أثيل حمدان
كثيراً ما تخدع الموسيقى السامعين. فنحن غالباً لا ندرك ما وراء الإبداع الخلاق والعبقرية من معاناة حقيقية يعانيها المؤلف أو المؤدي، وربما لو أدركنا ما لا تراه العين لتحولت مشاعر السعادة التي تخلقها الموسيقى إلى مشاعر مليئة بالألم أو الشفقة.. والعمل الذي نحن بصدده من أصدق الأدلة على هذا. فالسيمفونية الخامسة للمؤلف النمساوي غوستاف مالر، عمل يرصد التبدلات والمعاناة والسعادة الروحانية في خمس حركات ساحرة.
كتب غوستاف مالر خلال عامي 1901 – 1902، واحدة من أجمل أعماله، ألا وهي السيمفونية الخامسة، خلال واحدة من أسعد فترات حياته التي ارتبطت بنجاحه الكبير كقائد أوركسترا وبحبه لالما شاندلر وزواجه منها عام 1902، ذاك مع أنه كان يكبرها بـ19 عاماً. فهي تمثل اتجاهاً جديداً في إنتاجه.. أو أسلوبية جديدة كما كان يطلق هو نفسه على هذه الفترة، والمتميزة ببروز تقنية اوركسترالية عالية البراعة..
والتخلي الواضح عن البرامجية المتبعة للحركات، والتركيز الشديد على الكتابة الكونتربنتية، التي تظهر أكثر وضوحاً في الحركة الختامية. وكانت أول الأعمال التي تخلى فيها عن اعتماده النصوص الشعرية، خلافاً لما فعل في السيمفونيات الثلاث الأولى.
هندسة عاطفية جديدة
تخلي المؤلف عن البرامجية المتبعة، لم يعن أبداً عدم وجود برنامج واضح داخلي عنده. إذ قسم بنفسه السيمفوني المؤلف من خمس حركات الى ثلاثة أقسام صريحة، نلاحظ فيها التطور العاطفي داخل العمل ككل من المشاعر السلبية الى الايجابية. فالقسم الأول ذو الصفة التراجيدية الغاضبة، يحوي داخله الحركتين الأولى والثانية، المليئتان بالمشاعر السلبية الغاضبة. أما الحركة الثالثة السكيرتسو.
فهي تشكل بحد ذاتها، القسم الثاني المليء بالبهجة والقلق الجميل، حيث تجتمع فيها السخرية مع الرشاقة والتوتر.. بجانب الراحة.. فنشعر داخلها بالتطور الايجابي من الناحية العاطفية. أما القسم الثالث فينقل بشفافية جميلة مشاعر الحب والبهجة النبيلة، متمماً النقلة النوعية بين النقيضين التاريخيين: الحزن والسعادة.
علاقة محكمة
في هذا العمل الجبار علاقة موسيقية محكمة بين الحركات. فالاولى هي مقدمة للثانية، والحركة الرابعة تشكل تمهيداً للخامسة. والرائع في هذه السيمفونية الجميلة أنه على الرغم من ضخامة بنية كل حركة، الا انها غير متغيرة داخلياً بشكل مركز. وهذا غير اعتيادي بالنسبة لماهلر كمؤلف. فهو يجري الكثير من التغيرات داخل الحركات، واكتفى في هذه السيمفونية بالتغيرات خلال مرور الحركات، موفراً نوعاً من الاستمرارية الدرامية الكلية للعمل:
القسم الأول:
تراجيدية الروح السلبية الغاضبة.
الحركة الأولى: المارش الجنائزي.
نفير
يبدأ المارش الجنائزي المكون من مادتين بنفير مكثف مرعب، موجه من آلة الترومبيت نحو المستمع ليشد انتباهه كلياً. ثم تأتي المادة الثانية في هذا المارش وتحمل لحناً مرثوياً رقيقاً تؤديه آلات الكمان والتشيلو. ثم يعود المؤلف إلى النفير الموجه وبسرعة مفاجئة تُدخلنا الوتريات في موجة غضب مكثف مع بقاء النفير مسموعاً. ثم تهدأ العاصفة لوهلة…
ويعود ماهلر الى النفير مرة أخرى، بواسطة الطبول هذه المرة. ولكن بشكل هادئ. وهذه المادة اللحنية تُعد وصلة غير مرئية بالحركة الثانية، حيث ستستخدم هناك بشكل أكثر أهمية. وهي في الحركة الأولى بمثابة نهاية مرثوية محكومة بإيقاع ثابت. فتبدأ الموسيقى بالتطور السلس، من الهدوء الشديد الى ذروة البكاء الانفجاري، الذي ينتهي بصورة مفاجئة بعودة نفير المارش المُتعَب، إذ تؤديه الاوركسترا كاملة معلنة نهاية هذه الحركة.
الحركة الثانية: انفجارات الروح
تبدأ بلحن مضطرب لسلم حزين يقودنا بهدوء الى لحن هادئ جميل رثائي النزعة، أرضيته ايقاع المارش الجنائزي للحركة الاولى. ثم يتبعها بانفجار صوتي صاخب ينتهي بفاصل لحني حزين للتشيلو والطبول. يبدأ بعده التطور للألحان الرئيسية في لعبة تتناوب فيها ضوضاء الروح الممزقة..
بألحان ساحرة تنتهي بإشراقة لروح المؤلف، الذي يذهب قُدماً وبشكل مركز، الى الذروة اللحنية المشرقة. وفجأة، ومن دون سبب معلن، تعود الفوضى الصاخبة ويتبعها انحسار صوتي متدرج في سلم حزين ينهي الحركة الثانية.
القسم الثاني: دوران القدر وولادة الحب
يظهر في الحركة الثالثة: سكيرتزو، تحول مفاجئ في مزاج المؤلف. ففي هذه الحركة تغير مفصلي غير متوقع إذ هو يضعنا في جو مازح بهيج من خلال ايقاع الفالس المالري الريفي. وبذا خلق جواً اصطناعياً بهيجاً للابتعاد عن الكآبة المفرطة التي يعاني منها. وينظر النقاد الى هذا القسم والحركة كترجمة نبيلة لظهور حب (الما شاندلر) في حياته.
فنسمع في هذه الحركة اندفاعا نحو حياة مليئة بالقوة والطاقة في محاولة لطمس الداخل المأساوي الذي يعيشه. فهو لا يزال يعاني من وفاة والديه وانتحار أخيه الدرامي. فنحن نسمع تنهيدات لآلات النفخ خلال الفالس بشكل متكرر، ثم تبدأ الموسيقى بتغيير جلدها، من السعادة الى التفكير العميق. ونسمع آلات النفخ الخشبية ترسل الى بعضها نغمات حزينة يتردد صداها، الى أن تتوقف الموسيقى بطريقة مفاجئة.
القسم الثالث: طيران الروح إلى الحب
لا يوجد أدنى شك في أن الحركة الرابعة، وضمن هذا القسم، واحدة من أبرز نماذج الموسيقى الحميمية عند ماهلر وربما أكثرها شهرة. فهذه الحركة القريبة من البطيئة: ( Adagietto)، المرهفة، تجعلنا نحس بعد الحركة السابقة المازحة بعواطف جياشة وأجواء خيالية خالصة، تخلق موسيقى متناهية النبل..
لأن هذه الحركة بروحها العاطفية الاشراقية تصبح مقدمة خيالية للحركة الخامسة. فالآلات الوترية تعزف لحناً طويلاً عالي الشفافية بمرافقة آلة الهارب، التي تصبح بمثابة الارضية المرافقة. ثم يحرك المؤلف الموسيقى بحيوية أكبر، يعرض من خلالها لحناً سكون أساسياً في الحركة الخامسة. فيطوره الى الذروة، ثم يعود الى الوتريات والهارب لتكرر اللحن الأول، الذي ينتهي بشكل هادئ يسدل ستار هذه الحركة.
الحركة الخامسة
حركة رائعة ومذهلة الجمال، تبدأ بلحن طويل متواصل تقدمه آلة الهورن معلنة ضرورة العودة الى الواقع والابتهاج. فتدمر الإحساس الكئيب المرعب الموجود في الحركتين الاولى والثانية.
وتترك الأجواء الحميمية الشاعرية من الحركة الرابعة وراءها لتخلق جواً من الهدوء تكسره حركة سريعة متدافعة، تجعلنا ننسى أن الكآبة كانت موجودة: فرح حقيقي يقود الحياة.. يتطلع الى قمم جديدة. ويصل المؤلف الى ذروة السعادة ليقول: ها هي الحياة تبدأ من جديد.
1911
ينظر المتخصصون إلى مالر كونه مؤلفاً ذا مكانة فريدة في تاريخ التأليف الموسيقي، وأعماله كلها تدخل تحت مدرسة خاصة اسمها مدرسة »مالر«: موسيقى إنسانية محضة خالصة. وكان قد شرع في إنجاز السيمفونية العاشرة لكنه مات قبل أن يتمها. كما لحن الكثير من الأغاني أغلبها بمرافقة الاوركسترا السيمفونية يغلب عليها العمق و الطابع الانساني الفلسفي.
ومثال ذلك، أغنيات عن موت أطفال (1905م)، والتي تمثل مجموعة من خمس أغنيات للشاعر فريدريك روكرت. أما أغنية الأرض (1911م)، فهي سيمفونية لمغنيين من طبقة كونترالتو وتينور والأوركسترا. وتكشف اضمحلال إنجازات الإنسان أمام الجمال الثابت للأرض.
في السينما
1971 لن ينسى محبو الفن السابع الأثر الكبير الذي تركته موسيقى هذه السيمفونية، في فيلم المخرج الايطالي لوتشيانو فيسكونتي (موت في فينسيا).
1992 في فيلم المخرج جورج ميللر (لورينزوس أويل): (Lorenzo’s Oil )، كان لموسيقى الحركة الرابعة، دور كبير في تثبيت درامية الأحداث.
2013 استخدم المخرج الألماني سيباستيان ليليو، موسيقى الحركتين الثانية والخامسة، في الفيلم المؤثر (غلوريا).
في التشكيل
1908 أنجز الرسام فلاديمير فلاهوفيتش،
ترجمة كآبة الروح.
1914 جسّدت لوحة الرسام النمساوي اوسكار كوكوشكا، ظهور الحب في الحركة الرابعة.
________
*البيان