الأمثال.. عجز العقل أمام المجهول


*محمد الأسعد


«الأمثالُ» موروثٌ إشكالي بأكثر من معنى. وينصرف حديثنا هنا تحديداً إلى الأمثالِ العزيزة على القلوب، إلى الحكمةِ التي تصل إلينا من شخصٍ أو حكايةٍ أو سطرٍ من سطور شاعر. أحياناً نكتشفُ أن مثلاً من الأمثال لا يعبر إلّا عن ممكنٍ واحدٍ من ممكنات تجربة إنسانية، وأن من الممكن عكسه أو مناقضته أو حتى محوه. يُقال، على سبيل المثال، «على أهلها جنت براقش». وبراقشُ هذه كلبة دلّ نباحُها على مضارب قومها، فهاجمهم أعداءٌ لهم وأبادوهم. والسؤال هو: هل جنت هذه البراقش التاريخية على قومها فعلاً؟ أم هم الذين جنوا على أنفسهم حين جعلوا درعَهم الحصين صمتَ كلبتهم؟
مثلٌ آخر، يُقال «اليدُ لا تلاطم المخرز»، للوهلة الأولى يبدو أن هذا المثل يؤكد على «حقيقة» منطقية لا يتسرّبُ إلى كهفها الشك. فاليدُ العارية لا تستطيع مقاومة المخرز المعدنيِّ الصلب فعلاً. ولكن هذا صحيح في حالةٍ واحدة فقط، حالة تكون فيها وظيفة «اليد» الإنسانية هي اللطم، وسيختلف الأمر حين ندرك أن لليد وظائفَ أخرى، وظيفة الكتابة والبناء وحراثة الأرض والتصوير.. إلخ. حين ننتبه إلى وجود هذه الوظائف لليد، أو إلى ممكناتها، سيتهاوى الأساس المنطقي لهذا المثل، وسيظهر العكس تماماً، أن اليد التي تمارس الفعاليات الحضارية يمكن أن تحطم المخرز.
لماذا يمكن إحداثَ هذا التشويش، وزعزعة أسس هذه الأمثال، وما يماثلها، مع أنها أمثال تقرّر وترسّخ شبه قوانين ومسارب للفكر والسلوك، كما يبدو؟ الجواب: لأنها نتاج تجارب تخثرت في اللغة من جهة، ونتاج سياقات لم تعد قائمة إلّا توهماً من جانب آخر. وتنبع الإشكالية من كون هذه الصيغ المحفوظة مكرهة على أن تصبح نابعة من سياق جديد أو جزء منه، أو مكرهة على تمثيل دور أو اغتصابه وسط استحسان وإعجاب جماعيين. 
لا تستطيع الأمثالُ بصياغاتها القديمة الانبثاق مجدداً من السياق الجديد، أو تصبح جزءاً منه، رغم الميل الإنساني إلى الاستسهال والتبطل، والتعويض عن الجهد الفكري، تحليلاً وتركيباً، بجهد مجاني أنتجه جهدٌ آخر في الماضي. هل تصلح الأمثال كأدوات للاستخدام في سياق الماضي والحاضر، والمستقبل ربما؟
لو قلنا بهذا، لمنحناها مكانة النبوءاتِ الخارقة لطبائع الأمور، أو لمنحنا قائليها «الأوائل» مكانة العرافين الماثلين في الأساطير فقط. ولبرزت مفارقة مبعثها عدم إمكانية التنبؤ بممكنات الدافع الحيوي الفاعل في الطبيعة والشؤون الإنسانية، ولأن هذه الممكنات عديدة، لا يصح منطقياً قياس شتاتها على واقع واحد متحقق. 
بعبارة أبسط، لا تشير سياقاتُ تطوّر الطبيعة والإنسان إلى خطٍ واحد، يمكن معرفة بدايته ونهايته مسبقاً، وإلّا انتفى وجود المجهول والمحتمل واللايقين، أي لانتفت أسس الوجود التي يقوم بها وعليها نموهُ الباعث على الحيرة والتساؤل والشك. 
الأمثالُ تنفي ببساطة كلَّ ما هو غامض ومجهول، وباعث على الشك أو محيّر. إنها تقدم الضوءَ المفقود، الضوء الذي يعوض عن ضوئنا الخاص، ضوء سياقنا الخاص. وهي ظاهرة تعويضية نجد ما يقابلها في كل شيء حولنا تقريباً. نجدها في استبدال الشبيه بالأصل، وفي النزعة الاستعراضية التي تلغي الانهماكَ الجاد، ونجدها في النميمة التي تعوّض عن وجود الحوار، وفي الإشاعة التي تحل محل الوقائع والاحتكام إلى الممكن العقلي الذي تضبطه المعرفة بطبائع الأمور. لهذا نجد أكثرَ الناس سعادة أولئك الذين يحفظون أكبر كمية من الأمثال، ويطلقونها أمام وضعية تحتاج إلى جلاء، أو أمام مهموس يحتاج إلى ملموس، أو ملموس يحتاج إلى إدراك.
هنالك فعلُ إدراكٍ في الأمثال، إلّا أنه فعلٌ ظاهري ومخادع. هو ليس فعلَ إدراكٍ لوضعية جديدة، أو إخراجاً للواضح من الغامض، أو فهماً لتجربةٍ تفتقر إلى معادلٍ لفظي أو نظام معنى. إنه إدراك مسبق يُفرض على حالةٍ مثقلة بممكناتٍ من المعاني لا حصر لها. هو ليس تخريجاً بل هو إغلاقٌ لأبواب التخريج والاجتهاد، لأنه يقدم مخرجاً جاهزاً، وهو ليس فهماً لتجربة، بل هو بمثابة لافتة مكتوبة مسبقاً نبحث عنها بين ركام الذاكرة لنخرجها، ونضعها علامةً على تجربة في حالة غليان.
* * *
ما نتوهمه من مكانة مميزة للأمثال ينبع من اعتقادٍ بالثبات، ثبات السياق الإنساني والطبيعي، ومن نزعةِ بذل أقل جهد ممكن. إلى درجة يكاد فيها أصحاب هذا الاعتقاد، وهذه النزعة أن يتخلوا عن حياتهم ويعتنقوا بطالتهم المحبوبة، لو وجدوا من يعيش حياتهم بالنيابة عنهم. فعل اللجوء إلى الأمثال لا يختلف عن هذا النوع من الفعل الافتراضي. إنه تخلٍّ عن التجربة التي تطالبنا بإدراك المعنى، أو نظامه، وتطالبنا باستخراج ما هو خاص ومتعلق بزمننا. وهل اللغة إلّا علاقات متغيرة بين ألفاظ؟ وهل تنبع نظم المعنى الجديدة من شيء آخر سوى العلاقات دائمة التغير والتعدد؟
تشجعنا الأمثالُ، كما تشجّعنا الصيغُ اللغوية الموروثة، على البطالةِ الفكرية، على الامتثال للماضي وأخذ العبرة كما يُقال. إنها ذلك الطقس الطريف الذي يمارس بخشوع أمام وضعية غير مفهومة. ولكن ما الذي يؤكد لي أن تلك الوضعية التي جاء المثلُ نتاجاً لها هي ذاتها الوضعية الراهنة التي استدعته؟ ألا يفقد الزمن معناه، وتفقد الأمكنة معناها، بل وتفقد الجهود الإنسانية معناها، لو كان أمر المعرفة بهذه السهولة؟
هنالك جناسٌ بين كلمات مثل «التمثل» و«الامتثال» و«التماثل»، بعيدٌ عن كونه عابثاً، رغم أنه جناس ناقص، ففعل التمثل والمجيء بالمثل يوحيان بحد ذاتهما بالامتثال والاتباع والتماثل، أو بوهم التماثل. بينما لا تماثل في هذه السلسلة من التنوع والاصطفاء، ثم التنوع والاصطفاء إلى ما لا نهاية، أعني سلسلة التطور الكوني والإنساني. أمّا التمثل، فأمر آخر، هو تقمص حالةٍ ما، نؤمن، ونحن نشاهدها أو نقرؤها، أننا أمام حالة «أخرى»، أو أن بيننا وبينها فاصلاً، وأننا مغرّبون عنها بالمعنى الذي قصده الشاعر والمسرحي الألماني «برتولد بريخت» (1898- 1956).
ولكن التمثل يزيل الفاصلَ والتغرّبَ الضروريين للوعي لإدراك ذاته، إنه يزيل «آخرية» الحالة ويدمجنا بها، إنه يقتلعنا من مركزنا وسياقنا الخاص، ويرمي بنا في مركز آخر، في سياق آخر قادم من الماضي دائماً. ونلاحظ هنا أن المستقبل لا يرسل لنا «أمثاله» عادة، بل يترك لنا أن نصل إليها بوصفها خلاصة تجاربنا، واكتشافنا الذي سنتجاوزه.
* * *
«الأمثال» ليست سلباً للمعنى الممكن، وكل معنى مستجد فقط، بل هي فرضٌ لمعنى واحد ووحيد يجعلنا عاطلين عن والفكر، كما النحل العاطل عن العسل، ويجعلنا عاطلين عن الفاعلية الإنسانية بالنتيجة، أي عن الفاعلية الأكثر جدوى في هذا الوجود على الأقل. إنه عادة تستمد صحتها من التكرار، وخطأ لا سند له إلّا التكرار. مثلما يثبت التكرار أن «اليقظة» أصدق من «الحلم»، بينما من يستطيع أن يدافع عن قول من يقول: إن «يقظة» البلداء وضحايا التكرار أصدق من «حلم» الشعراء؟
نحن معتادون على القول إن «ما كلّ ما يتمناه المرءُ يدركه»، استناداً إلى سلسلة من الوقائع وظاهرة طبيعية ملحوظة، تجري الرياح بما لا تشتهي السفنُ، وننسى أن لا أحد يطلق سفنه إلّا إذا كانت الرياحُ مواتية، وإلّا عُدّ مخبولاً. صحيح أن المفاجآت التي لا يمكن احتسابها عديدة، ولكن هل هناك، إذا استبعدنا اليقين المعتاد بالتكرار، ما يمكن حسابه بدقة رياضية، أو ما يمكن الاطمئنان إليه، سوى الثبات والتكرار والبعد عن كل مغامرة؟
المغامرة كلمة ذات إيحاء سلبي في أحيان كثيرة، وبفعل التكرار أيضاً. والأفضل والإيجابي أن «ترجى السماء حين تحجبها الغيوم»، مع أن منطق هذه الظاهرة الطبيعية، أي حتمية تساقط المطر إذا امتلأت السماء بالغيوم، قد لا يعني حكماً أنه سيتكرر في الحياة الإنسانية. 
الأمثال، وما جرى مجراها من حكمٍ وقصص رمزية، بكل أسسها المنطقية، دعوة إلى محو المغامرة والغامض والمجهول، دعوة إلى محو القلق والالتباس الكامنين في أساس الوجود. ذلك الوجود المتأرجح على الحافة، رغم الإحساس العام بأنه يستقر على أرضية راسخة.
قد لا يكون لحالة الحافة «أمثالها» و«حكمها»، باستثناء الأمثال الدالة على الشك، والحكم التي تعزز اللايقين، إلّا أنها حالة جديرة بالتأمل، وبخاصة حين تحاول «الأمثال» القادمة، دائماً، من الماضي ردم هوة وجودنا، بأوهى نسيج لا وظيفة له سوى إخفائها عن أبصارنا ووعينا.
_________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *