ترجمة: تحسين الخطيب
لم تكد تمضي سوى بضعة أيّام على اختيار كل من رواية الإيطاليّة إيلينا فيرانتي، “حكاية الطفلة الضائعة”، ورواية الأنغولي خوسيه إدواردو أغوالوسا، “نظرية عامّة للنسيان”، ضمن القائمة القصيرة لجائزة المان بوكر العالمية لهذا العام، حتى تم ترشيح الكتابين ضمن القائمة النهائية لجائزة أفضل كتاب مترجم إلى الإنكليزيّة.
ولا يؤكد حدث من هذا النوع إلّا على القيمة الأدبيّة العالية التي تتمتع بها هاتان الروايتان منذ صدورهما في العام 2015، خاصة “حكاية الطفلة الضائعة” التي وصفتها صحيفة الأبزيرفر البريطانية مؤخّرا بأنّها أول رواية تستحق جائزة نوبل تأتي من إيطاليا منذ عقود طويلة، وقد سبق أن تناولنا هاتين الروايتين، هنا، في هذه الصفحة، كان آخرها بتاريخ 18 /4 /2016.
جاءت القائمة القصيرة “لجائزة أفضل كتاب مترجم”، والتي أعلنت في التاسع عشر من شهر أبريل الجاري، في فئتين؛ القَصّ والشعر. ضمّت فئة القَص، خلافا لروايتيّ فيرانتي وأغوالوسا، كلّا من “آرفيدا” لصموئيل أرشيبالد، ترجمها من الفرنسية دونالد وينكر، و”فيزياء الحزن” لجورجي غوسبودينوف، ترجمتها من البلغارية أنجيلا رودل، و”لافتات تسبق نهاية العالم” ليوري هيريرا، ترجمتها من الأسبانية ليزا ديلمن، و”أمزجة” ليوئيل هوفمن، ترجمها من العبرية بيتر كول، و”الأعمال القصصية الكاملة” لكلاريس ليسبكتور، ترجمتها من البرتغالية كاترينا دوسون، و”حكاية أسناني” لفاليريا لوسيللي، ترجمتها من الأسبانية كريستينا ماك سويني، و”الحرب، الكثير من الحرب” لميرسه بيفوريدا، ترجمتها من البرتغالية ماروكسا ريلانيو ومارثا تينينت، و”الجريمة الأشد وضوحا” لغابرييل ويتكوب، ترجمتها من الفرنسية لويز روجرز لالوري.
وأمّا فئة الشعر، فتكوّنت من ستة أعمال هي: “مخفوق ريلكه” لأنجليكا فريتاس، ترجمته من البرتغالية هيلاري كابلان، و”مقاعد شاغرة: قصائد مختارة” لليو شا، ترجمته من الصينية مينغ دي وجينفر ستيرن، و”قصائد محشوّة كالبنادق: شعر نساء من هراة في أفغانستان”، ترجمته من الفارسية فارزانا ماري، و”قصائد مختارة” لسيلفينا أوكامبو، ترجمه من الأسبانية جيسن ويس، و”البدو، أخوتي، يخرجون للشرب من الرّكوة الكبرى” لعبدالرحمن وابيري، ترجمته من الفرنسية نانسي نعومي كارلسن، و”سَراة البحر” ليي لو، ترجمته من الصينية فيونا زي لوران.
سيلفينا أوكامبو (1903- 1993) شاعرة من الأرجنتين، كانت زوجة القاصّ الشهير أدولفو بْيوي كاساريس. وصفها جورجي آمادو بأنها من “أبرز كتاب الأسبانيّة، رفقة بورخيس وغارثيا ماركيز”. كما مدحها ألبيرتو مانغول، قائلا “قلة من الكتاب لديهم عين تبصر الأهوال الصغيرة للحياة اليوميّة، وقلّة قليلة ما زالت ترى اليوميّ باهرا ومدهشا. لا أستطيع التفكير— بخلاف سيلفينا أوكامبو— بكاتب أقدم، في أيّ وقت أو في أيّ لغة، على تأريخ كليهما معا، بمثل ذلك المرح الحصيف والبهيّ”.
وتعد الترجمة المترشحة للجائزة هي أول مجموعة تظهر بالإنكليزيّة لها. تتراوح قصائد أوكامبو، في هذا الديوان، من السونيتات التي تحتفي بالطبيعة الأرجنتينيّة البكر، والغنائيّات الميتافيزيقيّة التي تتأمّل مخاضات الحُبّ وآلامه، إلى تلك المقطوعات التي تستبصر الأنا الجوانيّة ضمن تعدّد علاقاتها المتشابكة في التاريخ والأسطورة والذاكرة، ساعية إلى الكشف عن الروحانيّ في الماديّ، والقبض على “السحريّ الذي في داخل الطقوس اليوميّة، وعلى المخفيّ أو الوجه المحتجب الذي لا تظهره مرايانا”، كما يقول إيتالو كالفينو.
وأمّا “مخفوق ريلكه”، فهو الكتاب الأوّل للشاعرة البرازيليّة أنجيلكا فريتاس، والذي صدر بالبرتغاليّة في العام 2007. يشير الكتاب في عنوانه إلى الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه، ويلعب في تورية واضحة على عبارة “ميلك شيك”. الكتاب، في حد ذاته، تجريب لغويّ يستحضر غيرترود ستاين وعزرا باوند وشكسبير، من بين شعراء آخرين. وقد سبق للديوان أن ترشح لجائزة رابطة القلم الأميركية للشعر لهذا العام.
ومن صورة البحر المقيم بجانب القرية التي كبرت فيها، خلال الثورة الثقافية، تستعير الشاعرة الصينية يي لو عنوان مجموعتها هذه.
يحضر البحر، في هذا الديوان— كما تقول الشاعرة ميليسّا كواسني— بوصفه “قوّة مستحيلة بالنسبة إلى الشاعرة: إنها قوّة جليلة سابقة على وجود الإنسان وشيء نحمله معنا أيّنما حللنا لنضعه في كرسيّ قديم من خيزران، حتى نستطيع رؤية أمواجه وهي تتقلبّ من فوق . . فعبر استكشافها للكارثة البيئيّة الحالية وعلاقتنا المعقدة بالبريّة التي تحيط بنا، تعثر يي لو على شيء أكثر تعقيدا من عنفوان شاعرة طبيعة تقليديّة في العلاقة الغامضة بين نفسها وقوى الطبيعة التي يجسدها البحر الذي لا يحدّه شيء”.
وعلى مدى أعوام اشتغلت فارزانا ماري على القصائد التي كتبتها ثماني شاعرات أفغانيّات، فقدّمت لنا كتابا يضم مختارات ثنائية اللغة؛ إنكليزية وفارسيّة، يسمح “بنظرة خاطفة على التقليد الشعري الفارسيّ الخفيّ والعميق. إنه كتاب يتوجب على كل شاعر وكل قارئ أن يفتّش عنه. فهو يوسّع إدراكنا وإحساسنا بهوية الشاعر”.
تحضر بقوّة، في هذا الكتاب، قصائد ناديا أنجومان، الشاعرة التي ضربها زوجها حتى الموت قبل نحو عشر سنين، بسبب ديوانها الشعري الأول “نَوْر الدخان”، لتكون شاهدة على الحياة الخطرة التي تعيشها المرأة في أفغانستان.
وفي “البدو، أخوتي، يخرجون للشرب من الركوة الكبرى”— الديوان الأول للشاعر والروائي الجيبوتي عبدالرحمن وابيري، المقيم في باريس، والذي يكتب أشعاره بالفرنسية— يحضر الإنسان بوصفه جزءا من البشرية جمعاء. بوصفه “إنسانا منتصبا، على وجه التحديد. هنا، وقف البشر لأول مرّة، ووضعوا قدما أمام أخرى، يتبادلون الإيماءات والحركات والتنفّس بحريّة”.
وأمّا ليو شا، فهي شاعرة ومصورة فوتوغرافية، تعيش قيد الإقامة الجبرية في الصين رفقة زوجها الشاعر والناشط السياسي ليو شاوبو، منذ حصوله على جائزة نوبل للسلام في العام 2010.
كتابها الحالي، “مقاعد شاغرة”، مختارات من قصائدها المكتوبة في نحو ثلاثين سنة، ويضم بعضا من صورها الفوتوغرافية. قصائد شا، في هذه المجموعة، قصائد لحظات شديدة ومريرة تسبر أغوار تعقيدات العالم الجوانيّ، ذاهبة أبعد من الألم والقيود إلى فضاءات الحبّ الأرحب.
قصائد مختارة: بدو يخرجون للشرب من الركوة الكبرى
سيلفينا أوكامبو
◄ نقش على ضريح النوتي الغريق
هذا أول أحلامي عن حطام السفائن،
ولسوف لن أنساه البتّة. معتمٌ
هو الماءُ في الأحلام، بارد وقاسٍ.
وفي الغد سأكون خائفًا من التعاويذ.
◄ خيمياء شفافة
أيّ ضوء متقلّب هو اليوم في الهواء!
أوراق الأشجار لا تتحرك.
وإنني لا أفكّر في نفسي.
فلو كنتُ شجرة، سأكون الشجرة التي تراها
بتويجها المفتوح، والتي سوف تظلّ تكبر.
ولو كنت عصفورة، فسوف أكون التي تسمعها،
النشيدَ الحادّ الذي يَبْري نفسه مستسلمًا؛
ولو كنت الحديقة، هذي الحديقة،
فإنّ رئتيّ ياقوتيّاتٍ وقصباتي الهوائيةَ الياسمين،
ولو كنتُ حجرًا، أو مجرّد غبار، رملًا
غزلته الريح ببطش شديد،
فإنني سوف أكونُ نفسي، ما أذكر أنّني عليه،
في خيميائك الشفّافة التي تجعلني أهلك.
◄محاكاة
أيتها القبّرة، إنّك لا تغنّين أغنيتك
الخاصّة لأنّك تغنّين
أغنية الطيور الأخرى:
إنّك لا تعرفين ذلك، تظنّين
بأنّك تجترحين أنغامك الخاصّة أبدًا
أنغامك التي تحاكيها الطيور الأخرى.
***
ليو شا
◄ كلمة
في الصباح، كلمة
من حلم شخص آخر
تتلصّص عليّ
كمؤامرة.
وفي اللحظة التي أفتح فيها عينيّ
تأخذني الكلمة
بإيماءة بهيّة.
الكلمة الوحيدة
مريضة أخيرة:
ألم وصراخ
قد يفتكان.
ولكنني حسودة— إنها تطير
في اللحظة التي تأخذني فيها.
◄ليمونة الجنة
أحمل ليمونة جنّة كبيرة ومدوّرة
ليمونة جنّة ذهبيّة
تفوح منها رائحة العلقم.
تستطيع سكين صغيرة
أن تقطع ما يبدو
إهابا سميكا—
رحتُ أرتعش
في ألم صامت.
فحياة بلا ألم
ثمرة
غير مقطوفة: تتعفّن.
أريد أن أكون ليمونة جنّة
تشقّها السكّين أو تقضمها الأسنان.
أشتهي الألم
أو أن أموت في الألم تغمرني السّكينة
ولا أشاهد جسدي يتحلّل
بالدّود الذي يعجّ فيه.
وفي هذا الشتاء كلّه
كنتُ أكرّر شيئًا واحدًا:
أقشّر ليمونات الجنّة واحدة بعد أخرى
وأرتشف رحيق موتي.
****
عبدالرحمن وابيري
◄إكسير المنفى
إنّه يذهب إلى قرطاج ليساعد على فهم
جيبوتي
إنّه المكان الآخر الذي يحفظ الهُنَا
والآن من أجل أيام سعيدة قادمة
حين ينتظر مملوك الزمن
في فضاء حرّقته الندوب.
◄ هنا
حيث تسمع تهدّج صوت أمّ كلثوم
حيث تتوجّس من الله البَرّ
والجيران المجهولين
وحيث أقسمت لي بأنك قد سمعت طيف
المسافر السعيد
وأنت تنتظر لتغرق تعاستك
في كؤوس
بلون الصديد.
◄ أي يي ياي
العين تشرب، ولا ترى فحسب
العين تكبر أسرع من الإصبع
وتحظى بمناقب سلبيّة
وحتى مناقب إيجابيّة، متّفق عليه!
العين تبصر كلّ ما حول يد الله
كالحرير تمسّد العين الأشياء
ويموت الإنسان واقفا
أو مستلقيًا على الأرض بيدين متصالبتين
الأقدام في الأمام والجسد يابس
كلص تنسلّ الحياة بعيدًا.
يي لو
◄ قرارة النفس
أنت مرصّع في كبد العالم
كحجر مدفون في جبل
الشقوق محجوبة في الصخرة
والماء الذي أكله الصّدأ يتلوّى في الداخل
وقد يرتخي
إهاب الجبل القاسي
وقد تتهاوى قرارة النفس
في يوم من الأيام.
◄ينهمر المطر أشد
يتناثر المطر على السّطح
كأنّه على جمجمة
الرّذاذ رفضٌ
بوجه قاسٍ
النار تغلق نفسها في الدخان
وسواحل الدم الأحمر كالعقيق تستحيل جليدًا
حتى البحر لا يستطيع أن يخرج إلى الشاطئ.
لِمَ ليسَ للسماء
بابٌ يغلق نفسه
ينهمر المطر أشدّ
في قلبي أخيرًا
وإنّني أصاحب المطر أخيرًا
محلّقةً كالمطر.
◄ لقد طارت العصافير
تنادي العصافير من حولي ثانية
نداء يناديه وعيي بعيدًا
أتوقّف عن الأشياء التي أقوم بها
فالعصافير تنادي—
كعناقيد أزهار تتفتّح
كخيوط فقاعات تنبض
يستحيل قلبي شجرة مزهرة
بحيرة
لا أستطيع أن أهدأ لبرهة مديدة
ولكنّ العصافير قد طارت للتوّ بعيدًا
كأنّه الوداع حين تطير العصافير.
_________
*العرب