*لوتس عبد الكريم
طه حسين سيظل اسمًا زاخرًا بالكثير، بعد سنواتٍ طويلة من رحيله، وسيبقى لهذا الاسم معنىً خاص عند المثقفين والعامة على حدٍّ سواء، لأنه لا أحد ينسى معاركه الكبرى في سبيل التحرُّر الفكرى، والقيمة الأدبية التي لا تُبارى، والمضمون الاجتماعي للتعليم، الذي جعل منه حقًّا مكفولًا للكافة كالماء والهواء.
وكانت زوجته سوزان طه حسين رفيقة الطريق الصعب، تحمل له في القلب والعقل فوق هذه المعاني رفقة ذلك الطريق الشاق، حيث رأت العالم عبره، ورأى هو الآخر العالم من خلالها، إذ اقتحم قلبها الباريسى ذات يوم في عاصمة النور والفن والجمال.
خواطر جالت برأسى، وأنا أنعطف من طريق «الأهرام» إلى شارعٍ جانبي اسمه شارع «حلمية الأهرام»، حيث منزل صغير داخل حديقة واسعة، كُتب على مدخلها كلمة «رامتان»، إنه منزل طه حسين «1306هـ/ 15 من نوفمبر 1889م- 1393هـ/ 28 من أكتوبر 1973م»، وفي هذا المنزل كانت تقيم السيدة سوزان طه حسين، التي كانت قد وصلت إلى سن الرابعة والتسعين من عمرها، والتي قضت نحو ثلثيه في مصر، وتوفيت عام 1989 ميلادية.
وبصوتٍ واهنٍ رقيقٍ كانت تحاورني شاخصةً ببصرها من وقتٍ إلى آخر نحو غرفة مكتب طه حسين، لامعةً عيناها إذا جاء ذكره، كأنَّ أطيافه ما زالت تحيطها عبر هذا الماضي البعيد.
سألت السيدة سوزان عن كلمة «رامتان»، وهل هي مفردة فرنسية؟ ولماذا وقع اختيارها عليها كاسمٍ لمنزلها؟
فأجابتنى مبتسمة: لستُ التي اخترتها، فلقد اختارها «طه»، وليست كلمة فرنسية بل مفردة عربية يستخدمها البدو، لقد علمنى «طه» أن «رامتان» هي مثنى كلمة «رامة»، ومعناها موضع في البادية للراحة، أما المُثنَّى فسببه أننا حين بنينا هذا المنزل كان ولدنا «مؤنس» يستعد للزواج من «ليلى»، ابنة حامد بك العلايلى، حفيدة الشاعر أحمد شوقي، فطلبنا أن يحتوى المنزل على سكنيْن، واحد لنا وآخر لـ«مؤنس»، ومن هنا جاءت التسمية «رامتان».
واسترسلت مع ذكرياتها قائلة لى: التقيت «طه» أول مرة في 12 من مايو سنة 1915 في مدينة مونبلييه الفرنسية، ومضى الزمن، وجاء يومٌ قلت فيه لأهلي: إننى أريد الزواج من هذا الشاب، وكان ما كنت أنتظره من رد الفعل: كيف؟ من أجنبي؟ وأعمى؟ وفوق ذلك كله مسلم؟ لا شك أنك جُنِنْتِ تماما.
ربما كان الأمر جُنونًا، لكنني كنتُ اخترت، نعم اخترتُ حياةً رائعة، فلقد ملأ حياتى إلى أقصى حد، بعد أن تزوجنا ببساطةٍ مطلقةٍ يوم التاسع من أغسطس 1917.
قلت: وهل تعيشين في «رامتان» وحدك؟
قالت: بعد وفاة «طه» انتقلت لأعيش مع ابنتي وزوجها في منزلهما بالمعادي، ولكنني كنت دائمة الشوق إلى المنزل الذي عشت فيه مع «طه» سنواته الأخيرة، ولدىَّ ذكرياتي التي أعيش بها، فعدت لأسكنه وحدي.
كيف تعيشين مع هذه الذكريات؟
عندما أجلس هنا في الصالون أسمع عند المغرب صوت الكروان الذي كان «طه» يُحبُّه حبًّا شديدًا، وعندما أغلق عينىَّ أكاد أسمع أصوات الموسيقى التي كنَّا نحب أن نستمع إليها معا في ذلك الوقت، وعندما أجلس في قاعة الطعام أكاد أسمع صدى ضحكاته العريضة، وهو يحكي ما صادفه في يومٍ من مُفارقات، وما لاحظ على الناس من ملاحظات، وفى غرفة نومه أسمع ترتيل القرآن من محطة إذاعة القرآن الكريم، التي كان يضبط الراديو الصغير بجوار سريره عليها، وقد ظللت أستمع إلى المحطة نفسها والترتيل نفسه بعد موته، ونفسي تهتز لما أستمع إلى آياتٍ قرآنية سبق أن شرح لي معناها.
قلت لها: ما صلتك بالأدب العربي مع طه حسين؟
إنها صلة ثانوية، فقد كنا نجلس مع «طه» فنراه غائبًا عنَّا مشغولًا عما نفعل أو نقول، كنت أقول له: أين أنت يا «طه»؟ فيرد علىَّ: أنا في القرن التاسع أو العاشر أو الحادي عشر الميلادي، وكنا نسأل: وماذا تفعل في هذه القرون؟ فيكون رده: أنا مع لبيد بن أبي ربيعة أو مع أبي تمام أو مع أبي العلاء المعري أو مع ابن زيدون، وكنا نسأله: وماذا تفعل في العراق أو في سوريا أو في الأندلس؟ فيقرأ علينا البيت أو البيتين من شعر الشاعر، ويترجم، ويُفسِّر، ويصف الأرض والجو والبيئة والظروف التي قيل فيها ذلك الشعر، أضيفي إلى ذلك ما تعلَّمتُه من الكتب الأجنبية التي كنت أقرؤها له عن حضارة الإسلام في شرق العالم الإسلامي وغربه، في ماضيه وحاضره.
كتبت يومًا: ما أكثر الأشياء التي تحيط بي، ومع ذلك لم تعد هي نفسها التي عرفها وعرفتها معه من قبل، كيف ذلك؟
قالت لي: أليس من الواضح أن ما يراه شخصان معا، لا يمكن أن يراه أحدهما وحده؟
وتجعل «سوزان» فلسفة طه حسين في كلماتٍ صدَّرت بها كتابها «معك»: «إننا لا نحيا لنكون سعداء، عندما قلتَ لي هذه الكلمات عام 1934 أصابني الذهول، لكنني أدرك الآن ماذا كنتَ تعني، وأعرف أنه عندما يكون شأن المرء شأن طه حسين فإنه لا يعيش سعيدا، وإنما يعيش لأداء ما طُلب منه، لأداء ما يراه واجبه، وهكذا تعلمت أن آخذ نصيبي من كل المحن التي اختصت بها الحياة الرجل الذي كنت أحبه».
وقد ترجم الكتاب المترجم السوري الدكتور بدر الدين عرودكي، وراجع الترجمة محمود أمين العالِم، لتصدر الطبعة العربية عام 1979م. وبعد أكثر من ثلاثين عامًا نُشرت النسخة الأصلية الفرنسية عام 2011م، مقدَّمة بقلم أمينة طه حسين، وملحقة بها تذييلات مهمة أضافها محرران فرنسيان، ثم صدرت الطبعة العربية الأحدث عام 2015م عن «مؤسسة هنداوى للتعليم والثقافة»، شاملةً نص الطبعة الأولى، مضافة إليه ترجمة عرودكى للإضافات الواردة في الطبعة الفرنسية، مع ملحق للصور التي تؤرِّخ بصريًّا لحياة طه حسين وزوجته وابنيهما مؤنس وأمينة، التي كانت متزوجة من الدكتور محمد حسن الزيات، وزير خارجية مصر الأسبق.
________
*المصري اليوم