*إكرام عبدي
كم هو دافئ هذا الحضن المسمى كتابة؛ كم هو معطاء ودود، أبيّ وشامخ، يمنحنا وطنا حرا، يمنحنا وهج اللحظة، البهجة، ولا ينتظر مقابلا أو هبات سلطانية، اللهم صدقا وكلمة “تخرج من القلب وتقع في القلب” (الجاحظ).
يحتوينا هذا الحضن، يلملم شغفنا، جنوننا، فوضانا، مزاجيتنا، ينسج كينونتنا الحقيقية، يجعلنا نخوض من جديد في “لعبة الوجود”، يسترق السمع لرنين اللاشعور ولوشوشات وذبذبات وعطور وأحلام تنسرب من بين شقوق الزمن، يمنحنا السكينة، يجعلني في سفر دائم خارج مدارات الشائع والملموس والعياني.
باذخة هاته الإمبراطورية المسماة “كتابة”، منحتننا وطنا حرا نمارس فيه بوحنا بعيدا عن أجهزة التنصت وعيون الرقابة، دون استجوابنا أو السؤال عن هويتنا، أو جنسنا أو مدارسنا أو تياراتنا، احتوتنا وكل ما تعرفه عنّا أننا قدمنا من زمن الصمت والعزلة و”العزلة تعني الموت أو الكتابة” حسب مارغريت ديوراس، وما نبحث عنه رحم ثان بالمعنى الفرويدي للكلمة، لنعيد فيه تشكيل ذواتنا وتفكيرنا ومخيلتنا، نبحث عن جسد آخر لأحلامنا وهواجسنا ومعاناتنا غير هذا الجسد المنمط الذي صنعه لنا الآخر، وما ننوي القيام به هو قهر هذا العالم وغزوه، طبعا ليس بالقنابل البشرية ولا بالغازات المسيلة للدموع، لكن بسلاح الخيال والإبداع والجمال..
فما تطمح إليه المرأة العربية الكاتبة هو كتابة متميزة مختلفة بعيدة عن كل تنقيص أو تحقير أو تهجين مقابل الآخر الرجل، بعيدا عن كل تصنيف أو تجزيء “فالعقل العظيم لا يحمل نوعا، فإذا تم هذا الانصهار النوعي يغدو العقل في ذروة خصوبته ويشحذ كافة طاقاته” (كوليدرج)؛ كتابة تحمل ملامح من أنوثتها ووهج وتوقد روحها وجذوة فكرها، وحين ينجلي لكم بعض من هذا التفوّق احذروا أن تسحبوا من تحت أقدامها سجادة الأنوثة ودسها في صف الرجال، أو الزعم بأن في كواليسها رجلا يملي وينقح (قضية سنية صالح وزوجها محمد الماغوط…).
تكتب المرأة وتحلم بأن ترفع عقيرتها بالشكوى في فضاءات مكشوفة وفي واضحة النهار، وأن تستلهم حبيبا فعليا أمام الملأ، دون إشهار سيف الاتهام على رقبتها بتهمة ممارسة غواية الكتابة في وضح النهار، ودون التعرض لغزو التتار، وإن حدث ووجدتم حبيبا مندسّا في فراش الخطيئة فالمسوا لها العذر مثل رفيقها الرجل واعتبروه رمزا، إيحاء لوطن مفقود، أو ما شئتم، أو فاتركوه وشأنه. ولا تحاكموا أقلاما، فقط لأنها فكّرت يوما بأن تتسلّل خلسة إلى تلك الأقبية المظلمة للمجتمع، تكسر الأقفال، وتفرج عن حقيقة مرة تجلس هناك في عتمتها، مذعورة، يائسة (ليلى العثمان ونوال السعداوي)، ليتمّ إدراج أدبها في خانة الأدب المغضوب عليه.
سافروا في تشعّب نصوص جادة وأصغوا لنبضها ولا تصغوا فقط لتأوّهات وآهات وأسرار تقبع بين ثنايا السطور. ولا تتلصصوا على نصوص بحثا عن الكاتبة في إحدى شخصياتها، فقد تخطئ فراستكم، فليس من الضروري أن تكون إحدى هذه الشخصيات هي الكاتبة، ففلوبير قال “مدام بوفاري هي أنا”، وقد يعود هذا المتلقّي أو الناقد الفاحص خاوي الوفاض، فسفره هذا لم يشف فضوله، الشخصي طبعا لا النقدي، فلم يجد الكاتبة المرأة بين ثنايا هذه السطور، ولا شأن له بالموضوع واللغة.
وقد تحيّر المرأة الكاتبة بعض هؤلاء المتلقين “النقاد” المتمرسين على نبش الأسرار، فتكتب أحيانا بأنوثتها الجمالية والاستعارية اللغوية، وأحيانا تكتب بفحولة قد يجمع الكل على أنها كتابة بشنب وعضو ذكوري، فجسارة جورج صاند، ولظروف العصر السائدة آنذاك، كتبت كتابة ذكورية “اتفق الملاحظون على أن الأسلوب والانطباعات كانت على درجة من الفحولة مما لا يطرح مجالا للشك في أن صاحبها رجل (بياتريس ديدييه: “الكتابة امرأة”). وقد يحدث أن ينشغل الرأي العام الذكوري بعمل إبداعي صدر حديثا لكاتبة شابة، وليس من المهم البحث في موضوعه.. المهول أن هذا العمل تكتنفه صور جنسية جريئة، والكل ينتظر على أحرّ من الجمر معرفة صاحبة هذه الجرأة غير المعهودة، من تكون؟ هل هذه الصور تعبّر عن تجاربها الشخصية؟ وهل هي جميلة؟ وشلال من الأسئلة تتمحور كلها حول شخصية الكاتبة بعيدا عن أسئلة الكتابة.
صحيح أن هناك كاتبات عربيات، وأخص بالذكر بعض الكاتبات السعوديات ممن أخذن يمتطين صهوة الجنس لإثارة الانتباه إلى كتاباتهن في مجتمع منغلق ومكبوت، وتقديم أدب رخيص تتهافت عليه دور النشر؛ أدب يميل إلى الابتذال والميوعة، قابع في قوقعة الإغراء والاستفراغ الروحي، لكن في المقابل ثمة أقلام عرفت كيف تعلن عن جرأتها وتميزها، بعيدا عن أيّ سطحية وإسفاف، تتجاوز تلك الصورة النمطية الاختزالية للمرأة العربية “فالمرأة لا تولد أنثى بالمعنى التداولي التنميطي للكلمة لكن المجتمع يجعلها كذلك” (سيمون دي بوفوار).
أقلام جعلت من أعمالها الإبداعية ناطحات سحاب تثقب غشاء أوزون هذا العالم المترهل البطريركي، وتحطم كل تلك الخيام التي تسكن عقل المجتمع العربي: غادة السمان، نوال السعداوي، ليلى العثمان وفاطمة المرنيسي، وغيرهن،..؛ أقلام جعلت الرجل الناقد أو المتلقّي يذعن لها بكل احترام واعتراف، يعترف أمام الملأ بجدارتها وتميزها، ولا يكتفي بالمرور مرور البخلاء على نصوص علّه يجد ما يسعفه في بناء عبارة جميلة أو إطراء طريف يليق بجمال الكاتبة، بل يعاشر هذه النصوص معاشرة كاملة، ينصت بعمق لنبضها، يكشف عن مقوماتها الجمالية بكل جدية وموضوعية وحيادية. فتتكسّر أحلام المرأة الكاتبة على عتبة هذا الواقع الثقافي الموبوء، وتتكسّر على عتبة بيتها كأمّ وزوجة، تسترق النظر خلسة وعن بعد لمكتبة زوجها بحسرة وألم، فنادرا ما تلج هذا الباب السحري، فقد تنازلت منذ زمن عن “غرفتها الخاصة”، تلك التي ناضلت من أجلها فرجينيا وولف “إن النساء لكي يكتبن بحاجة إلى دخل مادي خاص بهنّ وإلى غرفة مستقلة ينعزلن فيها للكتابة”، لتعود بسرعة إلى المطبخ خوفا من احتراق الأكل ولا أحد سيلمس لها العذر.
كلّما حاولت الإمساك بفكرة شاردة أو صورة شعرية جميلة، يجول بفكرها موعد العشاء وماذا ستطبخ للأولاد. عليها توزيع الابتسامة على الضيوف حتى لو كانت منهكة كي تكون تلك المرأة المضيافة؛ عليها توفير الهدوء للزوج الكاتب، فالكتابة بالنسبة إليه أساسية لكن بالنسبة إليها ثانوية، للأسف ضاعت تلك الصورة التي ظلت طيلة اليوم ترصّصها وتنقّحها بمجرد تذكّرها لموعد اجتماع في مدرسة ابنتها، فوضى في البيت لا أحد سيلمس لها العذر إن تركتها كما هي، لكن هل هناك من يشعر بفوضاها الداخلية؟
___________
*العرب