فصل من رواية «في فمي لؤلؤة».. حفار القبور (الفريدة)


*ميسون صقر


لم يعد «مرهون» يستطيع أن يهنأ بنومه فى الدجى، منذ أن دلف إلى تلك الظلمة المكفهرة فى الماء، إلا ويذكر ظلمته التى دخلها، وكأنه فى ظلمة القبر، فانتابته الهواجس والمخاوف والرعب حين لامست قدماه شيئًا وهما تنزلقان إلى عمق البحر، شيئًا، ظنّه سمكًا أو شجرًا متمايلًا مع حركة الموج. حين غاص أكثر لامس جسدَه كله، وحين واجهه، كانت جثةً منتفخة فى مواجهته تمامًا. حاول الصراخ، فامتلأ جوفه بالماء، لولا أن شدَّ زميله عتيبة – الذى كان على مقربة منه – حبل مرهون المربوط فى خاصرته، فجذبه «السيب» الذى فى السفينة إلى أعلى.. شبه غارق، يتقيّأ الماء، وهم يعلّقونه من قدميه ورأسه لأسفل، حتى شهق أخيرًا، ثم بدأ يعى قليلًا قليلًا.
كان يشهق ويحاول التنفس، فإذا بالمياه تدخل جوفه، ولا تخرج، حتى ظنّ أنه يموت لا محالة! رفعوه من قدميه مثل طفل خرج لتوه من بطن أمه، فتح عينيه فوجد العالم حوله مقلوبًا، رأسه لأسفل والبحر سماء له، وهو معلق فى صارية السفينة، يتقيّأ الماء، وهم يخبطون على ظهره، فيتقيأ من فمه ومن أنفه، ومسعود يتلو فى أذنه القرآن، ويمسك رأسه بكلتا يديه، يضغط عليه بقوة، فيتقيأ أكثر، حتى ردّت الروح إليه، وتنفس الصعداء.
لم يشعر إلا ومسعود يفك قدميه ويضعه فى وضع أفقي، ورأسه بين فخذيه. ثم ينحنى مسعود على جسده ويأخذ فمه بين يديه، يظل ينفخ فيه حتى يصبح «مرهون» مثل الطبل الفارغ، وهو يضغط على بطنه وصدره بقوّة فيتقيّأ، ثم ينفخ بقوة ورائحة فمه تخترق «مرهون»، وكلّما كرّر الضغط، خرج الهواء من جوفه مع الماء الذى شربه. كانت تلك المحاولات مرهقة، شديدة الألم. وحين فتح عينيه كانتا جاحظتين فى وجهه الذى انتفخ واحمرّ – بل اسودَّ اسودادًا مشرَّبًا بزرقة كابية – وكان صدره يصعد ويهبط مثل قارب بلا شراع على أمواج بحر هادر.
مَنْ يموت فى البحر يظل فى البحر. كانوا يقولون: «دُفن فى البحر»، فكان يظن أنهم يذهبون به إلى العمق، يحفرون له حفرة مثلما فى البر، ثم ينزلونه فيها، لا كما رآه هكذا مثل بالونة فى الفضاء، يثبّته فقط، حبل فى إحدى قدميه مربوط بحجر، وتظل الجثة تتخايل ذهابًا وإيابًا، وهى منتفخة كما رآها.
هجع إلى النوم. لكن جسده كله كان يؤلمه، كأنه سقط فى بئر لا قرار لها، كأن الميت الذى رآه لم يلمس قدمه، عضوه، بطنه، صدره، ثم لامس جزأه الأمامى كله، بل كأنه قيَّده بيديه وأحكم قبضته، لم يستطع الفكاك، فلا مفرّ. لم يستطع «مرهون» الصراخ. كلّما فتح فمه دخل الماء جوفه، لم تنفلت الصرخة منه. سقطت سلّة المحار وغاص معانقًا الجثة إلى الأسفل، لأن الحجر الذى يسحبه إلى الأعماق لا يزال مربوطًا بقدمه. ومع صرخته اهتز بدنه كله، ومع سقوطه فى العمق وهو يحاول الفكاك من الجثّة، تماوجت المياه. أصبح كأنه فى معركة مباغتة، لا مهرب منها.
اهتزت الجثة المنفوخة مأكولة العين، فيما ظلّت عينها الأخرى شاخصة إليه، والأنف الذى قضمته الأسماك لم يبق منه إلا أثر لفجوتين، أما الفم فكان شبه لحم متهرئ. دفع «مرهون» الجثة بقوة ليبعدها عنه فى الماء، وسقطت بقايا اللحم، ومع قوة الدفع إلى الأمام، اندفعت الجثة مع الماء إلى آخر الحبل الذى كان يقيّدها بحجر هى أيضًا فى الأسفل، ثم عادت بالقوة نفسها إلى مواجهته مدفوعة نحوه، ومع سقوط وتناثر الفم، ظهرت الأسنان مكشّرة.
صرخ من الرعب فدخل الماء جوفه لولا عتيبة الغوّاص، الذى فك الحجرة من قدمه وشد الحبل ليصعد «مرهون» إلى أعلى، لا يعرف إن كان مسحوبًا إلى الله أم إلى القارب. وهو لا حول له ولا قوة، يصعد إلى أعلى والمياه تَساقطُ عليه منزلقة حوله مثل شلال. لا يدرى إن كانت شظايا لحم الجثة وفمها الذى تناثر وسقط عنها قد دخل مع الماء إلى جوفه، لم يستطع أن يقذف الماء خارجه، ولم يستطع السيطرة على رعبه وجسده، وهو يبتلع كل ذلك الماء المالح.
وقف مسعود على رأسه، يقرأ عليه بعض آيات من القرآن، وهو فاغر فاه مرتعد، يقول له: «اذكُر الله إن عالم البحار يسرق العقل ويخبل الكثيرين».
داخل البحر أيضًا؟ يتساءل «مرهون»، فيهز مسعود رأسه قائلًا: «نعم. كثير من الغّواصين ذهبوا هناك وعادوا بلا عقل».
ثم همس فى أذنه: «مَسَّهُم الجن». ارتبك «مرهون»، فعاد مسعود يقول بصوت واضح: «تذّكر الله واستمسك به، قوِّ إيمانك ولا تظل تحت الماء كثيرًا». تذكر «مرهون» أيضا أمه وهى تقول له: «لا تظل فى التغوُط كثيرًا حتى لا يلمسك الجن».
إذن الجن فى كل مكان.
أخافنى صوت جدتى وهى تقولها: «الجن فى كل مكان».. فارتعشت، أمسكت بى جيدًا وانزلقت بجسدى فى حضنها وأنا أقول: «أنا خايفة». فضحكت بصوت يصهل كما الخيل، وهى تقول: «لو خايفة سيرى غرفتك ونامى أنا ما أحب أحكى للخوافين».
لم أستطع أن أزحزح جسدى من حضنها، لو ذهبت سيتناوب عليّ الخوف والجزع إلى أول النهار. قلت: «هم فى كل مكان، صحيح؟»، فهزت رأسها وأكملت حكايتها.
بدأ «مرهون» يحلم بأشياء قديمة مثل جدّه العجوز، الذى حكى له فى الصغر عن البحر، ولم يذكر شيئًا عن الموتى، عن أبيه الذى حمله لأكثر من مكان، عن زواج خاله، وصديقه الشحي، الذى صعد معه الجبال، عن البحر الذى حدّثه كثيرًا.
وما بين الغفوة والأخرى، بدأ يستمع إلى الغواصين من حوله:
– شو فيه؟ «مرهون» مات ولا غرق؟
– أنا شفته مثل المجنون تحت فى الماي، يتنازع هو وجثة فى القاع!
– لولا ما فكيت حبل الحجرة وشديت الحبل، ما كان طلع
ولا عاش.
– الله رحمه بوجودك يا عتيبة.. هذا خطر على نفسه وعلى غيره.
– ليش يضارب الجثة يمكن مجنون ونحن ما ندري؟
– من وين جبتوه هالمخبل؟
– مسعود.. اقرأ عليه يمكن صابه مكروه!
– ما يخلّيني.. يتقلب ويشوّح بإيديه.
وما بين الصحوة والأخرى، يحلم بأشياء قديمة. صوت أمه تحكى له ما حدث فى القرية:
– اسكت يا «مرهون»، وأنا راجعة من القصـر شفت رحمة ولد سلطان يتضارب ويا خالك ما أدرى ليش! ما سمعت شيء؟
– ما أجى خالك عندنا.
– حليمة اليوم كانت تصرخ وتقول: «أبغى أرجع لمرهون، أنا أبغى أروح البيت ما خلتنى أشتغل».
– ما تبغى تاكل؟ اليوم كانت عزيمة كبيرة فى القصـر وطبخنا عيش وهريس، ما تبغى شوية؟ أغرف لك هريس يا «مرهون»؟ يا «مرهون» رد عليّ.. تبغى تاكل؟
– سمعت عن مريم قالوا لى ماتت، مسكينة كانت صغيرة، وظلّت أختها آمنة تصرخ وتركض بره الحصن، والمطارزية ركضوا وراها وحملوها لأمها، وربطناها فى الباب لين يغسلوا مريم. ظل يهذى مريم ماتت، ماتت. مسكينة كانت صغيرة وماتت.
ينتبه ويصرخ: «خلفان. خلفان».
يرشّ البحّارة الماء على وجهه، فيمسحه ويفتح عينيه. إنه على السفينة وكل وجوه الغواصين والبحارة والصغار تحوم حوله، تنظر إليه مجموعة من العيون والرءوس التى تحيط به؛ فيغمض عينيه مرة أخرى ويغيب عنهم.
مريم صديقة أخته التى لها وجه لطيف ناعم طويل، وشعر منسدل، تملأ عينيها بالكحل حتى تفرزه خارجهما، تتدلّى من أذنيها حلقات من الذهب على شكل ثلاث مظلّات، كل مظلّة تحتها مظلّة ثانية، وحين تتحدث أو تلتفت، يهتز هذا القرط الطويل فيجعل وجهها كَدُمية تهز رأسها كلّما لمستها.
كم حلم بأنه يشدّها من قرطها، والدم يسيل من أذنيها.. كم حلم بأنه يلحس الدم من أذنيها. كم تمنّى أن يقبّلها على خدها، أو يشدّها من شعرها المنسدل على ظهرها، ومع ذلك لم يكن يلعب معها. حين تقول له حليمة: «تعالَ الْعبْ معنا»؛ لا يرضى، لكنه كان يتابعهما وينظر إلى كل تفاصيلها من بعيد، وكلّما لعبت مع حليمة وضحكتا، تنظر إليه وهو منزوٍ بعيدًا فى آخر الغرفة، فيهتز القرط فى أذنيها، فتنفرط حالة من البهجة التى تضفيها مريم بقرطها الطويل. تساءل أين ذهب القرط، هل دفنوه معها أم أخذته أمها؟ هل ستلبسه ويهتز فى أذنها، أم أنه يهتز فى أذن مريم فقط؟ تلفّظ بصوت عالٍ: «والقرط.. أين ذهب القرط؟».
التفتت أمه إليه، وقالت: «لاحظت القرط أنت أيضا؟ يا لك من ملعون! لقد خلعتُه من أذنيها وأعطيته أمها، وقلت لها احفظيه لآمنة عندما تكبر قليلًا».
لم يكن لآمنة حضور قوى فى ذاكرته، كانت تشبه مريم، لكنها تصغرها بسنوات عدّة. كانت أمّها تربط إحدى قدميها فى وشاحها الطويل، حتى تحدّ من حركتها وتسللها إلى الخارج فى غفلة منها.. تصيح آمنة، وتحاول فك الرباط من قدميها، تنشغل به طيلة الوقت، وحين تنجح فى فكّه، تركض إلى الخارج، فتترك أمها كل شيء وتركض وراءها. تضـربها وهى تقول لها: «يا المستخفة وين سايرة؟»، ثم تعيدها إلى مكانها، وتربطها مرة أخرى.
لم يكن فى أذنيها قرط مثل قرط مريم، كان خيطا أسود فحسب يتدلّى، وكانت والدتها تغمس يدها فى الزيت كل يوم وتدهن به الخيط وتحركه فى أذنيها وهى تصـرخ، والأم تضـربها وتقول: «اسكتي، اسكتي».
سمع جدَّه العجوز الذى حكى له فى الصغر عن البحر كثيرًا، ذكر الموج والمحار والقرش، ولم يذكر له الموتى هناك.
سمع أباه الذى حمله إلى أكثر من مكان: «يا «مرهون» تراك باكر بتكبر وبتصير رجال لازم تعرف قدر الناس، وما تروح مع الصغار، الصغار يجلبون المشاكل.. خليك ويّا أمك يمكن بعدين تشتغل مطارزى فى القصـر، وتسير وراء الشيخ، وتمسك البندقية، وتحارب اللى يغيرون علينا».
ظلّت هواجس تذهب وتجيء عن زواج صديقه الشحي، الذى ذهب إليه عند وفاة والده وظل فى الجبال يصعد معه ويعود منها إلى المدينة. يصعد بالحبال كما ينزل ويصعد بها هنا، لكن قاع الجبل لم تكن فيه جثث هائمة كما توجد فى البحر. سمع البحر يحدّثه، هل يحدثه البحر؟ نعم لقد سمع هديره وهو يقول له: «أنت مرهون، لِـمَ تأخّرت فى المجيء إليَّ؟».
إنه يهذي، وصوت البحر يعلو، يعلو؛ فلا يحتمل الصوت. بدأ يصـرخ ويخبط بيديه، ثم فى لحظة يهدأ ويصمت، ويغوص ثم يبدأ فى غفوة ثانية.
قال يوسف موجّهًا كلامه إلى النوخذة: «ما قلت لك يا أبو حمد ما ينفع! أنا شفته كأنه منوَّم يغوص وهو يبتسم للبحر والسمك، لازم تكون جنبه ولا راح يتوه داخل البحر».
نظر أبو حمد إلى «مرهون» وهو شبه غريق، مستلقٍ على سطح السفينة، محاطٌ بالغوّاصين والبحارة والسيوب والأطفال، الذين يبحثون فى المحار بعد فتحه عن لؤلؤ صغير مختبئ فى ثنايا لحم إحداها، ثم التفت إلى البحر مخاطبًا يوسف: «بعدين نتحدث بعدين، شوفوا شو صاير له الحين وخلّى مسعود يشوفه».
سمع مسعود ما قاله أبو حمد، فردّ قائلًا: «لازم كفخه الجن تحت، أنا قلت له مية مرة ما تظل تحت وايد، طول الوقت جالس تحت وعلى السفينة لا يتكلم ولا يضحك ولا شيء، مسهِّم فى البحر وكأن جنية سرقته. قلت بقرأ عليه، لكن ما يخلينى أكمل، يتقلب ويقوم عني».
قال يوسف: «يمكن يتخبل ولاّ يصيبه مكروه ويطلّعه علينا!».
ضحك الغوّاصون جميعًا: «بيطلّع خباله علينا! وإحنا ناقصين!».
نظر غانم إليهم وهم يضحكون، وضحك ضحكة جلجلت فى الهواء كأنها خارجة من بئر عميقة. نظر إليه مسعود وقال: «حتى غانم ضحك». وأشار إليه أن يقلّل صوت ضحكته وهو يقول: «حاشى بننصم منك». ضحك الغوّاصون مرة أخرى على ضحكة غانم، وطريقة مسعود فى الإشارة.
أحدهم قال: «والله أنا شفته تحت يضارب الماء، ولا كأنه رجَّال ويصارعه!».
قال آخر: «أنا شفته كان شايل عصا ويضـرب الماء كأن فى إيده سيفًا!».
قال عتيبة: «يا أبو حمد، الظاهر «مرهون» يقلّدك». نظر أبو حمد إليه وقال: «وأنا من متى شفتنى شايل سيف إلا فى الحرب؟».
ضحك البحارة، وظل مسعود يحاول أن يضغط على صدره، وينفخ فى فمه حتى تقيّأ.
قال عتيبة: «أخيرًا قام، يعنى ما بيموت». ثم نظر بعيدا إلى آخر السفينة؛ حيث كان وليم جالسًا ينظر إليهم مبتسمًا وهم حول «مرهون»، وسعيد يذهب ويجيء، لا يشارك ولا يبتسم.
قال أبو حمد: «لو مات يروح لحبيبه البحر، ولو عاش المهم إنه يصطاد.. ما علينا من كل اللى يسوّيه».
قال يوسف: «المهم عندك المحار يا أبو حمد؟!».
قال أبو حمد: «طبعًا شو أهم منه!».
قال أحد الغوّاصين من بعيد: «أرواحنا يا أبو حمد، أرواحنا!».
قال أبو حمد بصوت يسمعه كل من على السفينة وبحزم قوي: «كل واحد وله عمر وله وقت لا بيقصر ولا بيطول».
فرد مسعود: «إلا بإذن الله». لم يعلّق أبو حمد، ولم يلتفت إليه، بل أكمل سيره معطيًا ظهره لهم، مواجهًا البحر من الناحية الأخرى، وهو يملأ غليونه بالدخان ويشعله، أكمل وهو ينفث الدخان: «المهم الهمة.. ويلّا كل واحد على شغله».
اقترب محمد الشحى من «مرهون». رآه قد بدأ يفتح عينيه وينتبه، قال له: «سلامات يامرهون».
نام «مرهون»، وحين انتبه، كان الظلام يرعبه وكان جسده كفرن ساخن، كأنه قد وُضع فى تنور حام. يحترق، إنه يحترق، هكذا كان يحسّ، كانت شمس الصيف تشعل جسده لا التنور، وحين انتبه إلى اللون الأصفر فى ذلك الدجى، بدأ يفتح عينيه ببطء لكن جسده المنهك كان يتألم، يضع يده اليمنى على كتفه اليسرى، وينظر إلى يده التى لمست شيئًا لزجًا، إنه دمه، فمع النوم دون الاغتسال، ثم مع الشمس، احترق جسده وتقشر ثم تشقّق، ومع الملح الذى يبس على جسده، بدأ يصـرخ من الحريق، وحين صرخ تشقّقت شفتاه.
هاهو إذن يصبح كالجُثة تحت الماء، بدأ يتقيّأ علّه يخرج ما بداخله،
لا شيء فى جوفه. سحب مرزوق إناءً مملوءًا بالشحم، وأومأ إليه بأن يدهن جسده حتى يهدأ. بدأ مرهون يدهن وجهه ويديه وجسده كله، عله يُبرّد الحريق، وهو يتذكر الجن والموت والجثة.
قاطعتُها وأنا أتساءل: «الجن والموت والجثة؟».
فهزّت رأسها وهى تحكى وكأنها تُخرج من جعبتها أساطير الماضي. وبدأت عيناى تغفوان وكان صدى صوت جدتى يردد: «الجن والموت والجثة»، ثم بدأ صوتها يخفت وهى تردد: «لم تحرق الشمس بأشعتها الحادة الحارقة والمباشرة وجوههم الكالحة وأجسادهم النحيلة التى رست عليها السمرة، بل كانت تحرق الجلد وتُعمى البصر وتنهك الجسد الذى يتّقيها بالعرق، فيحول ذلك دون تشقّقه، لكنه يُخلِّف عطشًا شديدًا طيلة فترة الغوص».
بدأت أهذى قائلة: «الأجساد التى أنهكها الغوص والتجديف وفلق المحار، أجسادهم النحيلة التى يبست على عظام».
كأنما الخوف قد أصبح رديفًا لما نستحقه فى الحياة، كأنه غذاء الروح فى عتماتها.. رضعه «مرهون» مع حليب أمه، وكبر معه فى حضنه، وحين عبره، كاد أن يفقد رسوخ قدميه على عتبات اليقين.
اليقين، وما هو اليقين أصلًا إذا كان قد بدأه بالخوف؟ خوفه من العتمة فى خارجه ومن العتمة فى داخله أيضًا، رغبته التى يكبحها فى ظله، شهوته التى يداريها، حبه وفرحه اللذان يخاف عليهما. تعلّم الخوف من القول كما تعلّم الخوف من الصمت، وتعلّم الخوف من النور، كما تعلّم الخوف من العتمة، وتعلّم الخوف من الله، كما تعلّم الخوف من الشيطان.
__________

الرواية تصدر الأسبوع المقبل عن الدار المصرية اللبنانية. 

*جريدة القاهرة / نقلا عن العدد الورقي رقم 825 الثلاثاء 16 إبريل 2016

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *