*محمد نوار
خاص ( ثقافات )
إحدى الروايات الملفتة للانتباه هي (تفضل معنا و… ) للقاص والروائي مهدي علي ازبين ولعل العتبة الأولى التي نريد أن نقف عندها في هذا العمل هو العنوان الذي جاء على صيغة جملة فعلية يتصدرها فعل الأمر “تفضل” الذي يدل على اللياقة والذوق في المخاطبة ثم مفردة “معنا” المتكونة من حرف الجر( مع ) الدال على المشاركة والضمير ( نا ) والذي يدل على المشاركين . وعليه فإن هذه الجملة تشير إلى الاشتراك في العمل ، وعادة يأتي القصد في هذا الفعل إيجابياً مع من يخاطب به . ولكن وجود حرف الواو والكلام المحذوف والمشار إليه بالنقاط الثلاثة في نهاية الجملة المراد منه معرفة الغاية من الجملة الفعلية (تفضل معنا) والتي سوف تحكي لنا التفاصيل في الرواية لتعطي للمتلقي (البنية الدلالية) في قول السارد “تفضل معنا” .
نجد في المبنى الحكائي السارد المشارك له الحضور الواضح منذ البداية وهو من يخبرنا ثم هناك سارد آخر هو الفتاة والتي لها حضور بسيط وسارد آخر شقيق السارد الأول له حضور أقل من الفتاة ، ونلحظ أن طبيعة السرد سينمائي فالسارد ينقلنا من مشهد إلى آخر من خلال استباقين وعشرة استرجاعات عن طريق الصحو والحلم وهي تتمحور حول تجربة الذات تكشف لنا التفاصيل بالرغم من أن زمن الرواية لا يتعدى اليوم الواحد متمثلاً برحلة طائرة من مكان البطل السارد العاشق إلى بلد الأديبة أو العاشقة كما أن الملفت في شخصيات الرواية كونها وردت دون الأسماء والتي هي تركيب يقوم به القارىء أكثر مما يقوم به النص وأن هويتها موزعة في النص عبر الأوصاف والخصائص التي تستند لها وعلى اعتبار أن جملة “تفضل معنا” لم تكن تقصد شخصاً معيناً لذاته تقال له وإنما ممكن أن تقال لأي شخص ، بمعنى آخر ممكن تحصل مع الجميع دون استثناء الذي يحدد هو المكان والصدفة والحظ فقط . تشكلت ملفوظات السرد على امتداد زمن الرواية من الفعل المضارع مما أعطى حركة مستمرة في حين غابت تصاريف الأفعال الأخرى إلا ما ندر(تبتهج بصورتها وهي ترنو إلى البعيد ، شعاعها يتابع الكون المتمدن . تتعلثم الخطى حين تلج المدخل . أعدل من هندامي ، أضغط على موضع قلبي ، تتقطع أنفاسي ، تهفو للحظة تلاقي العيون ، سيتأين الهواء ، يتكهرب الإحساس . هل يقدح برق من فرط الصدمة . قلبي يعزف بفوضى ) . هذا عندما يكون السارد العاشق وهو المتمركز في المتن الروائي بالقياس إلى الشخصية الثانية والتي يكون حضورها قليلاً لكن عندما تأتي (الفتاة ) وتكون هي السارد تختلف صيغة تصريف الأفعال إذ نراها ترد بصيغة الماضي وغالباً هي أفعال إحساس وشعور( انفعلت ،شعرت ) . ثم أن الرواية تتحدث عن وقائع نرى التمازج بينهما وقعا في مرحلتين زمنيتين ما قبل عام 2003 وما بعده مما يعني عدم تغيير الحال للفرد وما يواجهه في سلوك السلطتين من تعسف اتجاه ابناء شعبهما ( أرفع رأسي .. أتامل صورة الرئيس بالأسود والأبيض .. أقرأ الأبوة في ملامحه ، وفي عينيه الحنان، ومن صلعته البهية يطل الوقار ممزوجاً بالألفة ، تلوح على محياه ابتسامة. أماحك زميلي :
– السيد الرئيس ينظر الينا ، ماذا يقول عنك : رجل ويبكي )
هذا المقطع داخل السجن يشير إلى نهاية الستينيات أو بداية السبعينيات من القرن الماضي إذ نلحظ وصف الرئيس من خلال صورته المعلقة على الجدار والتي هي بالأسود والأبيض وهذان اللونان فيهما إشارة إلى تلك المرحلة التي كان يجري التصوير فيها بالأسود والأبيض. أضف إلى ذلك أن الصفات الواردة في المقطع تحدد رئيساً بعينه وإن لم تذكر اسمه ( أحمد حسن البكر ) .
ثم لنقرأ هذا المقطع (يتبرع لنا خبراء السجون بشرح احتمالات حالتنا قد تكون كيدية يعني “أكو علُاس بلموضوع” أو مشتبه بكم ، أو أنهم يريدون تحقيق منجز كي يثبتوا للإعلام أن الوضع تحت السيطرة، وإذا (رهمت) تهمتكم على وفق المادة 4 إرهاب سترحلون الليلة ، وأما الجنائية أو التهم الأخرى فتعني التوقيف لأيام قد تطول ) .
هذا المقطع يشير إلى مرحلة ما بعد 2003 إذ نرى المفردات المتداولة بين الشخصيات قد ظهرت في المجتمع بعد هذا التاريخ مما يشير إلى أن اللغة اختلفت بين المرحلتين غير أن اسلوب البطش ذاته الذي تستخدمه كلتا السلطتين في التعامل مع الأفراد ثم اختفاء دور المرأة في المرحلتين مما يعني أن طبيعة المجتمع ذكورية سلبت حقها وصودر دورها في البناء وهو مؤشر انحطاط أو تراجع للبنية الثقافية .
في هذا العمل نرى الذات (السارد ) تبنى على أساس كشف المظلم والمسكوت عنه أمام سلطة كليانية تستحوذ على كل مفاصل المجتمع وتحول الفرد إلى مسخ او مادة بدون روح أو بمعنى فاقده لقيمة وجودها إلا في ما ترسمه لها من مسار.
حين دخلنا بيت ( الرفيق ) رأيته يتوسط عشب حديقة كبيرة ، أمامه ما لذ وطاب من الطعام والشراب ..
صاح بعجرفة :
– ها (جبتوه)
جاءه الجواب مغلفاً بألوان البطولة والخنوع :
– نعم رفيق .. (شنو) يعصي على الحزب ؟
– (عفيه ) بالأبطال
أن من يحاول الانحياز إلى السلطة يفقد دوره الفاعل مثلما هو الرفيق الحزبي في المقطع السابق فهو غير معني بالحقيقة والقيم بقدر امتثاله للأوامر مقابل إعطائه المال من أجل إرضاء رغباته وأن ترتب على ذلك فقدان هويته كأنسان ، فبعدما نعت ممن جاء به الرفاق بأبشع الصفات ما لبث أن تراجع عنها بل حتى استبدلها بأخرى فيها المديح والإطراء .
غير أن السارد بقي طيلة الرحلة بين الحلم واليقظة بالرغم من الحلم هي الفترة الحقيقية التي عاشها وقد كشفت لنا أبعاد الشخصية في الحياة وكيف كانت كوابيس أو تفاصيل قاسية أمام حلم لم يتحقق وهو ( الالتقاء بالحبيبة ) فكيف بالخلاص من سلطة يرى أن الأنزواء بعيداً عنها أفضل له من مواجهتها وإن كان يتمنى ذلك مثلما هو حال الآخرين ومنهم شقيقه (السارد الثالث) عندما يهشم رأس البصل بقبضته وما له من دلالة وهو عائد من عند الرفيق الحزبي “صوت وأداة السلطة” .
تأتي زوجته بـ (صينية ) يتوسطها (تشريب) البامياء ، تضعها على الأرض . نترك الأريكة، نحتضن (صينية ) ، أدس لقمة فاترة في فمي :
– فهِّمني ما لذي جرى ؟
تبتسم الحروف على شفتيه ، يتهشم رأس بصل تحت قبضته .
يلفت النظر في هذه الرواية اأضا شكلها المركب والمتكون من مرحلتين متجاورتين زمنياً ومتداخلتين مع بعضهما ليس فيهما قوانين تحكم الجميع أو حقوق ينعم بها الناس ثم صمت أو تراجع المثقف عن دوره أمام سلطات دكتاتورية لا تسمع له أو حتى أن تقيم له وزناً.
الأستاذ مهدي علي ازبين من أقدر الكتاب الذين تعرفت عليهم، غالبا ماتشع نصوصه بارهاصات يلتقطها بعناية فائقة وبلغة منسابة دقيقة في مدلولاتها. تحياتي الخالصة للكاتب وللأستاذ محد/ علي غازي