*عثمان بالنائلة
خاص ( ثقافات )
تمدّد على الفراش. سمع صوت فتاة تقول: “أحبّه كثيرا يا أمّي. أتظنين أنّه يريد أن يتزوّجني.”. و خيّل له أنّها تكلّمه قائلة: “أتسمعني أيّها الشاذّ؟ إنّي أعشقك. و أنتظر أن تتقدّم لخطبتي. أنا في البيت المجاور. اِقترب من النافذة لتراني و أراك.”. اِقشعرّ بدنه. و تناهى إلى سمعه صوت اِمرأة تقول: “إن كنت ترغب في الزواج من اِبنتي فأطلّ علينا. و سأزوّجك إيّاها.”. يستوي جالسا. يلتفت ناحية الشبّاك. و يتمتم غاضبا: “أتريدين أن أتزوّج من اِبنتك؟ و هي الّتي تسبّني و تنعتني بالشاذ. ويلكما. ما أوقحكما و ما أرذلكما.”. سمع ضحكات مغرية خليعة تستفزّه. كان صوت الفتاة حنونا دافئا حين أصغى إليه يضيف قائلا برقّة و دلال: “قل ما تشاء يا حبيبي لكنّني سأبقى متعلّقة بك أحبّك و أشتهي وصالك مهما حدث.”. تملّكه الفضول. و أحسّ بالرغبة الملحّة لرؤية هذه الصبيّة الّتي تخيّلها فاتنة غيداء. ترك سريره. و اِقترب بحذر من النافذة. فتح الستائر. و بقي يحملق في المنزل المجاور الّذي كان مهجورا. تساءل قائلا: “كيف تمكّنتا من الدخول إلى بيت الدكتور يحيى؟ إنه مقفل منذ سنوات.”. بقي يفكّر قليلا. ثمّ اِستطرد قائلا: “لا بدّ أنّ ذلك الحارس اللعين الطمّاع قد سمح لهما بالولوج إلى البيت مقابل مبلغ سخيّ من المال.”. اِستغرب. و قال: “لكن كيف أمكنني سماعهما بهذا الوضوح و الشبّاك مغلق.”. أمعن النظر في نوافذ المنزل المجاور. فلم ير ما يدلّ على أنّ بالبيت زائرين. أقفل الستائر. و عاد إلى فراشه.
نظر إلى ساعته اليدويّة على الكومودينو. كانت الساعة تشير إلى الرابعة مساء و خمس دقائق. و سرت في جسده رعشة لمّا سمع الفتاة تقول: “رأيتك أيّها الشاذّ المحبوب. كم أنت وسيم. الآن فقط تأكّدت من أنّني أعجبك كما تعجبني. أنا الاِبنة الوحيدة للأستاذ أحمد يعقوب الّذي يقيم بحيّ الشروق. تقدّم إلى خطبتي. و سأوافق دون أدنى شكّ.”. تملّكه الوجوم للحظات. و غادر غرفته مسرعا. و بحث عن أبيه في البيت. فوجده يدخّن النرجيلة في الشرفة. رآه مقوّس الظهر يضع بتؤدة جمرة متّقدة على المعسّل. أخذ نفسا عميقا من الدخان. و نفثه في شكل كريات بيضاء متداخلة في الهواء. بقي الاِبن يتأمّله. ثمّ قال له متلعثما: “أظنّ أنّك تعرف شخصا اِسمه أحمد يعقوب. إذ أعتقد أنّك قد ذكرت هذا الاِسم أمامي من قبل.”. رفع والده رأسه إلى السماء. و بدا كأنّه يعتصر ذاكرته. و قال: “أنا في الحقيقة لا أعرفه شخصيّا. لكنّي قد قرأت قبل قرابة الشهر في الصحيفة خبر قتل أحمد يعقوب لزوجته و اِبنته لأسباب غير معلومة و في ظروف غامضة. ثمّ اِنتحر.”.
اِنتفض الاِبن. و خيّل له أنّ ما حوله يتراقص و يدور. أغمض عينيه لعلّ كلّ شيء يستقرّ في مكانه من جديد. تداخلت الأفكار في عقله. تهاطلت الأسئلة عليه حتّى كاد يشعر أنّها قد غطّته و خنقته. حاول أن يتنفّس جاهدا. تناهى إلى سمعه صدى صوت الفتاة يكرّر ما قالته له سابقا. تذكّر كلّ كلماتها و بالخصوص وصفها له بالشاذّ. أنصت إلى كلّ ذلك باِهتمام بالغ. فتح عينيه. فوجد نفسه مستلقيا على فراشه. اِلتفت يمنة و يسرة. تحسّس أعضاء جسده و كأنّه يتأكّد من سلامتها. زفر. اِستدار إلى الكومودينو. دقّق النظر في ساعته اليدويّة. كانت الساعة تشير إلى الرابعة مساء و خمس دقائق. أحسّ فجأة بالغبطة. لقد كان كلّ شيء مجرّد كابوس. و ها هو قد اِستيقض و نجا من الغرق في بحر الأسئلة. تنفّس الصعداء. و سمع فجأة صوت الفتاة تقول: “أنا أنت. أنا بعضك الّذي لا تعرفه. لا تتركني يا حبيبي. أعشقك أيّها الشاذّ.”. اِرتعدت فرائصه. و اِبتلع ريقه بصعوبة. شعر بالجفاف يجتاح جسده الهزيل بسرعة و قوّة ليستقرّ في جمجمته. وضع يديه على أذنيه. و ضغط بكلّ ما أوتي من قوّة حتّى آلمه ذلك. فسمع ضحكاتها المغرية الخليعة تهزّ كيانه هزّا و كأنّ الفراغ يقبع بداخله.
_________
*قاص تونسي