عبد الرحمان الكياكي
خاص ( ثقافات )
“زريعة البلاد “ هي النص السردي الثاني بعد رواية “المنعطف” للأستاذ الحبيب الدائم ربي، الطبعة الأولى سنة 2004 عن مجموعة الأحمدية، لوحة الغلاف من تصميم الفنان عبد الكريم الأزهر. تضم الرواية 110 صفحات من الحجم المتوسط، وتتكون من واحد وعشرين مقطعاً سردياً كالتالي: خروب بلادي – حكاية ملفقة من ألف – حكاية أخرى مضحكة لكنها لا تسر – صدق أو لا تصدق – الحكاية وما فيها – حكايات مغرضة – جنازة غريبة – تمارين تطبيقية (لاختبار البلادة) – الحقيقة الغائبة (ورقة عثر عليها ضمن الإجابات) – بيان حقيقة من آل السلومي – جسد العاشق (نص للتاقي نشر في أكثر من صحيفة عربية) – حديث ما جرى – حدائق الموت – دار الرحماني (أودار السلومي الجديدة) الغرفة الأولى – زريعة البلاد – الخادم(ة) تدمر غابة الحلحال – السلومي مات العيش في الحافة – تجريح في السرائر – العيدي يظهر من جديد ويختفي – الدنيا الغرارة ويحتل المقطع السردي الذي يحمل عنوان الرواية المرتبة الخامسة عشرة، ورغم اختلاف العناوين وتعددها فإن هذه المقاطع السردية تحافظ على اللحمة السردية التي تجمع النص ككل ضمن تيمة أساسية، وهي “تيمة الموت”. من خلال النفي أو الإثبات. لقد قدمت هذه التيمة وفق حكايتين متعالقتين، الأولى تحكي موت السلومي الملفوفة بطقوس غرائبية حيث تحول المأتم إلى محفل، وتضم سبعة مقاطع سردية وتتوزع هذه المقاطع السردية على ثلاثة وخمسين صفحة، والثانية تحكي عن موت عادي، وهو موت السلومي حقيقة وتضم اثنا عشر مقطعاً سردياً وتتوزع هذه المقاطع السردية على ثلاثة وخمسين صفحة كذلك، وبين المقاطع الأولى والثانية تمارين تطبيقية لاختبار البلادة في أربع صفحات، فهل صدق القارئ تلك الترهات والسخافات التي تكلفت بها الإشاعة بالمجان؟ وبين هذه وتلك تخبلت كبة الحكاية، التي كان وراءها أكثر من سر وأكثر من فضيحة، فأصل الحكاية موت السلومي “لكن النميم نفث ريحاً صرصراً في رماد الحكاية. أجج في الجمر الخابي نيراناً وقادة. والباقي الأسوأ تكلفت به الإشاعة… بالمجان” ص6.
ورغم إتقان السارد لفن المراوغة من خلال النفي أو الإثبات عبر ممارسة لعبة الحكي، فإنه “لا أحد يدري لم تورط في كلام خانه التماسك حتى بدت الوقائع التي يرويها شبه مستحيلة“ ص4، وحتى أقرب القارئ من أحداث ووقائع النص، فسأحاول سردها بشكل مفصل حتى تكتمل الصورة، أو التصور لدى القارئ من خلال تلك المقاطع السردية المذكورة آنفاً.. بداية فإن السارد/ التاقي يعترف بأن أباه سالم السلومي قد مات، والبقية اختلاق منه“. ولأغراض غير مدركة المرام تبارى مشاؤون بنميم في تصريف القول (البهتان) الذي (ما) قيل، إلى نفي قاطع أو إثبات جازم“ ص5، وذلك من خلال حكاية ملفقة من ألف، تقول بأن السلومي غنم أموالاً كثيرة والذهب واللويز من الرباط لبلدة الشعاب رفقة ابنه التاقي، وذلك بعد لقائه الملك مستخفياً وهو في طريقه إلى سوق الجميعة لبيع الفحم، أعجب الملك بحكمته ونباهته فأرسل في طلبه إلى الرباط ليبيع للعلماء والحكماء والرمالين وقراء الطوالع الحكمة الشعبية بالدقة والربع. وحكاية أخرى مضحكة ولكنها لا تسر. هما في الأصل حكايتان تقعان ببلدة الشعاب، أمام أنظار سالم السلومي، في كل حكاية علبة، الأولى بحجم صندوق العروس وهي من فولاذ، والثانية تكاد بالكاد تكفي لاحتواء فردتي حذاء وهي من كرتون، وجندي متقاعد من غير معاش يجر ساقه المهروسة منذ الحرب نحو الشعاب حيث ينعزل كوخه الصغير. لم يكن في العلبة الفلاذية غير فضلات بطون الفرنسيس شرف الله قدركم، وفي العلبة الكرتونية حذاء جديد انتعله السلومي ذلك الصباح الموالي مباشرة لليلة موته. الذي بمحض صدفة لم يتم.
وينتقل بنا السارد للحديث عن أحداث عجائبية وقعت في تلك السنة التي مات فيها السلومي، وهي سنة قحطاء عم الهيف البلاد والعباد منها: (البغلة وضعت مولودها، شبح الولي الحافظ صار يتراءى بالليل والنهار في دخاشيش أجنان الدعيديعة، كما خلقته أمه. والنعجة الدرعاء المسماة “أعويشة” طلبت الشرع بلسان الأوادم من ولد سليمان، وحمارة الطالب طارت بمسعود الطويل من ولجة لمريجة إلى مقبرة سيد لغريب المنسية….. ثم يعود السارد ليقول لنا (باختصار هذا كله كذب مزلق حيث طاحت “القرعة” وبقي الزيت معلق(اً).) ص27 كل هذا يقع في بلدة الشعاب. إضافة إلى نهب وسرقة خيرات المنطقة من طرف كل من هب ودب “ زبانية المخزن والمضاربون واللصوص وأولاد الحرام..” ص27. والصحيح: أنهم أنطقوا الراحل وهو في القبر رميم.. نزعوا من الغابة اسم سالم، ومن عين الماء اسم سالم، ومن الوادي اسم سالم، ومن الشعاب الخلفية اسم سالم، …) ص28/29. ولسد الخواء ابتدع عنه الأعداء والأصدقاء حكايات ملفقة (منها طبعاً حكاية الرباط) كلها تبتدئ بـ”يا خسارة” وتنتهي بـ”يا خسارة”… “يا خسارة”. وهي أول كلمة يفتتح بها السارد النص. ما قالها السلومي في حياته، وإنما قال: طوزاميرد، والدليل أنه كان محارباً في فرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية. وعاد مفلساً عليلاً كالمخبول بعدما أشيع أنه قتل، فالحرب لم تكن حربه، والخسائر كلها من نصيبه.. إن الحكاية وما فيها، تعود إلى أربعينيات القرن الماضي، حين عاد السلومي معطوباً وبلا غنائم ليجد إخوته قد تقاسموا التركة بعد وفاة والديه، وشطبوه من الحساب، ص36، فاستقر في أرض خلاء، واكتفى بإنجاب ولدين وبنت، وهناك امتهن حرفاً هامشية، كبيع الفحم والخشب والقصب والبصيلة البرية والسرغينة والهندية وأذن الحلوف..ص37. حيث كان همه أن يضمن أحد أبنائه خبزاً نقياً من مهنة “نون والقلم وما يسطرون”. فلم يخب أمله في التاقي الذي أصبح مدرساً بالبنورية، وذلك بعد أن حارب في واجهات عديدة، بل خاب أمله في ابنه البكر “العيدي” الذي ما تحمس للنور قدر تحمسه للعار. ص38. وهناك بالبنورية توطدت علاقة سالم بالمدينة تدريجياً.
ليعود بنا السارد لحكاية مناقضة تماما مع حياة السلومي وموته وهي حكايات مغرضة، يبين لنا فيها ما تكلفت به الإشاعة والقول البهتان، حيث تنكشف نوايا الراوي الخبيثة. ويسترسل في الحكاية قائلاً: إن السلومي الله يحرق عظامه بالنار – تنوسي في السطح لسنوات (وهذا غير واقعي ولا ممكن) إلى أن اكتشفه التاقي –الله يوعثه – بوحي المصادفة، وبدافع فضول ممجوج، ذات فجر كالح نافقاً ورائحة النتانة تعم المكان (يخخخ)، والعناكب نسجت من فوقه خيوطاً، والفطريات نمت حواليه راسمة خربقة من التشابكات المقززة التي غدا معها لا سبيل إلى تبين الجثة وسط الأسمال القذرة الملتفة بها.(ص41). أما زوجة السلومي، أم التاقي المسيخيط فهي نصف عمياء نصف بكماء مكومة في حيز ضيق من المراح، كأنها عضاية ريحتها تطرش بالخنز. تفو..(ص42)، جمع التاقي أخته وزوجته، وشرح لهما الخطط والتدابير ووزع عليهما الأدوار كي تمر “الجرة” بخير.. فيما قام التاقي بتشذيب شاربه وتصفيف شعره مع سماعه لأغنية لا يجيزها المقام ولا المقال، (هذا طبعا غير ممكن ولا يصدقه الا عقل تافه) ص42. تلك هي الصورة القاتمة التي رسمتها الإشاعة. وفي جنازة غريبة، في هذا المقطع السردي يصور لنا المأتم على شكل مسرحية أعطى فيها التاقي إشارة انطلاق “الحفل” في صرامة مخرج فاشل لتبرز أول شخصية على خشبة المسرح، وهي زهوة صاحبة الصوت الخشن – واه ناري على بويا. والسالكة زوجة التاقي لتنطلق مراسيم جنازة غريبة. ليحوم حول المسكن أطفال ونساء ورجال. فضوليون. نشالون. طفيليون. مخبرون. كانوا جميعاً جاهزين للظهور على الخشبة في اللحظة المناسبة….. هكذا ارتفعت في الأرجاء نغمات ناشزة ترددها جوقة بمهزلة. تتغنى- بلا حياء – بأمجاد تنقصها المصداقية، حققها الأبناء الكفرة العاقون، المتنكرون للدم والملح والعشرة، لوالدهم بعد الوفاة… ص 47 مجموعة من الصور المشينة لأسرة ليست لها أخلاق، تمجد الفقيد بكلمات سوقية، لا علاقة لها بواقع الحال، حيث خيضت معارك وهمية أبطالها أعداء من لحم الفقيد ودمه، حتى الفقيه الذي تكفل بالتكفين ما يزال يرغي ويزبد احتجاجاً على ما اعتبره مقابلاً مجحفاً. ص52. أما الموكب الجنائزي، فلم يكن أحد منه يولي بالاً لجلال الموت. لقد عادوا وهم يتحادثون في أمور لا علاقة لها بالموت. أما في تمارين تطبيقية (لاختبار البلادة) فالسارد يوجه مجموعة من الأسئلة لقارئ مفترض، يزاوج فيها بين الفصحى والعامية، منهالا عليه بوابل من الشتائم، والإهانات. لاستفزازه وإثارة حفيظته، ومدى تصديقه للحكاية التي شوهت حياة وموت السلومي، وهذا في اعتقادي نوع من التهكم على القواعد الجاهزة في كتابة النصوص السردية. غير أن الحقيقة الغائبة، هي أن الحكاية المروية عن حياة وموت السلومي حسب الراوي – لاتقف على قدميها لأسباب عديدة منها أنها: ممجوجة (العقل السليم يمج تعميم الشر على كل الناس…) – لا علاقة لها بالواقع – مجرد شطح خيال حكائي – مشبوهة ومدسوسة – متداخلة (تجمع خليطاً من الترهات) – متهافتة (طالما أنها تجعل من جنازة عادية حفلة غنج..) خبيثة – مخادعة – جبانة – عديمة المروءة – لا تاريخية…… والحكاية هي في البدء والمنتهى أحادية الرؤية لأنها لا تقدم إلا وجهة نظر المتهافتين الخبيثين المخادعين الجبناء عديمي المروءة الذين كلامهم يعمه كثير من الخطأ وقليل من الصواب. ص61-62 وبعدها ينتقل بنا السارد إلى (بيان حقيقة (من آل السلومي)- تفيد بأن الراحل السلومي لم يمت مهموما ولا حزينا، ولم يترك وصية ولا رسالة ولم يفه بكلمة حتى. قبل موته سأل عن أحوال البلدة وعن صحة الجميع كما يفعل كل مساء وعن اليوم والساعة. كان الوقت بعيد المغرب لكنه قال إني أسمع أذان العشاء، وعلى جنبه استغرق في صلاة. شرد قليلا ثم ودع، دون تطويل، ولا معاناة راضيا بملاقاة مولاه… لم يقل يا مرحى ولا يا خسارة، على رغم الأخيلة المعتلة. لم يمت عند الفجر كما قيل. ولكنه عند الغسق انعتق. نظيف الثوب والبدن والسريرة بخلاف ما تدعيه الإشاعة. (ص63-64). ثم يعود بنا السارد لاستثمار الذاكرة من خلال تذكره لطقوس العيد. بحديثه عن السلومي وعائلته، وكيف يتم استقبال العيد، بطقوسه المعهودة، حيث يجلس السلومي في غرفة الجلوس بعمامته المشرقية كسلطان يتقبل منهم تهانئ العيد. لكن هذا العيد ما قبل أفراد العائلة يد السلومي وما هنأوه بالعيد… ياه… قبل أسبوع فقط مات أبي،… ص70
لقد اختار السلومي في حياته أن يستقر في البنورية وهو مكره نتيجة الحاجة والمرض بين أحضان أبنائه، الذين اختاروها من قبله، رفقة أم التاقي التي ما عادت تقوى على العودة معه إلى البلدة. وبقي يتنقل بين البنورية والبلدة كلما راوده الحنين إلى تفقد أحوال مملكته في الجبل وشيئا فشيئا راح ينفصل عن حبل السرة بعدما لم تعد الصحة تسمح ولم تعد الارض سخية..ص71… وفي دار الرحماني (أودار السلومي الجديدة..) يصفها السارد غرفة غرفة، وما تحويه كل غرفة من أثاث بناء على أسئلة حشرية كانت تحز في نفوس معزين كثر ص82 تلك الغرف التي كان السلومي يطلق عليها أسماء توحي له بالبلدة التي هجرها مكرها: كدية الدار العالية – جنان الطوب – واحة لمريجة…. أسماء بسيطة سميت بها تلك الغرف التي لم تسلم من تهكم المعزين و”حشيان الهضرة ” بكلام يخدش حرمة الاحياء والاموات من طرف المعزين.. ورغم توالي سنوات الجفاف لا ينقطع الغرس في بلدة الشعاب، يحصد الموت الصغير والكبير اليابس والاخضر وتظل البلدة ناغلة، فنسوة بلدة الشعاب ولادات ذلك ما أنتجته وتنتجه زريعة البلاد. فبلدة الشعاب لم تعرف في أربعينيات القرن العشرين سوى خيام وأعشاش ونوايل لأسر معلومة لها صلات دم ومصاهرة كال الاشهب، وال الذهبي، وال خلوق، وآل السلومي….. ومع الوقت فرخت الأسر وانتشر الأبناء بين الشعبة والشعبة حتى ضاقت الأرض، وبدأت الهجرة، ومن هنا جاءت هجرة سالم إلى البنورية بعدما سبقه أبناؤه إليها. ص86). وفي هذا المقطع السردي (زريعة البلاد) يحكي الراوي عن الإخفاقات والمكاسب لساكنة البلدة انطلاقا من أحكامهم الخاصة التي يقيسون بها نجاح أو فشل الفرد، في ظل الهجرة، فكل مكسب يحققه المهاجر من البلدة فهو بالنسبة اليهم مسروق منهم، فلولاهم ما تعلم فلان أو هاجر الآخر.. يمجدون هذا ويسبون هذا وتتقاطر زياراتهم من البلدة إلى المدينة لقريب قد لا تجمعه بهم سوى رائحة الشحمة في الشاقور وأخيرا يختم الراوي نصه السردي بتيمة الموت، وهي التيمة الرئيسية في النص، الموت لا يتقدم ولو بدا سريعا. لا يتأخر ولو بدا بطيئا. انه في كل الاحوال يظل موتا. مرعبا للفرائص من قريب لقريب. كقنبلة ظلت منسية تحت التراب، منذ حرب قديمة، تنفجر فجأة. كموت السلومي الذي ما توقع أحد أن يأتيه قبل أو بعد ذلك اليوم، يا خسارة..
أما بخصوص توظيف الكاتب للخطاب الدارجي، فهذا في اعتقادي له أهميته الابداعية، التواصلية، خاصة وأن موقع الشخصية الاجتماعي يتحدد عبر خطابها. وبما أن الكاتب اختار شخصيات نصه الروائي من فضاء قروي، فان توظيف الدارجة أصبح مشروعا، كما(الدارجة) أنها تسعف القارئ في معرفة دواخل الشخصيات، وخاصة عندما يتعلق الامر بشخصية أمية لا تعرف القراءة ولا الكتابة، عاشت أو تعيش ظروفا صعبة، ولا يمكن لكاتب النص أن ينطقها غير لهجتها الاصلية. فالسلومي مثلا اكتسب نباهته وحكمته من خلال تجاربه في الحياة “الوقت سيف، والسلومي الامي غدا بقدرة قادر، فقيها رغم أنفه وشخصا مهما يتوقف عليه بقاء أشخاص مهمين في مناصبهم المهمة “ ص13-14. من هذا المنطلق فتوظيف الدارجة ضمن النص الروائي (زريعة البلاد) قد أتاح للمؤلف التعريف بالوضع المحلي لبلدة الشعاب. لأن الدارجة لغة حياتهم اليومية تتيح التواصل بين عموم القراء بأقل كلفة لغوية.