما هو مسرح اللاّمكان واللاّزمان وغياب الأحداث. وقد تبدّى ذلك بصورة جليّة منذ كتابته سنة 1948 لمسرحيّته الشهيرة التي نال بها جائزة نوبل للآداب وعنوانها “في انتظار غودو ” (En attendant Godot) التي كانت باكورة إنتاجاته في مجال المسرح العبثي-.

 وهي مسرحيّة تخوض بعمق في قضيّة الانتظار الذي قد يطول دون أن يحلّ -أو يظهر وفق الرواية الدينيّة سواء في الإسلام أو في المسيحيّة أو في اليهوديّة- من كان محلّ انتظار الآخرين. بما يجعل فعل الانتظار عموما ضربا من المعاناة الإنسانيّة الصعبة وشكلا من أشكال العذاب الذي قد لا ينتهي، رغم ما يحمله هذا الانتظار، في بعض ردهاته، من أمل مهما كان ضئيلا. إنّ مجرّد إلمامات سريعة بالمسرحيّة المذكورة، تفيدنا بأنّها قائمة على مشهدين و5 ممثّلين أهمّهم “فلاديمير” و”ستراجون” (Vladimir et Estragon)، وهما من المشرّدين المعدمين اللذين كانا جالسين قرب شجرة تكاد تكون عارية من الأوراق على طريق ريفية بأرض جرداء. وقد مكثا على هذه الحال على مدى يومين كاملين في انتظار شخص يدعى “غودو”، ذلك أنّه كان يمثّل بالنسبة لهما كلّ الأمل في الخلاص من حالة التشرّد والفقر والحزن والحيرة واليأس والغربة والجوع ونحو ذلك من تعبيرات الشقاء والألم والتيه والضياع في هذا العالم الرحب الذي يداس فيه الضعيف تحت الأقدام دون رحمة ولا شفقة ممّن يشعرون بوهم القوّة. وهي تعبيرات تترجم بحقّ وبصدق مرارة الواقع المعيش البائس والتعيس، بعد أن تغيّر سلّم القيم السياسية والاجتماعية والدينية. كما تبرز بالتأكيد، ثقل مناخ الخوف الذي كانت تتّسم به السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية (أي زمن كتابة المسرحيّة الذي وافق زمن انتشار الفلسفة الوجوديّة)، لكنّ “غودو ” هذا لا يأتي أبدا. بما يعني أن عملية انتظار ” غودو ” كانت على نحو ما ضربا من العبث بمفهومه الفلسفي الذي يعود إلى تيّار الفلسفة العبثية المنبثقة أساسا من الفلسفة الوجودية العدمية في أغلبها. ومعلوم أنّ الفلسفة العبثيّة تعتبر أنّ كلّ مجهودات الإنسان للبحث عن هدفه من الحياة، وكذا طرحه لمعنى الوجود بما هو إدراك لمعنى الكون تنتهي دائما بالفشل الحتمي، لذلك فهي تعتبر عبثية. وهو ما يجعل الإنسان يعيش نوعا من التيه/ الضياع، بحيث يصبح لا معنى لسلوكه ولا مضمون لأفكاره، لأنّه لم يعد بوسعه رؤية الأشياء بحجمها الطبيعي. ولعلّ ذلك ما يفسّر محاولة الانتحار التي أتاها استراجون وفلاديمير، في نهاية المسرحيّة، عندما تأكّدا أنّ غودو لن يأتي. انسجاما مع هذه المقاربة، وانطلاقا من هذا المعنى العبثي الوجودي لمسرحيّة “في انتظار غودو”، فقد قال الناقد المسرحي الأمريكي “إريك بنتلي”” : (Eric Bentley) إنّها مسرحيّة تتضمّن خلاصة الفكر الوجودي. لقد كان يمكن أن يكتبها سارتر. ” 

وبصرف النظر عن أنّ كلّ إبداع في نهاية التحليل ليس إلّا استعارة من الحياة بكلّ وجوهها وتشعّباتها. وبصرف النظر عن تمرّد هذه المسرحية على قواعد أرسطو* الثلاث من مكان وزمان وحدث، و تجاوزها لقواعد البنية الدرامية لمختلف أنماط المسرحية التقليدية وفق ما يعرف ً بهرم فريتاغ ( Freytag’s Pyramid )، الذي يوضّح مراحل حبكة المسرحيّة (التقديم، الحدث الصاعد، الذروة، الحدث النازل، وحلّ العقدة أو النهاية)، فإنّنا نشير إلى أنّ مسرحية “الصانع” (Le Faiseur ) التي ألّفها “بلزاك” ( Balzac) قبل قرن من الزمن من ظهور مسرحيّة ” في انتظار غودو ” لصموئيل بيكيت، تتمحور فيما تتمحور أحداثها هي الأخرى حول الانتظار، رغم أنّ محورها الأساس إنّما هو كشف الجشع أو الشره المرضي إلى المال(Boulimie d’argent) لدى رجال الأعمال، ومن ثمّة تقديم صورة دقيقة لما يعرف ببورجوازية الأعمال وعموما بالرأسماليّة في عصر بلزاك، في فترة أصبحت فيها القوة المهيمنة هي المال. أمّا محور الانتظار فتجسّده شخصيات المسرحية التي تنتظر طويلا “السيد غودو ” Godeau) (Monsieur الذي يأتي متأخّرا، لإنقاذها من الانهيار النفسي والدمار. وذلك بدفع الديون المتخلّدة بذمّتها لفائدة الدائنين، فأهمّ الشخصيات الرئيسية وهو “مركدات ” (Mercadet)، رجل أعمال عديم الضمير ومنفصل عن أي واقع غير واقع عالم المال، يبلغ حالة الانهيار لأنّه شارف على الإفلاس. فيحاول طمأنة دائنيه الذين ما انفكّوا يمارسون عليه ضغطا على نحو متزايد. لهذه الغاية فهو يناشد، شريك سابق له هو “السيد غودو”، الذي ذهب إلى الهند لجمع ثروة طائلة. يناشده أن يسدّد عند عودته، كل الديون المتخلّدة بذمّة “مركدات”. لكن تمرّ 4 فصول كاملة و5 مشاهد من الفصل الخامس من المسرحيّة دون أن يعود “السيد غودو” إلى باريس. ولمّا يملّ الجميع الانتظار يعبّرون عن ذلك في المشهد الموالي من ذات الفصل (5)، فتخرج هذه الجمل الحائرة:” غودو!… ولكن غودو هو أسطورة !… هو خرافة…! غودو هو شبح!… هل رأيتم غودو ؟… دعونا نرَ غودو “. وهو ما يحيل إلى التفكير في أنّ “السيّد غودو” قد لا يأتي أبدا، كما كان الشأن في مسرحية بيكيت. لا بل إنّه يحيل ويدفع إلى الشعور بالفراغ القاتل والعبث الذي يمثّله فعل الانتظار. وقد كنّا أشرنا إليه بإطناب عند عرض لمحات من مضمون مسرحية “في انتظار غودو”.

اللّافت للانتباه هنا، هو أنّ المسرحيتين تتمحوران حول الانتظار وحول نفس الاسم تقريبا. فهو ذات الاسم في النطق العربي والفرنسي مع اختلاف طفيف في الحروف في علاقة بالكتابة باللغة الفرنسية فحسب(Godeau /Godot)، لكن رغم هذا التشابه الواضح في تناول الموضوع وفي الشخصية المركزية الحاضرة بالغياب بعد الشخصيّة الرئيسيّة الحاضرة على الركح، فإنّ صموئيل بيكيت قد أكّد، على أنّه لم يقرأ مسرحيّة بلزاك إلّا بعد كتابته لمسرحيّته العبثية الشهيرة موضوع هذا المبحث. إلّا إنّه، وبعد أربعين سنة، صرّح في ذات السياق أنّه استوحى مسرحيته “في انتظار غودو” من لوحة بعنوان “رجلان يتأمّلان القمر” للرسّام الألماني كاسبار دافيد فريدريش( Caspar David Friedrich)، أنجزت سنة (1819) وتسنّى له الاطلاع عليها بألمانيا سنة (1937). وفي سياق متّصل، فقد نشر الكاتب الصحفي البلجيكي ستيفان لامبرت (Stéphane Lambert) في مستهلّ (2016) كتابه الجديد بعنوان “قبل غودو “( Avant Godot) بيّن فيه هذا الارتباط بين إبداعين متباعدين في الزمن ومبدعين مختلفين في أنماطهما الإبداعيّة أي بين مسرحيّة صمويل بيكيت ولوحة كاسبار دافيد فريدريش. حيث أنّ هذه اللوحة التشكيليّة قد رسمت، في بيئة طبيعية من جهة اليسار للّوحة، رجلان يتأمّلان القمر عند غروب الشمس، أحدهما متوكئ بذراعه اليمنى على الكتف الأيسر للآخر. أمّا من جهة اليمين فنشاهد شجرة ميتة قد اقتلعت من جذورها وصخورا وجزء من شجرة مقطوعة. فيما أنّ أحداث مسرحية “في انتظار غودو” تدور حول شخصين مشرّدين يقفان ذات مساء، بعد الغروب، على قارعة الطريق في أرض جرداء بالقرب من شجرة لم يبق عليها سوي عدّة أوراق لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.

هذا التشابه في المشهد ودلالاته الذي يكاد يكون تطابقا وتماهيا، يذكّرنا بمسرحية تيركارات أو رجل المال Turcaret ou le Financier وهي الكوميديا التي كتبها آلان رينيه ليساج Alain-René Lesage وعرضت سنة 1709، وقالت عنها في 2009 جريدة لومند Le Monde (عن تيكارات بالذات) أنّه “جد المحتالين المعاصرين” Turcaret, l’ancêtre de nos escrocs contemporains والتي تكاد تكون مطابقة لمضمون مسرحية “المرائي أو الدجّال” (tartuffe ou l’imposteur ) التي سبق أن كتبها موليير 45 سنة قبل ظهور مسرحيّة تيركارات. وذلك بالرغم من كونها تتطرّق بالأساس إلى النفاق أكثر من تطرّقها إلى احتيال المستكرشين من أجل الحصول على المال.

ولعلّ كتابة مسرحيّة في ” انتظار غودو” من قبل المسرحي الأيرلندي صموئيل بيكيت انطلاقا من عمل ( لوحة بعنوان “رجلان يتأمّلان القمر”)، لفنّان ومبدع آخر، هو الألماني كاسبار دافيد فريدريش، ثمّ الشهرة الواسعة التي نالتها المسرحية، تلفتان أنظارنا بطريقة ذكيّة إلى أنّ المبدع، أي مبدع، يمكن أن يضيء طريقه من خلال عمل مبدع آخر مهما كان نمط/ جنس إبداعه، بما يعني أنّه قد يكون للآخر دور حاسم في الرحلة الإبداعية الذاتية لكلّ مبدع. ذلك أنّ اللقاء بين مبدعين، وعموما بين ذاتين فاعلتين مختلفتين، لا يمكن أن يكون، في الأغلب الأعمّ، إلّا مصدر إلهام و قوة تمكّن، بالتأكيد، من تجاوز الشلل الذي يسبّبه الشكّ في القدرات الذاتية، وتمضي بنا قدما نحو انجاز مشاريعنا وتحقيق نجاحاتنا. وهو ما يعني إمكانيّة نحت ذواتنا من خلال إضاءة تشعّ علينا من الآخر المختلف عنّا من زاوية نظره الإبداعيّة.
—————————————–
*انظر كتاب الخطابة والشعر لأرسطو (335 قبل الميلاد).

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *