*عبد الإله بسكمار
خاص ( ثقافات )
يتأسس المتن الحكائي لنصوص الراحل محمد الفشتالي القصصية ( 1963- 2015) على مركزية المجال القصصي بامتداداته وأبعاده الإيحائية المستدعية لتعددية وكثافة المعاني والترميزات عبر الإحالات الاجتماعية والثقافية والنفسية للشخوص والكائنات القصصية ومعها نمذجة الأحداث والوقائع والمواقف المختلفة ( نعلم أن الشخوص كائنات ورقية بالطبع لكن لها مرجعياتها في الواقع ) ولعل هذا التخريج يهم امتدادا مكانيا معينا له أبعاده وتجلياته ، فالمكان يحدد المواقف والطباع والرؤى والنفسيات والأوضاع إلى حد بعيد ، ولا شك أنه من السهل على القارئ أن يحدد الإسم المعني وحتى الجغرافية المقصودة ، فنصوص القاص محمد الفشتالي رحمه الله موشومة بفضاء مدينة تازة …منها تستمد تلك النصوص مادتها الحكائية ، نقصد الفضاء المكاني ، سواء منه الامتداد المجالي / البشري بأبعاده المعلومة أو الأفق الرمزي الإيقوني …فتازة لا تشكل مسقط رأس الكاتب فحسب ، بل هي منبع ثري للحكي والتفاعل الفني أيضا ..وفي المحصلة ، لا يمكن للمبدع أن يكتب عن مكان لا يعرفه إلا إذا تعلق الأمر بالقصص السوريالي أو الغرائبي الذي تستمد عناصره رغم كل شيء من الواقع فيتم تصنيف العمل الفني بعد ذلك حسب التوليفة أو التركيبة التي تخضع لها تلك العناصر ضمن دينامية الكتابة وأفق التخييل والتلقي ومقصدية المبدع ، فمجال تازة بالنسبة للفشتالي فضاء حكي ومنبع طفولة وهو الإطار الواقعي للمادة الحكائية والعملية الإبداعية / السردية ، وليس هذا بجديد ولا غريب عند كل القصاصين والروائيين الذين تعاملوا مع الأمكنة كل حسب تصوره الثقافي والفني ….ووفق الشروط الذاتية والموضوعية .
يحضر المكان في النص الافتتاحي لمجموعة قطار المدينة (عن منشورات وزارة الثقافة وهي باكورة الأعمال القصصية القصيرة للراحل محمد الفشتالي ) والذي يحمل عنوان ” زمن الحلقة ” من خلال فضاء باب / برج الجمعة وهو المدخل الشرقي للمدينة سابقا (مكان أثري مفتوح يعود إلى العصر المريني وهو يجمع بين الطبيعي و التاريخي ) والحضور المكاني هنا لا يهم باب الجمعة / الراهن أو حتى الماضي بل هوهذا الزمن المركب … مجال الحكي وجموح المخيال الجماعي والفردي والاستمتاع بالسرد عبر الحكواتي ” سي سلام “”نتحلق حوله وعيوننا مثبتة إلى وجهه النوراني “” إنه كائن فريد غرس فينا فتنة القص ” ص 7 هو فضاء” قرعة الأنبياء ” كما تصفعنا العناوين الأخرى لحلقة باب الجمعة : ” تمني الطالب وعز المطلب ” ” الروض العاطر في نزهة الخاطر “” الديوان المحبوب لسيدي عبد الرحمان المجذوب “وغيرها من الإشارات والرموزوالصور والشخوص والبطولات التي تثير الفضول لدى أطفال الحقبة ومع الفضول أفقا فريدا من الغموض والسحر لا حد لهما….ساحة باب الجمعة ليست فضاء الحكي وحده بل هناك ” الصوسيس ” المشوي والبوابة المعتمة المفتوحة على المجال الحديث ( تازة السفلى أو الجديدة كاستنساخ ملتبس للمدينة الأوربية الكولونيالية المقابلة للمدينة العتيقة ) فهو إذن فضاء البين/ بين….عنده ينتهي الماضي / الحكي / السرد / الحلم ومنه نطل على الراهن / الحديث / الحاضر / المتحول / الوافد …غير أن النص يغتال حكيه وسرده وشخوصه من خلال النهاية المفجعة للحاكي أو الراوي ( الحلايقي ) والمقصود السي سلام الذي وُجد معلقا عند جذع شجرة أوكاليبتوس من تلك الأشجارالسامقة و المنتشرة على امتداد السور الأثري والأدراج المعلقة بين المدينتين كدلالة رمزية على نهاية زمن كامل ، لا نعرف من قتل من ؟ ” لكن القص كان قد انحبس في حنجرة السي سلام إلى الأبد ، ليستمر لغوا يقطن عميقا في المرابطين بحلقته ” ص 11 ….مهلا فالحكي يستمر في ذلك الحاضرالذي أصبح ماضيا ، لكن بصيغ أخرى عبر ما بدأ الأطفال يشاهدونه في الشاشة الكبرى بسينما الأطلس المجاورة لباب الجمعة من أفلام / قصص غربية وشرقية غزت السوق وقتذاك…. مصدرها الهند وهونج كونج وأمريكا ..ومع ذلك فزمن الحلقة كان قد أسر أعماق الروح وهو يسترجع أطيافه ومعمياته وخبايا قصصه كلما تسنى عبور الدرج للهابط إلى المدينة السفلى أو الصاعد إلى العليا …
عبر مدار آخر ، يتشكل المجال المكاني في قصة ” القنفذ ” كفضاء مجرد للمكر والخداع ولا ينتظر الشخوص هنا للقيام بما يطلب منهم سوى إشارات من هذا الكائن المتشوك القذر ” وما قيمة هذه الأشواك إن لم تنخر عظامهم ” ص 17 هنا طاولات الكلام وقاعات الكلام و إطارت الكلام وغرف الكلام …. طرق الكلام المعتمة والكلام يدور حول الكلام ….وفي كل دورة للكلام أو إشارة من القنفذ تتحول الكائنات إلى أشكال ومسوخات مختلفة …. تارة هي مثاقب حادة وتارة كراكيزمتحكم بها وتارة ثالثة كائنات سكرى ثملة ، لنكتشف في الأخير أن المكان في نص”القنفذ ” ليس إلا لعبة استدراجية لبؤرة التوتر الحقيقية في النص ” كان الكركوز اليافع ( يعني حديث العهد بألاعيب القنفذ) مستميتا في الانتظار بالخارج فقد اعتاد أن يحيا على فتات القنفذ ، رغم أنه يمقته ويغتابه ، وسيبقى يمقته ويلعنه ، ويتمسح به أيضا ويستقبل فتات موائده وقد يذبحه يوما ” ص 19 …
نلتقي ضمن المتن الحكائي لنفس المجموعة مع امتدادات مكانية اخرى للمدينة العتيقة ، في نص ” من يوميات زاهد ” عبر تقنية التقطيع الزمكاني والحدثي أيضا…. يطالعنا فضاء المقبرة حيث التميمة الساحرة الكفيلة بتحقيق الإفراج عن الفرَج والفرجة أيضا ….هي تميمة الكهل ” الصنهاجي ” الذي حفظ الستين حزبا بسيدي احمد زروق ثم استقرلوحده مع تمائمه وقواريره وعطوره بحانوت عبارة عن دهليز يتقاطع مع باب الشريعة ودرب الطبيب وأسوار المشور، ثم قبة السوق ( القلب النابض للمدينة العتيقة والذي عرف أمجادا متلاحقة مع الصنهاجي وأضرابه قبل أن يخبو نجمه ويخمل نشاطه ويتوارى عزه الغابر ) أغلب زبنائه من النساء …الصنهاجي يكتب التمائم طبعا ويرفض العمل بعد العصر وهو ما يثير الأطفال (القصد أطفال تلك الفترة أي السبعينيات وأوائل الثمانينيات ) فيتسلقون سور الدهليز ولم يكن الهدف سوى اصطياد بعض الدراهم بخيوط معدنية في عمق الجيوب ويجب أن يهيئوا أمرهم للمطاردة إذا اكتشفهم صاحبنا الصنهاجي .
يصارع قوى مجهولة تريد الإجهاز عليه وعلى دهليزه وصُرر نقوده المترتبة عن التمائم والأحجبة ….لكن دهليزه في الأخير يتكشف عن لعبة متشابكة من الأحابيل ومظاهر النصب والرفع والخفض والجر ” أين أنت ياحرامي ؟ نهبت رزقي وما فسخت ثقافي ( يعني عقمي ) ” يصيح أحد ضحاياه مولولا متوعدا إلى أن فاحت رائحة كريهة من الدهليز …اقتحمته الشرطة فاكتشفت جثة منتفخة قاربت التعفن واستنتج المحققون أنه انتحر…لكن كيف يتأتى ذلك والقفل يوصد الباب من الخارح ؟ وتكتمل الحلقة بأن حازت وريثة وحيدة هذا الدهليز الممتد المعتم وكان أن تزوجها رجل من القطط السمان وضع فوق باب الفقيه ” وكالة عقارية …..جميع عمليات البيع والشراء ” والمدينة عن آخرها ، تعلم أن الراحل كان معرضا عن الدنيا وحاجا وشيخا وعازبا لم …..
إن المكان المتمثل واقعيا مع توافقات فنية بهذه الدرجة او تلك ، يتحول إلى فضاء فوق واقعي في نص” الرجل الإطار” ،عبر كتابة هلامية تقترب من الفانتاستيك لكن الدلالات جلية واضحة من خلال الاستيعاب الإبداعي الفني ، إذ يتحرك كائن القصة هنا بين أوهامه وأفكاره ومعالم غروره ثم أمام شخوص أخرى تؤدي أدوارا مسرحية مسخة في عالم كله احتقار وصغار وذل وانبطاح ” قسماته نفسها خشبية صارمة ، إذا عزم فعل وإذا قرر نفذ لكن تأتي عليه هنيهات يكون فيها هشا ومتصاغرا ، حتى قد يرجع لأصله الكرتوني ” ص31 هذا الرجل الإطار الذي يتصاغر أمام الإطارات الحديدية ويتعالى أمام الكرتونية ، يجب والحالة هذه أن تتقن أصول الدس والتعامل مع ألوان تخشباته إذا أردت الاقتراب من عالمه المليء بالمقالب والمزالق والحربائيات وكل ذلك في سبيل حساباته الخاصة المخوصصة …الفضاء هنا لا يزيد عن مكتب فاره بكرسي عتيق( يرمز إلى السلطة أو بالأحرى إلى وهم السلطة )، ولن تنتهي هذه الدورة المقرفة كما قدمها النص إلابانقطاع الصلة بين شخوص القصة والعامل الذات و بخروج العامل الموضوع من هذا المكتب لا يلوي على شيء ، وهو المعني بضمير الخطاب “تناهى لسمعك صوت يدوي كصفعة من قبضة حديد أخذ يتخم رئتيك .وقد بدأت تتلمس المسالك الأخرى للبلد ” ص33.
في نص ” الشارب المعقوف ” ( مع ما للعنوان من إيحاءات ساخرة مريرة تشير إلى الغباء والاندفاع والتحجر ) نلتقي مع القصة / الأطروحة أو القصة / الفكرة ، ذلك أن المكان هنا لا يؤسس الحدث في ذاته ، وإنما فعل الزجرالأهوج والقمع الغبي غير المبررهو الذي يتحكم في بؤرة النص ، حينما تصبح حقوق الدواب مقدمة على حقوق الإنسان ، ضحية كل هذا الغباء بائع متجول بئيس لفاكهة الزفزوف التي جلبها صاحبنا من الضاحية القريبة على أمل تسويقها بالمدينة ، لكن علقة ساخنة كانت بانتظاره على يد شرطي ذي شارب معقوف” لم أدميت الحمار ألحمار؟! ألا ترفق به ؟
تفصد الجبين عرقا ، وتلعثم : لقد قطع مسافة طويلة ….فضربته بعصاي كما يفعل الجميع …إنه اعتاد ذلك .
– أما عرفت أن للحمير حقوقا يحميها القانون ؟ !
– لم أسمع بذلك أبدا .أنا فلاح أغرس الأرض …أبيع …لا أعرف هذه الأشياء وأسكن خارج المدينة ….
– هذه هي حقوقه عليك ….لا تعرف ! تعرفون فقط التنديد ورفع المطالب المستحيلة !
الحدث المؤطر للنص يتناسل بتداعياته المفارقة عبرالعنصر الظالم / العامل المعاكس ، صاحب الشارب المعقوف نفسه ” ونظر إلى الجلباب وقد تخضب دما …تناول سيجارة من تحت طاقيته وأشعلها …ونفث الدخان صوبه بتبرم …سيفتحون له محضرا عن خرق حقوق الحيوان وقد يدبجون آخر يتهمونني فيه بانتهاك حقوق إنسان ” ص40 ويتلفع المكان في الأخيربلون الحدث ومآلاته حينما يتهاوى وبسخاء شيء كقطن أبيض شفاف وباردعلى بدن المدينة .
نلتقي في مفتتح نص ” مغارة الجنوب ” بإحالة واضحة على المكان ” أين أنت الآن ؟” والضمير ليس إلا المعادل الموضوعي لتلك الذات القصصية الورقية ، فتصبح مغارة الجنوب ( فريواطو بالتأكيد على بعد حوالي 20 كلم من تازة والكائنة في قلب الأطلس المتوسط بدليل تقديم وصفات متنوعة في النص لأصل تسمية إفري وإيطو ) والعنوان نفسه يشير إلى بؤرة التوتر المكانية ، ذات المسالك التأويلية المتعددة حيث تحيل الصواعد والنوازل على متاهات من الأحابيل ومهرجانات الكلام ….وينسج السارد في النص رباطا مقصودا بين مجالي الشمال والجنوب ، أليس توصيف النص هو مغارة الجنوب ؟ فالشمال في كل القراءات الثقافية والمرجعية هو صنو التقدم والرفاهية والحرية والكرامة الإنسانية في حين يحيل الجنوب على الظلم والفساد والفقر والتخلف وبين تلافيف مقطع وآخر من القصة هناك حضور للغرب من خلال بعض إسبانيي مليلية الذين يروحون على أنفسهم في المغارة وبين هذه الروابي والجبال وفي البحث اللاهث عن المعنى يختفي الطيف ذاته ليعود بنا السارد إلى ذات المشهد…. حيث السائح الإسباني يتفيأ الطبيعة إلى جانب رفيقته الشقراء ، وعلى هذا النحو لا تعود المغارة متاهات مظلمة أو صواعد ونوازل أو حتى اسطورة شعبية غابرة بل منبعا لمسارب دلالية متعددة في واقع تصدمنا عبره طبقات الكلس والبازلت والملح ….
هو حضور أيضا في خلفية نص” فان غوخ ثانية ” حيث نطل على نتوءات وأشكال وألوان أراد لها صاحبها أن تكون لوحة زيتية ، لا تبدو عليها أية عبقرية ، سوى بحسبانها مجرد محاولة للتقليد أو ربما بلغت تلك الحالة من الإبداعية حد التشبه بالرسام الهولندي التعس الذي لم يسعد إلا بعد رحيله عبر لوحاته التي أصبحت مهوى أفئدة الجميع ….لكن بعد فوات الأوان على صاحبها ولكأني بالمرحوم الفشتالي يعيد سرديا مأساة أحد التشكيليين العصاميين بمدينة تازة حينما أفرغ الفنان جنونه في بضع لوحات وقعت فريسة السماسرة والمتاجرين في كل شيء ، ولما ضغطت عوامل الوحدة والعزلة وأسباب القهر الاجتماعي والسيكولوجي عليه استفحل المرض النفسي والعضوي ….والقاص هنا يترقب بل يتابع خطوات الفنان في مرسمه البئيس وكيف يشكل الوجوه والأحجام والمساحات على فضاء اللوحة بالذات ” إني أقاوم دائما هل أستسلم ؟ بالطبع لا …لا أستسلم إلا لهذه الألوان فقط …حين تزحف علي أقيم فيها ” ص55 المستشفى هنا ليس مجالا تقليديا للتداوي واسترجاع الصحة والعافية بل هو منبع مستمر لسخرية مريرة …تملكته إشعاعات لما أخذوه إلى مستشفى أحراش ( هو فضاء حقيقي واقعي كان موجودا في الزاوية الشرقية من ساحة أحراش بتازة العليا والآن أصبح مهجورا تعشعش فيه الفئران والغربان وطيورالليالي الموحشة )” واستقيت منها ما لزمني لتشكيل بورتريه للطبيب المعالج على ورقة ( كلينيكس ) ذات صباح رآها عندي ، فأخذها بين يديه وكافأني بصفعتين وخرج ثائرا …وبعد قليل عاد وقبلني …استسمحني ليطلب مني الإذن بأن يضع إطارا ذهبيا للبورتريه ” وبالنسبة لنفس الفنان المجنون ( وفق المواضعات السائدة ) فالحياة في المستشفى الكريه أو المرسم البئيس أفضل بكثير من التي ” عرضها علي بالدار البيضاء بعض ” البزناسة “” لقد اقترحوا عليه أن يأكل ويشرب وينام ويصبغ فقال لهم ببساطة : إنه لا يريد حياة كلب موقوف على سيده ” ص56 …..
في مفصل آخر ….هو شيء يشبه قصة حب انتهت قبل ان تبدأ …نص ” قد تأتي كالطيف ” يحيل على سبل غير مكتملة بل وملتبسة بضياعها وانهيارها وانسداد أفقها ” هذه أعاصير عنيدة ، افتحي بوابة معبدك …عساني أصير فيه (….) لأنثى أنهكتها تفاصيل المدرجات ثم الدروب وسط مدينة محتشمة بألف عار ” ص59 اللقاء تم صدفة بعد منعطف اعتداء مقيت استهدف السارد بضمير المتكلم….هو خنجر غادر اخترق بطنه من الخلف….قاوم السقوط ….أغمي عليه ولم يستفق إلا فوق سرير مستشفى البلدية وهناك تعارفا ….كل ذلك وهي وهما ينتظران قطارا غامضا يقلها أو يقله نحو أفق يستطيع عبره أن يقول كلمته أو كلمتهما معا …هو قارئ كافكا كلما نفذت سلعته انطلق في اتجاه ” الجوطية ” باحثا عن رواية يتيه فيها وهي لا تفارق الكراسي سوى لاعتصام جديد ( شهاداتية معطلة ) وتأخذ الشخصية ذاتها بعدا إيحائيا حين تتوزع أشلاء مندسة بين فجاج الأطلس ، يأخذ الإحباط بعده الأقصى في الزمان والمكان فيستجمع القاموس كل مصطلحات الرفض والسخط والغضب والتمرد : رؤوس سكرى …بانوراما الأشعار والقراءات وصيحات الأيديولوجيات المنهارة …النميمة …مشاريع مشرعة على الخواء …ويأتي دور الامتداد المكاني فيغدو في النص مساوقا لكل هذه التجليات ” المدينة هامش منغلق ، عناد شقي ، وحلم بعيد ” ص62 يظل مفتوحا على السؤال الممض : أي قطار يمكن أن يعيد وجهها الوردي المشع للمدينة ؟؟
وارتباطا بالقطار يبدو هذا الهوس مستمرا عبر تلافيف أغلب نصوص المجموعة : الانتقال من حال إلى حال …الانتظار ….العبث…..اختلاط المصائر وفي نفس الاتجاه ….عنوان المجموعة أيضا يشير إلى كل هذه الاحتمالات الدلالية ، القطار فضاء الانتقال / التحول / الاتجاه توا نحو الهدف …غير أن حالة الانتظار / العودة إلى نقطة الصفر/ غلبة الثبات على التحول تبدوكأن لها القدح المعلى في شبكة الدلالات التي تحيل عليها نصوص المجموعة ، وبالمقابل ففضاء المدينة يؤشر الى انتصار تلك العناصر حيث السكونية والجمود والتكرار والاجترار، في النص الذي يحمل نفس عنوان المجموعة ثمة عمل جماعي لإصلاح القطاربكل آلياته وقواه المحتاجة للحركة والدفع إلى الأمام …وفي كل مرة يدعو الغباشي الجميع إلى التصليح والتلحيم ، ينخرط الجميع ، لكن سرعان ما تعود الأشياء إلى دورتها الدائرية في عملية فشل سيزيفية متواصلة …. لاشك أن البعد الرمزي يهيمن مرة اخرى على المجالات النصية ” القطار وحده له سكة لا يحيد عنها ، ترسم اتجاهه كالسهم ولا يزيغ عنها البتة ، علاوة على أن جوفه يسع أنواع المخلوقات ” ص67 و” في الوقت الذي تمضي فيه قطارات أخرى بسرعة البرق …لم تدق الساعة الحجرية بعد ولم يسدل الستار ولم يمض قطار ” ص69 …
الصور الغرائبية تنثال تباعا في نص ” الكلب الشعبي ” وعبر حلم أو بالأحرى كابوس فظيع يقلب المدينة رأسا على عقب ، لكن سرعان ما يتمكن السارد في الأخير من كتم صياحه وسط العرق ومع اليدين اليابستين اللتين طوقتا عنقه في هزيع الغبش المتواري … ليتأكد أن الأمر يتعلق بكابوس ليلي ، ويرتبط فضاء المدينة هنا بكلب صباحي درج على عبور شوارعها ….ما فتئ يواجه المارة والزوابع وحرارة الشمس وزخات الأمطاروتعديات بني آدم ، حتى بلغ به العمر مبلغا لا مزيد عليه فأصبح كلبا شعبيا بمعنى وجها مألوفا للمارة وساكنة المدينة ولعله الكائن السعيد وحده عبر هدوءه وحركاته الحكيمة مؤذنا بظهوره واختفائه دائما عن مجيء صباح ملتبس لمدينة سوت معزوفاتها على وقع خطاه….
وتنتهي المجموعة بحفل ديني ليهود الملاح في بداية السبعينيات من القرن الماضي وهو المسمى سوق اليهود ( حي يهودي متواضع شمال شرق تازة العتيقة وقريبا من مول البلاد الولي سيدي عزوز) مضمنها سعي لاهث للزواج من عجونة وسونة ومغامرات طفولية ساخرة قد تنتظر الأطفال بعدها علقات ساخنة من الآباء بسبب التأخر المشبوه عن العودة إلى المنازل ، لكن حبل النجاة تلخص في الأزلية ومغامرات صقرديس وصقرديون وسيف ذي يزن والتي أخذت باهتمام وتتبع الأطفال والآباء أيضا ( أذيعت حلقاتها لأول مرة سنة 1970 ) اختزلتها عبارة الأب الآمرة ” اسكتوا واسمعوا ” ص85 فانساح مع المغامرات متناسيا تأخر إبنه عن العودة إلى المنزل …وهنا يعود الكاتب إلى سحر الحكي داخل النص القصصي بعدما ودعه مؤقتا مع نص ” زمن الحلقة ” ….وعلى سبيل الاستنتاج فإن القاص الراحل محمد الفشتالي قد نوع من تداعيات المكان حسب الرؤية الفكرية والفنية التي تجمع النصوص تارة وتفرقها تارة اخرى وهي نصوص غير موثقة بزمن كتابة محدد…كما أن توصيفاتها ذات الطابع الخبري الإسمي بالأساس ( نقصد عناوينها ) تؤكد جميع المسالك الدلالية وهموم الذات وإشكالات الواقع المرهقة التي قدمناها للقراء الأعزاء في هذه الورقة النقدية المتواضعة…
________
*ناقد من المغرب