في بيت بلزاك


*عبد الله كرمون


لا بدّ أن منزل الكاتب الفرنسي الشهير هونوريه دو بلزاك (1799 – 1850) هو آخر رِبع ينجو من فم باريس التي ابتلعت قرية باسي المتربِّعة في أعالي السين. فالمدينة الزاحفة كانت قد ضمّت إليها القرية الوادعة في مرتفعها منذ 1860، فلم يكن من حظّ البنايات الأخرى التي تعود إلى ذلك العهد مقاومة عوامل زوالها بما فيه الكفاية، ما توفر للبيت الذي عاش فيه بلزاك خلال السنوات السبع بعد الأربعين من ألف وثمانمئة.



ولم يكن بيت باسي هذا هو البيت الوحيد الذي كان قد سكن فيه بلزاك في باريس، بل ارتحل في المدينة بين عشرة منازل أخرى. كما أن له مرابع يعود إليها من حين إلى آخر في مسقط رأسه بمنطقة لاتورين.

وهكذا كتب بلزاك في سفوح منابته الأولى كتباً عن الحياة الباريسية وأجوائها، في الوقت الذي دبَّج فيه، في صخب باريس، روايات تستلهم إطارات الحياة الريفية وهدوءها.

غير أن منزل باسي ذاك، هو آخر ملجأ توارى فيه بلزاك عن أنظار بعض الزوّار غير المرغوب فيهم، خاصة منهم الذين يدين لهم بمال، متَّخذاً له اسماً استعاره من خادمته برونيول، قبل أن ينتقل إلى العيش في المسكن الذي جهَّزه غير بعيد عن هذا المنزل، بعد زواجه من السيدة هانسكا.



الكوميديا الإنسانية

أما المنزل فيتوافر على بابين؛ ما ييسِّر عليه مهمة الفرار لدى زيارة كل طارق مهيب الجانب. وظل محكوماً على بلزاك خوض غمار العيش بإيقاع شديد من أجل تسديد ديونه التي لا تني تتزايد، ثم أيضاً من أجل تحقيق نجاح غامر.

اتبع الرجل بحزم خطّة عمل جبّارة؛ ذلك أنه يخلو إلى طاولة عمله ابتداءً من منتصف الليل، ولا يكاد يتوقّف عن الكتابة حتى مساء اليوم التالي، محتسياً، بانتظام، كميّات هائلة من القهوة.

يتكوّن المنزل من خمس حجرات، لا يسهل على الزائر أن يتعرّف إليها، إذ ليست هناك علامات تدلّنا على كون هذه غرفة طعام بلزاك أو تلك غرفة نومه. الغرفة الوحيدة التي تملأ حيزها أغراض تشير إلى كونها مكان عمل بلزاك هي مكتبه، فنرى فيها الطاولة التي خَطَّ الرجل فوق خشبها جلّ كتب «الكوميديا الإنسانية»، وحيث نقّحها، تَمَّ أيضاً مكتبته التي تحوي كتب روسو وكتبه الخاصة، في حين نرى، في واجهة زجاجية، بعض أغراضه الأخرى بما فيها ساعته، وعصاه العجيبة التي تُروى حولها حكايات تشير إلى كونها عصاً سحرية تشبه، إلى حَدّ ما، ما يُروى عن قبعة الخفاء، من كرامات وخوارق!

بوسع الزائر أن يرى بعض اللوحات معلَّقة على جدران الغرف، بما فيها بورتريهات لبلزاك نفسه، أو أخرى لبعض معارفه أو المقرَّبين إليه، خاصة مدام هانسكا البولندية.

تـوجـد في الطابق الأول غرفة خُصَّت بكاملها لشخصيات «الكومـيديا الإنسانية» ولـشـجــرة أنسـابـهـــا، تحتوي على تجسيدات مصوَّرة لذلك الكمّ الهائل من الشخوص الذين أوجدهم بلزاك في الروايات العديدة التي شكَّلت ما سمّاه «الكوميديا الإنسانية» من فرط واقعيتها ورومانسيتها في آن معاً.

نقرأ في شهادة لبودلير في حقّ بلزاك: «لا تبلغ شخوص الإلياذة سوى كعبك. (…)، وأنت يا بلزاك أكثر بطولة وأكثر شاعرية من بين الشخوص الذين أنجبتهم».

نجد في الطابق الأرضي غرفتين مخصّصتين للمعارض المؤقَّتة، والتي شهدت- وبمناسبة الليلة الأوروبية للمعارض- معرضاً حول الكتابة المرسومة، وتتيح هذه التظاهرة التأكيد على كون بلزاك كان من أوائل الكتّاب الذين مارسوا هذا النوع من الخطّ، خاصة في روايته «الطلسم».

وعُدَّت هذه المناسبة فرصة للعودة إلى أعمال حركة «كوبرا»، وخاصّة كريستيان دوترومون الذي ابتكر ما يسمى بـ(اللوغوغرام) في بداية الستينيات.



عزلة حميمة

يفتقر منزل بلزاك إلى الكثير من الأغراض الخاصّة والحميمية التي بوسعها أن تعيد إلى الأذهان شخصية بلزاك والحياة اليومية التي خبرها في هذا المكان. لذلك يحسّ الزائر- وهو يطوف أرجاء البيت- بخواء فظيع. تنتظر بين لحظة وأخرى أن تلمح روح بلزاك ترفرف في ركن من الأركان، لكنك لن تظفر بتلك الرؤيا، سوى في العودة إلى كتاباته وإعادة البحث فيها عن جدوى الرجوع إلى قراءته في عصرنا.

لم يفتح منزل بلزاك هذا للعموم إلا في سنة 1908، بإيعاز من لويس بودييه دوغويومون الذي كان أول محافظ له، كان ذلك نوعاً من ردّ الاعتبار له بعدما تُرك في سنواته الأخيرة شبه وحيد، تنكَّر له الجميع، وبقي فريسة أمراض كثيرة اجتمعت على بدنه وذهنه، ونَهَشته نهشاً. 

أكان هو الذي لم يُرِد أن يستقبل أحداً حتى في لحظات احتضاره ونزعه الأخير؟ أم أن أصدقاءه، مثل تيوفيل غوتييه، لم يكونوا على علم بما آل إليه حاله؟

من المؤكّد أن فيكتور هيغو قد زاره في الليلة التي مات فيها، وذكر أنه ضغط على يده المتصبِّبة عرقاً، ولم يستجب لتلك الإشارة نهائياً، كما أنه أسهب في وصف الحالة السيِّئة التي كان عليها بلزاك في سرير موته. ونشر كاتب وصحافي آخر هو أوكتاف ميربو- فيما بعد- تقريراً مطوّلاً عن موت بلزاك فاق فيه هيغو في بشاعة الوصف وذكر التفاصيل.

هناك من قال إن القهوة التي أدمنها بلزاك هي التي أودت بحياته، غير أن زواجه من السيدة هانسكا، والظروف الجديدة التي فرضتها عليه الحياة الزوجية وإكراهاتها، قد يكون له تأثير في التدهور الذي أَلَمَّ بصحّته، وبتفاقم أمراضه فيما بعد، خاصّة بعدما صارت هانسكا تُواعد الفنان جان جيغو.

قد يكون كل هذا هو ما جعل الشاعر ألفريد دو فينيي يقول، بنوع من إيحاء، لا يخلو من دعابة مُرّة: إن الزواج هو ما فتك ببلزاك!
_______
*الدوحة

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *