*علي عبد الأمير
في 5 ايار 1991 وعلى صدر صفحاتها الأول، نشرت الصحف العربية الكبرى خبر وفاة آخر عمالقة الفن العربي، الموسيقار محمد عبد الوهاب. ومع استعادة ذكرى رحيله السنوية، نستعيد عبد الوهاب الظاهرة التي حفرت موقعها في الموسيقى العربية منذ أوائل القرن العشرين، ونتابع الإسم الذي بنى موسيقاه وفق نداء علمي ضارباً عرض الحائط بكل التهويل الذي كانت تحظى به الموسيقى التي تعتمد التناقل الشفاهي و”الارتجال”، وعبر هذا الدأب أدخل عبد الوهاب تغييرات عميقة أحاطت بصورة الموسيقي الشخصية وبحضوره الاجتماعي، بل ان صورته صانع ألحان من نوع نادر ظلت ملازمة له حتى قبيل رحيله ، فقال كلمته الأخيرة في أغنية من قماشة الألحان الكبيرة هي “من غير ليه”، مذكّراً ايانا بأن الأساتذة من مستواه فقط هم القادرون على إدهاشنا بعمل موسيقي- غنائي كبير·
هنا كتابة عن الرجل – الظاهرة وعن الموسيقي فيه، ومسار الأغنية العربية حسب طريقته، هنا سنقدم أشياء عن أصوله الاجتماعية والانسانية والثقافية وبما يشبه “بورتريت” شخصي. كل هذا تحية لمن قدم للموسيقى العربية جهداً جعلها تقدم صورة عميقة المعنى عن الإنسان العربي ولعقود طويلة.
الحياة تتفتح … الموسيقى تشبهها
بلغ محمد عبد الوهاب مرحلة من النضج، عند أواسط ثلاثنيات القرن الفائت، وفي فترة كانت المجتمعات العربية تتفتح على أنساق جديدة في العيش واكتساب الخبرات، بل ان رياح التغيير كانت وصلت الى كل مكان وبالذات في مصر، حيث العمق الحضاري والمعرفي، وبدأت محاولات ترسيخ “الحداثة” في البناء الاقتصادي الحر، وبناء تعليم جامعي بحسب أساطين المعرفة المعاصرة ورموز النهضة الفكرية، ومواجهة الهيمنة الأجنبية في صورتها الكولونيالية عبر المقاومة السلمية في نشاط سياسي مثابر، وتنوير جدي تولته صحافة حرة ووحياة أدبية وفكرية كانت تنتج أسئلتها المصرية الموضوعية ضمن دعوات للانفتاح على الآخر والاتصال بمعارفه.
في أجواء محتدمة كتلك، أسس جيل النهضة في مصر ملامحه العلمية والفكرية والاقتصادية، وفي مجالات الأدب والفنون والتربية والتعليم، راحت المعرفة تتقدم دون أن تصطدم بالمؤسسة الدينية والفكرية التقليدية التي كان يشكلها ” الأزهر”، بل ان سر قوة جيل النهضة في مصر، انه كان بصدد حداثة تأصيلية، فهو بدأ المغايرة من داخل تلك المؤسسة صاحبة السطوة الدينية والفكرية والسياسية، وكان معظم ممثلي جيل التنوير في مصر هم ممن نهلوا معارفهم الاولية من “الأزهر”.
كان عبد الوهاب أيقن ان التعبير بوسائل فنية متقدمة عن طموحات اجتماعية بحياة افضل، هو التحديث الحقيقي، مثلما أيقن ان مراجعته لنشأته في وسط اجتماعي وديني وتربوي “تقليدي” وتقليبه الموروث من خلال وجهات نظر متفحصة ونقدية، لا يعنيان تنكره لمرجعياته الأولى مثلما توصل الى قناعة من ان لا شيء مقدسا ولا يمكن المساس به، في تلك المرجعيات.
في أجواء وعي شخصي كهذه، وصل موسيقارنا الراحل الى القمة، بعد رحلة عسيرة حقاً مع الغناء وتعلم الموسيقى، فمن الكتاتيب وحفظ القرآن الكريم الى جلسات الصبية وترديد أغنيات الشيخ سلامة حجازي التي كانت ذائعة الصيت أيامها، الى التعرف لأول مرة على المسرح الغنائي الذي كان يختصر مجمل الفنون·هناك انبهر الفتى محمد عبدالوهاب بأجواء بدت مغايرة لما كان يعيش: سادة أنيقون ونساء بملابس سهرة تكشف عن المفاتن، ولكن ذلك لم يجعله مرتبكاً وهو يؤدي بعض الأغنيات بين فصول المسرحيات·
وحين قامت ثورة 1919، اغلقت المسارح والملاهي واكثر المقاهي، وظرف كهذا كان بمثابة المناسبة التي لولاها لما عرفنا عبد الوهاب موهبة موسيقية ودراية علمية متمكنة من فنون النغم الرفيع، حيث درس بعد اغلاق المسارح في “النادي الشرقي للموسيقى”، وهناك تعلم قواعد الموسيقى وتاريخها ومدارسها، تعلم “النوطة”، واتقن العزف على العود، ثم عين لاحقاً مدرساً للموسيقى والاناشيد، ثم عاد بمستواه الجديد، الذي ارتقى عبره معرفة وذائقة، الى أمسيات الغناء في المسارح وهذه المرة مع فرقة “مسرح عبد الرحمن رشدي” التي تميزت بمستواها الراقي وأمسياتها الفنية التي كانت تحاول ان تكون قريبة من مثيلاتها في مسارح أوروبا·
رفقة أحمد شوقي: الموسيقى والغناء بوصفهما معرفة ثقافية
الحدث المؤثر في مسار عبدالوهاب فنياً وحياتياً كان اللقاء بينه وبين الشاعر أحمد شوقي، وتكوينهما لاحقاً (1924-1932) ثنائياً صاغ أحلام شباب تلك الفترة وما تلاها، ومن خلال “أمير الشعراء” تعرف عبدالوهاب على جهابذة الفكر والقلم في ذلك العصر، عبر مجالس الأدب والفكر، فجالس طه حسين في جريدته “السياسة”، ورؤساء التحرير في الجرائد الكبرى وتعرف أيضاً على المجموعة المقابلة التي كانت تشكل الضد بالنسبة لشوقي، وبحياد تام كان يراقب قوة الحوار، وادارة الصراع فكرياً وثقافياً·
في جو كهذا تعلم عبد الوهاب، رصانة المفردة وتأثيرها على جو الأغنية حين تجد الموسيقى المناسبة، فصاغ من شعر شوقي اعمالاً غنائية، لم تزل حين نسمعها ترن في خواطرنا وتحملنا الى أجواء ذلك العصر الذي بدأ صوت عبد الوهاب مشابهاً له، بسيط تماماً ولكنه عميق، حكاياته موجزة ولكنها بليغة·
فنان “تقدمي”
وصف عبد الوهاب بأنه فنان مجدد، وهذا حق، فانه كان يجدد حتى قوالبه اللحنية الخاصة به، كان تعبيرياً بسيطا، ثم صاغ ألحاناً أصبحت أكثر غنى في تلويناتها الموسيقية، فكم من الزخرفة اللحنية فيها ولكن دونما إسفاف بل دلالة لتقدم وعلو شأن في الصنعة، ولانه فنان دائم التطلع الى أمام، استطاع ان يجدد موسيقاه وجانباً مهماً من الموسيقى العربية وقد لا يبدو مفاجئاً قبوله بتقديم اغنياته او اعادة توزيعها بشكل جديد، ولا بد هنا من ذكر حتى سعادته وهو يرى ألحانه وقد ادخلها الموسيقار عمر خيرت وغيره من موسيقيين عرب وأجانب في منظومة اليكترونية، وحسب طريقة معاصرة في التوزيع الموسيقي·
هذا الفكر الثاقب المنتمي الى المستقبل، والاتصال بالمواهب الجديدة ومؤازرتها، جعلا عبد الوهاب احد أكثر الفنانين العرب ” تقدمية”، اذا كان الأمر معنيا بالتجديد وترسيخ القيم المولدة للفن الرفيع . ولم يكن عبدالوهاب يفرط في موقع فرادته الموسيقية (حتى انه حين تعاون مع ام كلثوم، صاغ “كوكب شرق” مختلفة، انها أم كلثوم كما في ألحانه وشخصيته، وليست كما هي صاحبة الأنا العالية والمزاج الشخصي المتعجرف)، وهو كعادته، يحسب كل شيء بالقيراط، والداخلون الى قاعة ألحانه الذهبية هم غيرهم خارجها، فمن ينسى أعماله الخالدة لراحل كبير آخر هو عبد الحليم حافظ؟، من ينسى نسجه ألحاناً تناسب صوت نجاة الصغيرة الشفاف، واخرى لبراعة معهودة عند وردة الجزائرية، بل وحتى صياغة لحنية براقة، وان كانت نادرة، تليق بمكانة خاصة لفيروز·
“تحديث” عبد الوهاب الدائم لموسيقاه جعله يتقرب من “اقتباس” – نقولها بتحفظ شديد- أعمال موسيقية كلاسيكية غربية، حين أدخل الى الحانه حركات من مؤلفات سيمفونية وألحان وصياغات موسيقية أوروبية ولاتينية، وهذا كان يرده الى مسألة معايشة العصر، ويقول في حديث له: “كانت فترات التطور سريعة، والزمن عموماً يفرض معايشته ولونه” ·وكان عبد الوهاب مع توسيع الفرقة الموسيقية المصاحبة للمغني ومع إدخال أكبر عدد من الآلات، حتى الغربية منها، والمدافع عن ضرورة المقدمات الموسيقية المطولة التي تسبق الغناء، كونها مدخلاً يهيئ المتلقي لرفقة غنائية يرى أصلها موسيقى قبل كل شيء·
رؤية عبد الوهاب “المستقبلية” جعلته يرسم ملامح الأغنية العربية على أعتاب القرن الحادي والعشرين عبر جواب لسؤال وجهه اليه الناقد والباحث الياس سحاب: كيف ترى خط تطور الأغنية العربية بعد عبد الوهاب وجيله؟ فيأتي الجواب وقبل وفاته بأكثر من عشر سنوات “الأغنية العربية ستزداد قصرا مع الأيام، وستختفي القفلات المطربة التي يصرخ لها المستمع آه، والتي اسميها انا “النهايات السعيدة” للجمل الموسيقية العربية، وستتعدد شخصية الأغنية أكثر فتصبح معانيها أكثر تركيزا”.(2)
__________
(1): الجزء الأول من بحث عن صاحب الألحان المثيرة للجدل دائماً.
(2): الياس سحاب، كتاب “دفاعا عن الأغنية العربية”، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بيروت 1980.
_______
*المصدر: مدونة علي عبد الأمير