*عيد حسين/ ترجمة: مشهور البطران
خاص ( ثقافات )
أكثر من أي وقتٍ مضى، تضج حياتنا بالمشتتات، التكنولوجيا مثال جيد، فقد أسعدتنا وسهلت تواصلنا، ولكنها باستمرار عملت على تشتيتنا.
في الآونة الأخيرة، هزني الموت المفاجئ لأبي الحاج رجب عليه الرحمة.
في عام 1957جاء أبي من الهند للعيش إلى إنجلترا. شابًا: يلبس البدلات ذات الثلاث قطع، والقمصان البيضاء الزاهية المزررة الأكمام، وذات الجيوب المربعة، وأحذية لامعة. ولكن حين تقدم به العمر عاد يلبس الزي التقليدي لمسلمي الشرق.
أقام في لندن، بينما ظلَّ قلبه معلقًا بأسلافه الروحانيين، وخاصة جلال شاه، الصوفي الذي وُلِدَ وعاش في تركيا في القرن الثاني عشر، وتتلمذ على يد الحضرمي في اليمن، ثم هاجر إلى البنغال للدعوة لعبادة الله.
أحبَّ أبي الملكة، وأعجب بالسياسة البريطانية، في إدارة الحكم والتعليم والديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الملكية. أحب كذلك السمك والبطاطا، ودماثة الشعب البريطاني المهذب، بما هي صفة من صفات أبي الأصيلة.
كان فخورًا لكونه بريطانيًا. ولكنه أدرك أوجه القصور في بلده الجديد. ولذا جعلنا -أنا وأخي الأصغر وأختين-نقتفي أثر شاه جلال، وإسلام القدماء الموصوف بالسلام والرأفة. حيث أدخلنا أبي في دائرة المرشد الروحي المغفور له الشيخ إمام الزمان عبد اللطيف الشواذري من Fultholy في بلدة (الصالحة) الواقعة في المنطقة الحدودية بين الهند وبنغلادش والمتوفي عام 2008. هذا الشيخ كان مرشدا روحيا للملايين وسليل لتلميذ يمني من أتباع شاه جلال.
ساعد أبي في تنظيم جولات سنوية للشيخ في بريطانيا، يصاحبه في المساجد. أحيانا كنت انضم إليهم وأتعلم منهم. أبي وشيخه لم يعلموا الناس عن طريق الكتب فحسب، ولكن بالحب والممارسة وفق منهج إسلامي واقعي يعود بجذوره إلى عهد النبي.
اليوم أعارضُ بشدة السلفيين الراديكاليين والجهاديين لا لأنها موضة بل لأني أعرف وأشعر بإسلام من نوع آخر يسري في عروقي، ورثته عن أجدادي من خلال تواتر متسلسل حفظه محبو النبي.
أمضى أبي حياته في خدمة الله ونبيه ومساعدة الناس. تطوع مع شيخه للبحث عن التمويل وأسس برامج تعليمية في عدة مساجد ومعاهد في أنحاء مختلفة من المملكة المتحدة. وكان عضوًا في مجلس إدارة مسجد (بريكلان) Brick Lane التاريخي في لندن، وهو البناء الأوروبي الوحيدة الذي صار كنيسة وكنيس ومسجدًا. كما شغل أبي موقع سكرتير مجلس إدارة دار القراءة المجيدة، وهي مدرسة لتعليم القرآن. لقد عمل كل هذا ليهيئ روحه للحياة الأخرى.
في خضم انخراطي في تيارات الحداثة وما بعدها والتربية العلمانية، تعجبتُ من يقين أبي وإيمانه. إنني أصلي الآن لأنني سعدت بالتعرف على أشياء من جيل أبي وشيوخه. لقد عاشوا أحبوا وخدموا وأعطوا وتهيأوا للقاء ربهم. فالحياة لا يمكن أن تكون أكثر جدارة ومعنى من الآخرة.
علَّمنا النبي محمد أن المرء يحشر مع من أحب. وهذا ليس فكرة مجردة، بل واقع عشناه في حياتنا الدنيوية والأبدية. الحب والرفقة مع عباد الله المخلصين والنادرين، ظهرت أثارها في الزمن الدنيوي ومهدت للحياة الآخرة. لطالما أحب أبي النبي، وقد أرسلني مرارا إلى المدينة لأكون في حضرة النبي الروحانية. وبهذا تكرَّم أبي، بحيث كل من التقى به يدرك تواضعه ومحبته للناس.
لا أؤمن بالصدف. في الثامن والعشرين من شباط كان أبي في المشفى. في هذه الأثناء أهداني صديق عجوة من المدينة وماء زمزم من مكة. لم يكن موسم حج. كانت العجوة طعام أبي المفضل، وقد أخبرنا أن النبي أحب العجوة.
فيما كنت أنا في لندن، كان أبي في عطلة في بلدته (الصالحة). وبمجرد أن أنهيت أكل العجوة القادمة من بلاد النبي أطلق أبي زفرته الأخيرة. كانت حسن الخاتمة لمسلم صوفي، أحب المدينة المنورة التي تعزز ارتباط والدي بها وبعائلته منذ ارتحل عن عالمنا. طوال حياته حافظ على صحبته مع الأولياء. والمرء كما يقال هو مع هؤلاء الذين صاحبهم في حياته. لقد كان أبي وليا.
في تلك الليلة حلمت أن أبي أحتفل معنا بحضور العائلة الكبيرة. وكنت ألقي براسي على كتفه الأيمن بينما هو سعيد في ملكوته.
“نحن بحاجة إلى الشفقة والعزاء وليس هو” هذا ما قاله لي صديق الأعز، كان رجلًا من عباد الرحمن، وتركنا في عالم الشيطان والحروب والمحن والقسوة.
تمور المدينة كانت البدايات، علامة الولي تظهر أنه في سلام مع نفسه ومعهم. كما في القران: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، لهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ (10:62;64)
كل ما أريد أن أفعله الآن أن أجلس بجانب أبي وأتلو هذه الآية.
الطريق سهلة، وصلتُ (الصالحة) حيث أراد أبي أن يدفن بجانب الداعية اليمني شاه جلال. رأيتُ وجه أبي هادئا صافيا، حتى في موته كان حضوره قويًا وملهمًا. شعرتُ بقوة روحه أكثر من أي وقت مضى. الإمام الذي أَمَّ صلاة الجنازة واحد من أعظم معلمي الحديث في عصرنا، إنه الشيخ الحبيب الرحمن، مَرَّةٌ أخرى كان النبي ممثلًا من خلال محبيه وسفرائه.
قاد التحضيرات للجنازة إبنا شيخ والدي، وهما الشيخان قمر وحسام. حُبُّهُما ومَعَزَّتُهما لأبي ترددت من خلال المئات الذين تجمعوا لصلاة الجنازة. تلوتُ آيتي. أهتزُّ في حضرة الله وتلك المعجزات الصغيرة التي شاهدتها. قبَّلتُ وجه أبي وأنا مدرك أنه ينعم بالسلام.
لقد تكرمتُ أن أكون ابنه الأكبر، إذا وقفتُ وشاركتُ في إنزال جسده في قبره بجانب شاه جلال. كانت لحظة شرف لي كمسلم وكأبن ومساعد.
إنَّا لله وانا إليه راجعون. بموته عرفنا كيف يكون ذلك.
بعد عدة أيام وفيما كانت أمي تمضي أربعينها في البيت مع أخي وخواتي، تجولت في موطن أجدادي، زرتُ الناس. أدركت كم أحبَهم أبي، وكم تصدَّق عليهم من ماله، وكم منحهم من الوقت والنصح. ذكريات عديدة تذكرها الناس: الأغنياء والفقراء الذين حضروا بفضل سخاء والدي نحوهم. مع هؤلاء الناس وخاصة الأجيال الكبيرة منهم، شاهدت الحب الصادق والعاطفة الروحانية والاتصال بالله الذي افتقدناه في الغرب.
أبي وجيله لم يلتهوا عن ذكر الله، كانت حياتهم مسربلة بذكر الله ونبيه، تهيأوا للجنة الموعودة. في هذا المسعى والمسار، أشرق صدقهم وخدمتهم للآخرين نورًا. جيل الأتقياء يمر ببطء بعيدًا، ترى كيف سنكون نحن.
أحبك يا أبي سنراك قريبا في الجنة، بيتنا الأبدي.
_______
عيد حسين: كاتب بريطاني مسلم.
مشهور البطران: كاتب فلسطيني.