حوار: زياد فايد*
كاتب استثنائي.. ولد وتربى في ريف المحلة، درس الطب وتوغل في تفاصيل النفس البشرية، استمد ثقافته الواسعة من أسفاره في معظم أنحاء العالم راصدا ومحللا ومتابعا، وأيضا كقارئ نهم وباحث مدقق في التراث الإسلامي بصفة عامة والإنساني بصفة خاصة.
وظف هذا كله في كتابات إبداعية استخدم فيها مفردات طازجة لا يقلد فيها أحدا ولا يستطيع أحد أن يقلده.
عكف المنسي كما تقول سيرته على البحث عن جذور الشخصية العربية، وهل هي شخصية قابلة للتقدم والتطور أم أنها محكومة بمصير الهزيمة، وقد أثمرت رحلته في التراث العربي ثلاثة كتب متنوعة هي شخصيات حية من الأغاني ووقائع عربية وتفاصيل الشجن في وقائع الزمن، بعد ذلك كتب روايته الطويلة الأولي “انكسار الروح” وهي قصيدة حب طويلة وشجية عن الجيل الذي عاش مع ثورة يوليو محملا بالانتصارات عاشقا للحب والحياة، وانتهي به الأمر منكسر الروح وضائعا بعد هزيمة حرب يونيو 1967.
كتب بعد ذلك عدة مجموعات قصصية، وتحولت قصته “الوداعة والرعب” إلي فيلم سينمائي بعنوان “فتاة من إسرائيل”. بعدها نشر “قمر على سمرقند” وفازت بجائزة مؤسسة ساويرس للأدب عام 2006، وقامت الجامعة الأمريكية بالقاهرة بترجمتها إلى الإنجليزية ونشرتها، أما روايته “يوم غائم في البر الغربي” فتحولت إلى مسلسل بعنوان “وادي الملوك” ووصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية. نشر المنسي بعدها رواية “أنا عشقت” ومؤخرا “كتيبة سوداء” ضد العبودية والقهر، وتمجيدا للشجاعة والصلادة البشرية، وتلقي الضوء على منطقة مجهولة من التاريخ المصري. ووصلت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر.
في مكتبه بمجلة “إبداع” كان لنا معه هذا الحوار.
> لماذا تركز في معظم أعمالك على أزمة الهوية؟
الواقع يؤكد أن الهوية المصرية لها جذور تاريخية عميقة. والشعب المصري له سمات معروفة من آلاف السنين.
مصر أقدم دولة عرفت الحدود الجغرافية من قديم الأزل، شعبها طوال عمره يتعرض لمؤثرات ثقافية كثيرة، ومن الطبيعي أن يكون قد تأثر بها، ولأن هناك إشكالية حول ماهية مصر..هل عربية أم فرعونية أم أفريقية أم متوسطية؟ كثير من الأسئلة التي تثار حولنا، ولكن هذه القضية لا تشغلني من وجهة النظر السياسية، إنما تشغلني وجهة النظر الإنسانية..أننا كشعب مهمش داخل بلده لا يستشار، إنما تفرض عليه سياسات لا يختارها، وكل الممارسات السياسية التي تحيط به من انتخابات واختيارات وكلام عن الحق في الديمقراطية، وما إلى ذلك، ليست في مجملها حقيقية ، لذلك أحاول أن أؤكد على هوية المصريين وخاصة في بعض أعمالي مثل “يوم غائم في البر الغربي”.
للمصريين تاريخ وحضارة وأشياء تستحق الفخر، لذلك أركز على هذه النقطة لأحد قليلا من غربة المصريين داخل وطنهم.
> لماذا توقفت فترة طويلة بعد “انكسار الروح” روايتك التي أصدرتها عام 1988 حتي ظهرت روايتك التالية “قمر على سمرقند” 2005؟
حدثت بعض الظروف التي منعتني من إصدار كتب. لكني لم أتوقف عن الكتابة تماما، كتبت عدة أعمال للأطفال، كتبت أيضا للسينما، في الوقت نفسه كنت متهيبا أن أقدم على عمل كبير أي الرواية. وقتها تركت مصر لأنني كنت أشعر أنني غير قادر على العيش في القاهرة، سافرت كثيرا وقمت برحلات ربما لمعظم أنحاء العالم واستقررت في الكويت لعدة سنوات للعمل في مجلة العربي، بعدها شعرت انني لا بد أن أعود للكتابة، بدأت أولا في كتابة عدة قصص قصيرة جمعتها في كتاب بعنوان “عشاء برفقة عائشة” بعدها بدأت في كتابة رواية “قمر على سمرقند” والتي استدعيت أحداثها من إحدى رحلاتي الطويلة لوسط آسيا.
> اختلف النقاد في تقييم ما يكتبه الشباب الآن، فهل تعتقد انه اتجاه جديد ربما يجد لنفسه عنوانا فيما بعد؟
الحقيقة هناك شباب في مصر الآن موهوب جدا ومتنوع وغزير الإنتاج، يكفي أن أذكر منهم (طارق إمام، محمد ربيع، أحمد خالد توفيق، أحمد مراد، أحمد عبد اللطيف) وهؤلاء أضافوا فعلا للفن. صحيح أن ثورة 25 يناير 2011 في اعتقادي لم تحقق حتى الآن أهدافها السياسية، أو الاقتصادية ، لكنها نجحت في بث روح جديدة للإبداع المصري، وهذا ظهر بشكل ملحوظ في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الماضية، من زخم كبير في حركة الشباب وتوجهاتهم، ومن خلال عملي في مجلة إبداع أري تجارب جديدة لهم وأري كيف يفكرون، أري أيضا لغة جديدة، ففي مرحلة السبعينيات حدثت نقلة كبيرة في الكتابة الإبداعية في مصر إلا أنها للأسف دخلت في جمود لسنوات طويلة إلى حد ما، وأعتقد أننا حاليا على أبواب ثورة جديدة أو نقلة نوعية في الكتابة والإبداع المصري.
> هل تحرص على متابعة ما يكتبه الشباب وخاصة من برزت أسمائهم مؤخراً؟
أنا معجب بثقتهم بأنفسهم، يعني جيلنا كان يتمنى رضاء الدولة في المؤسسات والهيئات لكي ينشر لنا كتب أو حتى تعترف بنا، إنما الجيل الحالي لا ينتظر رضاء الدولة “ولا عايز منها حاجة”. يعمل بنفسه ويؤسس دور النشر لنفسه “ومطلع الدولة من دماغه، لأن الحقيقة المتغطي بها عريان زي ما بيقول المثل، وأنا معجب أنهم بيأسسوا طرق جديدة في التعبير والنشر والنقد.
> أعمالك التي تحولت إلى دراما سينمائية أو تليفزيونية، هل فقدت مضمونها وكنت تفضل أن تظل على الورق؟
أي كاتب يطمح أن تجسد أعماله على شاشة السينما أو التليفزيون فهذا يوسع من انتشاره، خاصة مع قلة عدد القراء، فعدد النسخ المباعة لأي رواية لا يتجاوز المئات وربما في بعض الأحيان يكون آلافا معدودة، لكن الدراما يشاهدها الملايين، كتبت مباشرة للسينما فيلم “آيس كريم في جليم” بعده كتبت عدة أفلام، ولكنها للأسف لم تر النور رغم أنني تعاقدت عليها، لكن يبدو أن السينما المصرية لها عالمها الخاص والناس التي تجيد التعامل معها، أما بالنسبة للتلفزيون فقد كتبت تمثيلية واحدة بعنوان “وداعا أيها الوهم الجميل”. وتحولت روايتي “يوم غائم في البر الغربي” إلي مسلسل تليفزيوني باسم “وادي الملوك” وإن كان كاتب السيناريو والحوار قد شطح كثيرا عن الرواية، صحيح أن الرواية تتضمن عدة إشكاليات أخلاقية إلى جانب تعقد البناء الدرامي عن الرواية الأصلية، ورغم ذلك كنت أتمني ألا يذهب السيناريست بعيدا إلى هذا الحد، فلم يفطن لمغزي الرواية الأصلية إلا في الحلقات الأخيرة من المسلسل، وبمناسبة عرض “أنا عشقت” مؤخراً عن رواية لي بنفس الاسم، أقول إن كاتب السيناريو نجح في عمل بناء متواز، رغم صعوبة البناء الدرامي للرواية، ويسعدني أن أسجل إعجابي بالمخرجة مريم أحمدي لأن لديها رؤية سينمائية مميزة وتكوينات كادر رائعة، بصراحة كانت صورة حلوة ومبهرة.
> ثلاثة أعمال تعتبرها محطات هامة في مشوارك الأدبي؟
أول رواية لي هي “انكسار الروح” دائما يسمون أول رواية للكاتب (الرواية التأسيسية) لأنه يضع فيها غالبا جزءا كبيرا من السيرة الذاتية، ولأنه يبني عليها فيما بعد عالمه الروائي، وغالبا لا يبتعد كثيرا عنها في أعماله التالية، فدائما يحاول أن يدور حولها.
ثانيا: المجموعة القصصية “عشاء برفقة عائشة” لأني جربت فيها طرقا جديدة في القص واستخدمت فيها تكنيك الخيال العلمي والفنتازيا، وهو لا يستخدم كثيرا في مصر، وأعطيتها طابعا إنسانيا غير موجود حتى في الأعمال الغربية.
ثالثا: كتاب شخصيات حية من الأغاني، والذي سبق أن نشرته على حلقات في مجلة الدوحة، لأنه ساهم في نشر اسمي ككاتب، وهناك قراء كثيرون قالوا إنهم أحبوا القراءة من خلال متابعة هذا الكتاب، وهذا يعتبر في رأيي أعظم شهادة يعتز بها كاتب.
> ثلاثة أعمال تأثرت بها في الأدب العربي أو الغربي؟
أولهم ديستوفسكي وعالمه، الإخوة كارمازوف، أعمال جورج مادوف، تأثرت أيضا بأعمال الخيال العلمي في الغرب، لأنها عرفتني بأهمية إطلاق الخيال والاعتماد عليه.
> يتفق كثيرون على أنه لم يأت الوقت المناسب لظهور إبداعات أدبية عن ثورة 25 يناير 2011، ورغم ذلك فقد صرحت بأنك بدأت بالفعل في كتابة تاريخ ثورة 25 يناير قبل تشويهها في المناهج التعليمية؟ فهل كنت تقصد أنك سترصد الأحداث كمؤرخ أم كأديب؟
أي أنه قد آن الأوان أن نبدأ للالتفات إلى هذه الثورة بعد التغيرات التي أعقبتها وخاصة بعد أن أصبح الخونة أبطالا والأبطال أصبحوا خونة، حدثت انقلابات درامية كثيرة تمثل فعلا فصولا درامية روائية، لابد أن نتناولها الآن قبل أن تمحى، نجيب محفوظ قال يوماً: إن الأدب هو حدث سياسي مصاغ في قالب فني وهذا يبين مدي ارتباط السياسة بالأدب، نحن نحاول تأريخ هذه الفترة، علي الأقل الفترة التي نعايشها، فالأدب ابقي وأصدق كثيرا من كلام الجرايد ووسائل الإعلام المرئي والمسموع، لأنه ينقل صورة صادقة للمجتمع، بما يتيح لأي عالم اجتماع أن يدرس هذا المجتمع ويحلله.
> ينادي البعض بثورة ثقافية.. كيف ترى هذا الأمر؟
الواقع نحن لسنا في حاجة لثورة ثقافية، إنما نحتاج ثورة حقيقية تخرج مصر من التخلف، نريد ثورة على المستوي الاقتصادي، والاجتماعي والإداري لأن العالم كله يتغير ويجري بسرعة الحصان الجامح، ونحن نسير بسرعة السلحفاة، ولا يمكن أن نظل نشاهد، لابد أن نقوم بثورة في كل مناحي حياتنا.
> إلي متى تستمر حالة الفوضى التي نعيشها في كل المجالات؟
بصراحة هي طالت أكثر مما ينبغي، نحتاج لبعض النظام والتحكم لأننا بهذا الشكل نرجع للخلف، والزمن لن ينتظرنا.
> كيف يمكن أن نقلل من حالات الانقسام الموجودة داخل المجتمع المصري؟
هذا الانقسام سيقل في حالة واحدة فقط، أن تقوم الدولة بعمل تنمية حقيقية، لأن كل غضب سياسي هو تعبير عن غضب اجتماعي وضيق حال ومستوي معيشة منخفض، لو قامت الدولة بتنمية حقيقية وخطة تستطيع أن تنهض بالبلد عبر عدة مشاريع سيزول هذا الانقسام.
الفقر هو السبب..
لأننا فقراء ليس لنا سبيل آخر غير الاستثمار في التعليم، وهناك بلاد فقيرة مثل الهند ليس لديهم مواد أساسية ومع ذلك استثمروا في العقول، لذا فنحن في حاجة أن نعيد الثقة إلى العقل المصري، ذلك العقل الذي أفسدناه ودمرناه.
> قلت في روايتك يوم “غائم في البر الغربي”: الدين لا يحدث فرقا بين الناس الغباء هو الفارق ماذا كنت تقصد؟
أقصد فهمنا للدين، فأنا من الممكن أن أفهم الدين بمعني متسامح وأقبل الآخر وأقبل دينه، ومن الممكن أن أكون غبيا جداً واعتقد أنني الدين الأوحد ولا أحد مثلي. هناك من يتسامح ويتقبل المسيحي والبوذي مادام في النهاية لديه شيء. منطق ابن رشد يقول: الذي يقبله عقلك هو الذي تصدقه والشيء الذي لم يقبله عقلك لا تصدقه، فلابد أن يتحكم العقل في مجريات الأمور، وإنما الغبي هو الذي يقبل الكلام كما هو، فلابد من توافقه مع العقل والمنطق.
> لماذا رفضت تشبيه البعض لـ”عائشة” الشخصية الرئيسة في رواية “يوم غائم في البر الغربي” بـ(مصر) كرمز رغم أن كثيرا من الأدباء يلجؤون للرمز للتعبير عن أشياء لا يستطيعون التصريح بها؟
أنا لا أحب الرموز، بل أعتبرها عيبا في العمل الفني، وأفضل أن تكون مجردة لذلك لا ألجأ إلى الخيال العلمي أو التلميح، وأحاول بقدر الإمكان أن أتمسك بضفاف الواقعية.
الحقائق هي ما يهم.. وأنا أدعو نفسي وكل المبدعين من الكتاب أن نبدأ فورا بوضع ثورة 25 يناير 2011 في دائرة الفحص لكي نقدر أن نخلق منها أعمالا إبداعية.
* أخبار الأدب.