*لطفية الدليمي
قلبي الذي يحدس أبعد مما يدعي العقل كان يرتعش وأنا أحثه على الثبات وتحفيز الإرادة: استنهض قوتك، لا تبكِ، اصمد، اغتذِ على الأحلام بعيدة المنال، تسلح بالرؤى واسترجع مجازفات الصبا في البساتين وضفاف الأنهار، كان نهر ديالى يناديني، أهرع إليه فيعانقني أنين الصفصاف وأغاني الغجر، تستنجد بي شجرة السدر حين احتضار أوراقها وأنا أطارد القنافذ وجراء الثعالب وأعايش الحياة والموت كل آن وسط الطبيعة، لا تنصت يا قلبي إلى نحيبي أنا المرأة الخوافة التي دجنتها المدينة فشحبت روحها، تذكّر أنك قلب تلك الفتاة البرّية التي لطالما غامرت بين الحقول والجداول ونبات العليق وأعشاش اللقالق والزوارق وتاهت بين خيام الغجر وآثار أشنونا السومرية وصحبت الجدات راويات الحكايا. لا تخش الموت بل تذكر قصص الحب الساذجة والمجنحة الكذوب التي يستعيرها الفتيان من قصائد الشعراء الراحلين.
يكتب نيكوس كازانتزاكيس في كتابه “الحديقة الصخرية”:
احفر عميقا أكثر، ما الذي تراه؟ (لا أرى شيئا، ليل ساكن كثيف كالموت، لا بدّ أنه الموت)، احفر عميقا أكثر، وأكثر.. (آه لا أستطيع اختراق الحاجز المظلم، أسمع أصواتا وبكاء، أسمع خفق أجنحة على الشاطئ الآخر)،لا تبكِ، لا تبكِ، إنها ليست على الشاطئ الآخر، الأصوات والأجنحة والبكاء هي قلبك أنت.
أجل إنه قلبي الذي يخفق كطائر جريح، أتعثر بوهج الشمس وتلاحقني أصوات الموت الفضاحة، أفكر بسذاجة الأمل وأسى القنوط، في الطريق ثمة أناس يهللون لخراب البلاد ويحتفلون بالموت، بينما يتمزق الزمن ويتلاشى بين أكداس الرماد وركام المنازل المدكوكة، ينحدر التاريخ إلى الهاوية ساقطا على رأسه وتطحنه الكارثة لتعيد تشكيله وهي تجبله بالدم والجثث، والكل يمشي مسرنما في جنازة الغد.
وحدي أسير في طرقات بغداد كمثل أغنية حزينة تتردد في مقام الحجاز، وحولي ما يشبه الجنون الجماعي، الغرائز تنفلت وحشية مهووسة بالكراهية ومخدوعة بسراب الحرية.. وحدي أحدق في السماء وأفرغ قلبي من أهواء الحياة خطوة بعد أخرى أغدو فراغا تمر عبره الأصوات ووهجات اللهب ودخان الحريق، لا أدري إلى أي الجهات أمضي، ومن جسدي تتناثر الأحلام الميتة والرؤى وصور المفقودين وتاريخ المدينة وبعض ذكريات عذبة، وجدت امرأة عجوزا تحتمي من النار وراء حاوية قمامة وقد تناثرت شظايا الزجاج حولها وهي تحدق في المنزل المحترق وتصرخ من هلع: كلهم كانوا هنا، كانوا يتناولون فطورهم، كلهم اندفنوا تحت الحطام، لمست رأسها المربوط بمنديل أسود مزخرف بالدم، قلت آخذها إلى ملاذ قريب، أسعفها وأطعمها، لكنها تشبثت بالمكان وهي تولول: لا، لا، لا، لن أتركهم هنا، كلهم هنا لن أتركهم وحدهم، لن أتركهم.
كل شيء كان يتهاوى تحت مطرقة الخديعة حيث يعاد تشكيل وجه الخراب، كان الموت يضحك جذلا وهو يلتهم الأجساد والمباني والنهود وجدائل الشعر والأصابع المختمة بمحابس العرس وأقدام الرضع الصغيرة المحترقة ورسائل الحب التي تهاوت من حقيبة فتاة باغتتها رصاصة.
II
أعبر جسر الجمهورية إلى ساحـة التحرير، شجر ناعس تحت غبار عاصفة رملية حمراء، نصب الحرية مكبل برائحة الرصاص وبخار الموت، الكتل البرونزية المعلقة كالأضاحي فوق النصب تنز دموعا ورملا أحمر، الحرية حزينة كمراهقة فقدت بوصلة الجسد في دوار التفتح، لا أحد يفقه ماهيتها ولا أحد يحميها من جنون عشاقها الحمقى، وعْـدُ الحرية بلغ عتباتنا فإذا هو كصفقة مختلة، كشراء كثبان رملية في ليلة العاصفة.
أستقل سيارة تاكسي عتيقة اقتنع سائقها أن يجازف بعد أن أغريته بمضاعفة الأجرة، نجتاز عددا من نقاط التفتيش التي تستوقفنا بإطلاق الرصاص من البنادق الكلاشنيكوف، احتمال الإصابة والموت يقودني إلى قدر أتوقعه، قد تصيبنا أنا والسائق الغضوب رصاصات عشوائية من أحدهم لحظة وقوفنا، السائق يهمهم: تورطنا يا أختي، ما كان لي أن أعبر إلى جانب الرصافة، ورطتِني يا بنت الناس لو احترقت سيارتي من يعوضني، من يعيل أسرتي؟
III
المدينة تحلم أن تكون بغداد أخرى، في حلمها ينتابها جنون فاتك وهي تعوي كذئبة جريحة، وعلى الأرض المستباحة تركع بنات يافعات يبيعهن النخاسون تحت نصب الحرية، صبايا مخطوفات حجبوا وجوههن عن المارة وأحاط بهن ملثمون مسلحون، يزايد عليهن تحت ظل النصب الرخامي رجال بدشاديش ناصعة ويصحبون بعضهن في سيارات دفع رباعي مظللة النوافذ إلى المجهول، يعبرون بهن الحدود إلى الجنوب والغرب، إلى الصحراء، إلى متاهة عبودية سوداء في بلاد عربية بلا قلب، الصفصاف الباكي ينحني على صورة المأساة ويذرف خضرته، فتاة في الثالثة عشرة أو أكثر قليلا تنتحب وتخمش وجهها يأسا وتنادي: (يابا يابا خلصوني منهم يابا).
صوت طائر الشقراق ملون الريش -طائر إينانا كسير الجناح- ينوح في المشهد مرددا مرثيات إينانا لأهل البلاد التي حلمت بفردوس دلمون فإذا بها تغوص في وحل البدايات النتنة وتنحدر إلى حضيض الجحيم.
IV
الخميس 8 مايو 2003
تصدعت ممرات بيتي وانخسفت بعد سلسلة انفجارات في شارعنا، نتأت البلاطات وحدثت صدوع في أرضية الغرف والجدران، أتعثر طوال الوقت وسط الظلمات، الهياج يعم كل شيء، قطعان الوحوش المخبولة تقتل امرأة في الحي القريب بعد اغتصابها وتلقي بالجثة على الرصيف…
ذخيرتي من الشموع تكاد تنفد، جسدي يرتعش في رجة الهلع، أتأمل نفسي في المرآة المضببة فلا أعرفني، امرأة غريبة شاحبة تسكن الجسد الحزين، لا أتفجع ولا أبكي، الروح وحدها تنشج، لا أنتحب بل أتدبر أمر كتابة مقالة طويلة عن نصب الحرية وهذر المنجمين عن ذلك المنجم الذي أعلن في جريدة صدرت بعد الاحتلال أن نصب الحرية عمل من السحر الأسود وهو سبب الكوارث التي ألمّت ببغداد ويدعو إلى إزالة النصب فقد اكتشف -ويا للكارثة- إن الفنان الراحل جواد سليم هو سبب المأساة العراقية المستديمة…
نور شمعة هزيل يرعش الظلال على الستائر، ظلي يرتجف وجسدي يختض وأنا أسمع إطلاق الرصاص أمام حديقة البيت…
هل سيتاح للمشعوذ والمنجم أن يغتال جواد سليم الميت مرتين، هل سيشطب القاتل أجسادنا المنتحبة من لائحة الأحياء هذا المساء أو ضحى يوم خارج التقويم؟
في السكون المريب بعد الانفجارات أنصت لنحيب الجسد، أنصت للخوف يتردد لازمة موسيقية تطفح مع الأنفاس.
أجسادنا، ما أجسادنا؟ هلام يتشكل ويتجمد في عتمة الغرف، والروح ضوء كتيم محبوس في الزوايا، أجسادنا مجبولة من نفط ودم، ماعادت الحياة تليق بنا أو نليق بها، مثل البلد إلا قليلا فنحن لا نشبه إلا البلاد التي اكتمل جنونها، البلاد التي ليست لنا، البلاد التي ليست لأحد.
يرن جهاز تلفون الثريا، الشيء الوحيد الذي يربطني بالعالم، أهرع إلى الحديقة لعلني أستطيع التقاط المكالمة في الفضاء المفتوح عند شجرة النارنج، صوت ابني يهاتفني من بيرن: ماما، ما كان لك أن تبقي وحيدة في الجحيم، كفي عن عنادك واخرجي من بغداد.
– لا تخف، لا يزال الموت بمنأى عن خطوتي.
بعد المكالمة أنتحب وحدي، كنت أكذب، كنت أكابر أمامهم، أمام الموت، أمام القاتل المتربص بي، أدّعي بسالة لا أملكها، أرتعش هلعا وأخاف الموت كجميع الخائفين، علام أبقى هنا وأقترف النكران، أأخادع نفسي الأمارة بشجاعة زائفة؟
أضع في حقيبة صغيرة نسخة واحدة من جميع كتبي المنشورة وبضع مسودات، سأحملها معي حين الفرار.
V
النفط يتفصد من أجسادنا
أول الضحى، يدفعني الخوف والأمل والرهبة ووحشة القلب على الخروج من زنزانة البيت لأقف في صف طويل تحت عاصفة ترابية خانقة قرب محطة الوقود لعلني أحصل على خمسة ليترات من النفط الثمين أو البنزين الذهبي لأشغل مولدة الكهرباء الصغيرة وأحظى ببعض نور.
لا أعثر على خبز لدى باعة الأرصفة، المخابز مغلقة، والدكاكين أحرقت على الهوية، حيواتنا يلتهمها الوحش المولود من يأسنا وجنوننا.
أشباح النساء المرعوبات تركض محجوبة بالعباءات والشالات السود، يا للمفارقة بعض الصبيان يلعبون الكرة في الشوارع المقفرة، وإرهابيو القاعدة يتقافزون بين أسيجة حدائقنا ويتركون وراءهم خطوطا من دم وأغلفة الرصاص.
النفط يتفصد من غرين أجسادنا، أشم عبقه الثقيل يسيل بين رعبي وأرقي ويلطخ وسادتي، يجري نهر لهب ويحرق أبعد أحلامنا ثم يتفتح ترفا ويخوتا وطائرات خاصة وغانيات في جهات الآخرين، النفط لحم الجسد وعصب البلاد وهو ليس سوى خدعة الماس السائل ينبثق ذوبانا من قلب الأرض وليس غير شهقة امرأة تنوح عند الباب الأوسط لسور بغداد بعد مقتل ولدها، ولا تبصر غير رماد تذروه رياح الجنون، لا تسمع سوى أنين السلالات الموسومة بختم الزوال.
مساء الوحشة المرقشة بالرصاص، أعزز أبواب البيت بالمزاليج والأقفال، أكمن في إحدى الزوايا بعيدا عن مرمى رصاص المتقاتلين، أتعطر بالنفط، أشهق أنفاسي بالبنزين، أنام في رداء الغاز كمومياء مشتعلة.
يعلم النفط أنه سيّد سادات العالم وبه تدوم الدول أو تزول، ترى من أي بئر يستقي الموت خلوده؟ من يدل الموت كل آونة على رائحتنا، أهو النفط أم لعنة الإله تموز تلاحقنا من جيل إلى جيل؟
VI
السبت 4 سبتمبر 2004
سفينة زيو سيدرا ملاح الطوفان
قالوا: ذلك شرط التراجيديا، دعوا الطوفان يطغى دما، ذلك شرط ظهور المنقذ وقيامه من غيبته، خضبوا المدن واللغة بالدم ليقوم هادي الأنام من سباته.
قالوا: علقوا رؤوس النساء على باب الطلسم في سور بغداد فتلك بشرى الخاتمة ودنوّ الخلاص.
تناثرت الأقاويل والتأويلات حول ملاحي السفينة الغارقة، نفى الكثيرون قصة الفلك، قيل إن رسول الخلاص لم ينشئ الفلك من القصب وما طلا قاعه بالقار كما أمره الصوت السماوي، ولم يحمل من كل الكائنات أزواجا، ماذا صحب الملاح السومري زيو سيدرا في الفلك المنكود، أذكورا مخصيين، أم نساء عواقر، أم مسوخا ستسود الأرض بحدّ السيف، أم أزواج مومياءات وحبوب منع الحبّ؟
لا أحد بوسعه معرفة الحقيقة، قيل إن الملاح زيو سيدرا عوّذّ الفلك بالطلاسم وكائنات النار والتمائم، فما عدنا نراها أو نميزها عن لجج الموج، قيل إن الفلك شفاف يعبره البرق كبلورة صافية، فأين الكائنات؟
بوسعنا أن نصدّق كل هذا ونخادع وعينا إن شئنا السلامة، أو نشيح عن قصة الغرق وننسى الخديعة ونتابع سيل الحكايات التي تروى كما يروق لملفقي التاريخ ومعلقي الفضائيات، غير أن الناس لا يزالون مشغولين بتأويل الحكاية والارتياب بالتفاصيل وتأويل التأويلات والظنون.
صبي واحد كان يرقب فوضى التفاسير ويسخر من ظنوننا ويتفرج على حيرتنا وهو مستلق تحت نصب الحرية يرسل إشارات هزء بنا.
هل السخرية تعويذة الفتيان ضدّ الهلاك المباح؟
من علّم الفتى العابق باللقاح أن الفلك أكذوبة من صنع يأسنا؟ أهو الذي أوحى لنا أن نحلم بأحلامنا لنفقدها في العصف، ومن تراه لقن الفتى حكمة أن لا يؤمن بحكمة أبدا؟
لم نسأله، كان منشغلا بلهاثه، لم نقترب منه، كان يستحلب النشوة من فورة الجسد الفتيّ ليدرأ الموت عن لحظة البلوغ.
VII
لا أصدقاء في وحشة الحرب
وحيدة أطوف شوارع البلد الذي يلفقون زمنه من نفط ودم وخرافة، هويتي خارطة قديمة مرسومة بالزعفران لبغداد العباسية، أحتفظ بها داخل مغلف جلدي في حقيبة يد، مع وثائق قد تفشل في إثبات شخصيتي إذا ما تعرضتُ للموت، وتحولتُ إلى جثة مجهولة الهوية، لا أصدقاء في وحشة الحرب، الصداقة انزوت في أنانية الأرواح المرتجفة، لا أحد، لا مقدسات بعدُ كالتي يدعيها العشاق والأصدقاء، مقدّسهم الوحيد أن يمدّوا حيواتهم برهة أطول في حفل الموت الصاخب.
لا وجود لما يدّعيه الكتّاب عن القيم وصناعة الأمل، بأيّة مادة يصنع الأمل، والرماد وحده يغبّر وجوهنا ويحدّد مسارات الدموع؟
الأعاجيب توارت، جسدي يترمل كل ليلة في حفل الرصاص، فأموت ميتات ناقصة تشل وعيي وتبلبلني.
_______
*فصل من كتاب يوميات الحربا.
*المصدر: مجلة الجديد