الإنس والجن بين الحقائق والأساطير (1)



جمال عمر*




بعيدا عن زخم المؤامرات الحصرية والمستمرة على مصر خاصة والشرق العربي على وجه العموم، والإرهاب الذي تمارسه الصهيونية العالمية ضد مصر على أرضها وضد رجال جيشها وأمنها سعيا لهدم الدولة، وكذلك ليس بعيدا عن ذئاب السياسة والإعلام المسعورة والمتفرغين فقط للعواء من أجل نشر الإحباط واليأس والتحريض على فوضى جديدة، ومناصريهم من الحمقى الذين ينشرون الفساد والانحلال والتطرف بمختلف أشكاله وأساليبه، ولسنا غافلين عن رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، دفعني كم الخزعبلات الفضائية والإعلامية لتناول موضوع كثر فيه اللغط وتحول إلى أساطير وضلالات متأصلة عبر التاريخ وهو موضوع الإنس والجن.

فالإنس والجن.. هما جنسان مختلفان تركيبا وقد عرفا على مر التاريخ الإنساني القصير نسبيا بأنهما يمثلان المخلوق العاقل على الكرة الأرضية وبينهما علاقات تاريخية منها الأسطورية ومنها ما هو حقائق واقعة لا جدال فيها ولا لبس إلا لمن دخلوا أبواب العلم بمخلوقات الله من باب خاطئ مبنيا على حوادث أو تخيلات وروايات أساطير زمنية يعود كثير منها لتاريخ عمر الإنسان على الأرض، والتي تنتشر وتلقى تصديقا بين عامة البشر نظرا لعدم قدرة حواسهم الخمسة المعروفة على إثبات كذب أو صحة ما يروى بينهم من معلومات وخرافات قد تؤكد بعضها حوادث فردية ولكنها تتضخم وتحتل مكانة الأساطير الأبدية وتتفشى بين البشر الحالمين بكشف المجهول وادعاء معرفة ما لا يعلمه غيرهم، ولكن حقيقة.. لا يوجد دخان بلا نار.. ولا ادعاءات بلا حقيقة، فلابد من وجود حقائق وثوابت في زخم الحجم الهائل من موروثات القصص والروايات والأساطير، والتي يصعب إثباتها بالعلم التجريبي خاصة في عالم ما وراء قدرات حواس الإنسان الخمسة ولكن يبقى هناك ما يخبرنا به رب الكون وخالق كل شيء في كتبه السماوية عبر تاريخ البشر، شريطة أن لا تكون أيدي البشر قد عبثت بها أو أخفتها وأخرجت للبشر كتبا مختلفة تتوافق مع الأهواء والشهوات والرغبات مثل التلمود الذي صنعه اليهود بديلا عن التوراة وأخفوها، وكذلك مثل الأناجيل التي تعددت صورها وترجماتها فعبثت بها الأيادي والأهواء فاختلفت فيما بينها في الكثير من القضايا الجوهرية وصلت لحدود العداء بل والتكفير والشلح والهرطقة، وبالتالي فلا يبقى بين أيدينا سوى القرآن والذي برغم تفرق أصحابه لأكثر من سبعين فرقة وجماعة والعداء الشديد فيما بينهم، إلا أنهم جميعا يجتمعون على صيغة واحدة لا اختلاف فيها ولو على حرف واحد في هذا القرآن وإن كان لا فضل لهم في ذلك فالله سخر للقرآن حتى الكافرين به ومنكريه ليحافظوا على حروفه وكلماته وآياته دون أدنى تحريف أو تغيير وهي حقيقة يعرفها جيدا كل المستشرقين ودارسي مقارنات الأديان وعلماء كليات اللاهوت في العالم.

وبالتالي فالقرآن هو الكتاب الوحيد المنضبط والمحكمة آياته وكلماته ولا خلاف عليه حتى بين جميع فرق ونحل المسلمين بل وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، ومما يبعث على الطمأنينة والثقة في هذا الكتاب، أن القرآن هو الوحيد الذي لا تجد فيه تخاريف البشر ولا شطحاتهم الشهوانية والنفسية، ولا تجد فيه تحريضا ولا كراهية لأحد من خلق الله، بل فيه دعوة واضحة ومؤكدة للسلام والإخاء واحترام الآخر والتعايش ولا فرق ولا كرامة إلا بالتقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13، وباستعراض آيات القرآن بعين التدبر والفهم نجد فيه اتزانا ومنطقية واضحة في ذكر حقائق الخلق لكثير من مخلوقات الله على أرضه وعلى رأسها الإنس والجن وهو الأهم لموضوعنا هذا، فالجن كما ذكر في القرآن مخلوق يملك نفسا كنفوس البشر ولكن جسده الذي يستخدمه وبتعامل به مع الحياة هو من النار وللدقة هو من (مارج من نار) بخلاف ابن آدم الذي يتكون جسده من تراب، وهو ما نراه في حقيقة تحول جسد ابن آدم بعد موته لتراب يماثل تراب الأرض التي خلقه الله عليها واستخلفه، فابن آدم خلق الله جسده من سلالاات متطورة من الطين (تراب + ماء)، وبالتالي فجسد الجن يرتد ليكون نارا بعد موته، ولا يختلف الموت للإنس والجن، فكلاهما مجرد نفس يمنحها الله جسدا حيا بوجود نفحة الله فيه وسر الإحياء الإلهي وهو الروح، فإذا انقضى أجل المخلوق (إنسا أو جنا) استرد الله الروح، فيفسد الجسد ويتحلل لمادته الأولية (ترابا أو نارا) وتفقد النفس وسيلتها للتعامل مع الحياة فيتوفاها الله تعالى وينشئها في حياة أخرى (ننشئكم فيما لا تعلمون) سواء كانت هذه الحياة على الأرض مرة أخرى أو مكان وزمان آخر أو حتى في الجنة أو في الجحيم طبقا لنتائج عمله في حياته.

ويقف ابن آدم عاجزا عن فهم طبيعة خلقه حتى ولو كان مسلما وحافظا للقرآن رغم أن الله شرح ذلك تفصيلا في القرآن في أكثر من (300) ثلاثمائة آية، ولكن ابن آدم أغلق عقله واكتفى من القرآن فقط بآيات الحدود والفروض واعتبر آيات العلم والخلق آيات متشابهات لا يصح الاقتراب منها، مع إنها الآيات الأهم التي أنزلها الله وحض ابن آدم وأمره أن يدرسها ويفهمها لتعينه على مهمته التي خلقه من أجلها وهي إعمار الأرض كخليفة لله عليها، وهي المهمة التي استحق عليها سجود الملائكة وتكريمها له والاستغفار له، بل وعاتبه ربه كثيرا(أفلا يتدبرون القرآن – أفلا تعقلون – أفلا تتفكرون)، ولكن ابن آدم عاشق الضلال يتخيل ويضع نظريات خلقه وتركيبه وحركة نفسه وتعاملاتها فقط على أساس تجاربه مع المرضى من البشر وتخيلات عقله القاصر بل ويعتبر نفسه عبقريا رغم الخلل الواضح في نظريات الكثيرين من علماء النفس عبر التاريخ، ويتغافل ابن آدم تماما بل وينكر أن الله علمه وشرح له طبيعة خلقه وتركيبه تفصيلا في القرآن خاصة من هم من المسلمين الذين يحترفون دراسة علوم الغرب في خلق الإنسان ونفسه ويتجاهلون تماما ما منحهم الله من علم مطروح وسهل التحصيل في قرآنهم، ولكننا لا نعجب أن الألمان قد أنشئوا معهدا علميا متكاملا فقط لدراسة علوم القرآن بل ويفعل مثلهم كثير من الدول الغربية والشرقية سرا ولكنهم لا يستطيعون إعلان ذلك للعامة.

وتعتبر النفس البشرية هي القائد (للسيارة) التي هي جسده الطيني وهو صاحب الأمر والمسئول، ولكن الجسد الحي بما فيه من روح لا علاقة لابن آدم به سوى أنه مطيته أو سيارته الأرضية التي يركبها ويستخدمها ليمارس حركة الحياة، فإذا انتهت مدته فقد المطية (السيارة)، وعاد لربه ليتوفاه وينشئه في نشأة أخرى لا يعلمها إلا خالقه الذي شاء ألا يعلم ابن آدم شيئا عنها، وكذلك الجن مع اختلاف واحد، وهو أن مطية الجن (سيارته) مخلوقة من سلالة متطورة من النار، ولذلك فالجن يستطيع دخول جسد الإنسان والمرور عبره بل والعبث به دون عناء، خاصة لو كان ابن آدم بلا حماية حقيقية وقوية، والجن تتميز قدراته بأنها تفوق قدرات ابن آدم المحسوسة بمراحل كبيرة، فبعض الجن يستطيع السفر عبر الكواكب والفضاء لمسافات بعيدة بسرعة تقترب من سرعة الضوء ولكنها لا تتجاوزها، فالإنس والجن هما الثقلان، والعلاقة بينهما أصيلة فقد كان الجن مستخلفا على الأرض قبل الإنس ولكنه فسد وسفك الدماء وخربوا الأرض ولم يعتبروا من تهديد الله تعالى لهم {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ }فاطر16، 17، وهو التهديد الذي يكرره الله لنا كبشر ولكننا لا نعتبر ولا نعي أننا نكرر فشل أسلافنا من الإنس والتي يهددنا الله بها بقوله تعالى {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ }الأنعام133، فنحن بمنتهى البساطة آخر سلالات الإنس على الأرض، فبخلاف الجن استخلف الله الإنس في سلالات متعاقبة حتى جئنا نحن البشر أبناء آدم كآخر سلالات الإنس على الأرض، وهو ما يفسر التناقض بين عمر ابن آدم على الأرض (سبعة آلاف عام) وآثار بعض الأنس الآخرين والمختلفين عنا في الكثير، ولكن أجسادهم مثلنا من تراب الأرض، بل ويفسر ذلك لماذا يقدر عمر الهرم الأكبر بأكثر من عمر ابن آدم على الأرض بآلاف السنين، ولا أدري كيف غفل العلماء المسلمين عن مثل هذه المعلومة التي تنفي وتمحو التناقضات العلمية تماما.

فجسدك بما فيه من روح لا علاقة له (بنفسك) سوى أنك مستأجر له لفترة من الزمن هي أجلك على أن ترعاه كأمانة لديك تطعمه وتغذيه وتستخدمه بما لا يهلكه ولا يسوؤه ولا يدمره في حدود ما علمنا الله وأمرنا، وهذا الجسد (المطية) مكون من أجزاء ومكونات متوافقة لتمكن ابن آدم من التعامل مع حركة الحياة على الأرض، وتتحكم نفس الإنسان في الجسد الممنوح لها بالسيطرة على غرفة قيادته (الرأس) التي تتجمع فيها كل نهايات الشبكة العصبية المسيطرة على أجزاء الجسد فيمثل مخ الإنسان غرفة قيادة السفينة البشرية، فتملك النفس زمامه وتسيره كيفما شاءت، ولذلك فمن أخطر ما قد يصيب الإنسان أن تفقد نفسه سيطرتها على غرفة القيادة (المخ)، سواء للإصابة أو تخلي النفس وهروبها وهو ما يسمح للمتربصين به من مخلوقات أخرى حوله (لا تحيط بها حواسه) مثل الجن أن يحتلوا غرفة قيادته أو أجزاء منها فيقال (جُن الإنسان) أو مجنون أو به (مس من الجن) وتلك حقيقة لا جدال فيها وهو ما سوف نستعرضه لاحقا..

* روزاليوسف

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *