جدار أكاديمي


*محمود شقير


خاص ( ثقافات )
وصل فريق ستار أكاديمي كله تقريباً، وصل الفريق وحطّ الرحال بالقرب من القدس، لِصْقَ جدار الفصل على وجه التحديد. لم يكن ثمة تخطيط مسبق لزيارة من هذا النوع. قام الفريق بالزيارة بعد عدد من الرسائل التي أرسلها رأفت حسين إلى إدارة الأكاديمية. قال رأفت إنه راغب في الالتحاق بالأكاديمية مثل بقية الشبان العرب، لكي يمارس الغناء الذي يعشقه منذ الصغر، إلا أن سلطات الاحتلال منعته من السفر إلى بيروت متذرّعة بالأمن، أمن الإسرائيليين طبعاً، وسلطات الاحتلال كما هو واضح ليست معنية برغبات الشبان الفلسطينيين الذين أبدوا اهتماماً ببرنامج ستار أكاديمي، ووجدوا فيه فرصة للتنفيس عما هم فيه من حصار. رأفت، في هذه المناسبة، متفهّم إلى حدّ ما لرأي أستاذه الذي يدرّسه مادة علم النفس في الجامعة، الأستاذ يقول: هذا البرنامج يسعى إلى تقديم ثقافة فارغة لتسطيح وعي الأجيال الشابة، ومع ذلك، فهو راغب في متابعة البرنامج رغم الانتقادات التي يوجّهها إليه أستاذه وغيره من الصحافيين والسياسيين، أو من يتبنون أفكاراً شبيهة بأفكار الشيخ علي السمهوني الذي ظهر على شاشة إحدى الفضائيات ذات مساء، وراح يكيل الذم والهجاء لبرنامج ستار أكاديمي، لأنه لا يطيق أن يرى البنات وهن يختلطن بالشبان. قال: المشرفون على هذا البرنامج وأشباهه يسعون إلى نشر الفساد الخلقي في أوساط الأجيال الصاعدة، وإلى تكريس حالة الهوان التي تعيشها أمة الإسلام. رأفت يحدق في شاشة التلفاز ويقول: خفّفْ علينا يا سيدي الشيخ، وإذا بدّك تبحث عن أسباب هوان الأمة، ابحثْ عنها في غير هذا البرنامج. رأفت حاول أن يهاتف المحطة الفضائية، لمحاورة الشيخ حول وجهات نظره المتشدّدة، ولم يفلح في الوصول إليها، فكّر في كتابة رسالة للشيخ، لكنه عدل عن الفكرة لأنه قد لا يكترث له، ولن يقبل بالدخول معه في حوار، لأن رأفت ابن امبارح لا أكثر ولا أقل.
فوجئ رأفت حينما رأى الشيخ علي السمهوني جالساً قرب الجدار، مع الجمع الذي جاء للمشاركة في برنامج ستار أكاديمي. رأفت لم يوجّه له الدعوة لكي يجيء، جاء من تلقاء نفسه كما يبدو (كيف سمح له الإسرائيليون بالدخول؟) الشيخ علي يتفحّص بعينيه علو الجدار الزائد عن الحد ولونه المتجهّم الذي يسدّ النفس، ويقارن بين لونه هذا والألوان الزاهية التي تعلن عنها ملابس النساء اللواتي جئن للمشاركة في سهرة ستار أكاديمي، (أغلب الظن أنهن فلسطينيات) الشيخ علي يشعر بالأسى بسبب حال الأمة التي تمعن في التردّي والانهيار، (حتى الفلسطينيون الذين يشعلون انتفاضة مباركة، تتبرّج نساؤهم على هذا النحو المؤسف) ولم يوقف تيار الخواطر التي تأكل أعصاب الشيخ، سوى انتباهه للجنود الإسرائيليين الذين يحاصرون المكان، وهم يتقدّمون الآن نحو الحشد كأنهم على وشك أن يشرعوا في تفريقه، إلا أنهم توقفوا عند نقطة معينة ولم يقوموا بأي إجراء عنيف. عشرات الكاميرات التي نصبها مراسلو الفضائيات العربية والأجنبية كانت لكل شيء بالمرصاد (ربما كان هذا هو سبب امتناع الجنود عن ممارسة تعسفهم المعهود).
برزت هيلدا خليفة من خلف الكواليس بابتسامتها الرشيقة وخفّة دمها المعتادة، حيّت الجمهور الذي صفق لها بحماسة. قالت: بالفعل، هذا مساء مشهود، إنه مساء جدار أكاديمي. بدت تحت الجدار مثل حمامة تفرّ من صياد. قال الشيخ علي السمهوني بصوت مسموع: اللهم ألهمنا الصبر والقدرة على الاحتمال. قالت هيلدا كلاماً يليق بالمناسبة، أكّدت حبّها لفلسطين ثم أعلنت: سيكون بين طلاب الأكاديمية لهذا المساء، شاب فلسطيني يغني مباشرة أمام الجمهور، صاحت بصوت احتفالي: أقدم لكم الفلسطيني رأفت حسين. دخل رأفت إلى الساحة بهامة مرفوعة، وفي اللحظة التالية شعر بارتباك، خانته قدماه غير مرة وهو يتقدّم فوق الساحة، ولم ترتفع يده إلا بصعوبة لتحية الجمهور الذي استقبله بالتصفيق، تمنى في سره ألا تستمرّ هذه الحالة التي قد تتسبّب في إضعاف السهرة وفي تخريب محتواها المأمول. جلس رأفت في المكان المحدّد له، وراحت هيلدا تقدّم طلاب الأكاديمية بالتتابع: بهاء الكافي من تونس، محمد عطية من مصر، (اسمه قريب من اسم محمد عطا الذي شارك في تدمير البرجين في نيويورك، وقد تستدعيه سلطات الاحتلال للتحقيق) بشار الشطي من الكويت، ومحمد خلاوي من العربية السعودية. الجمهور صفّق للطلاب تصفيقاً متصلاً استمر ثلاث دقائق على وجه التقريب، رأفت ألقى نظرة سريعة على الجمهور: غالبيته العظمى من الصبايا، وثمة شباب وبعض الكهول، قدّر رأفت أن ثمة أولاداً وبنات من أقطار عربية أخرى (كيف سمحت لهم سلطات الاحتلال بالدخول إلى مشارف القدس ومنعتني من الخروج إلى بيروت؟) الشيخ علي السمهوني اقتنع بعد تدقيق غير مستفيض أن ثمة بين الجمهور، مَنْ قدموا من بعض البلدان العربية، وبدا أن مجيئه للمشاركة في هذه السهرة سيكون نافعاً للأمة بإذن الله.
ابتدأت السهرة بأغنية “عربي أنا” غنّاها بشار الشطي وتجاوب معها الجمهور، ثم غنّت بهاء بالاشتراك مع محمد عطية:
يا دبلة الخطوبة عقبى لنا كلنا
ونبني طوبة طوبة في عش حبنا
نتهنى بالخطوبة ونقول من قلبنا
يا دبلة الخطوبة عقبى لنا كلنا
هاجت الساحة وماجت، البنات يتمايلن طرباً على إيقاع موسيقى الأغنية، تندلع في صدورهن رغبات شتى، وتتمنى كل واحدة منهن لو أنها بهاء، والأولاد تفيض نفوسهم بمشاعر جياشة، ولا يجدون وسيلة لتفريغها سوى الرقص ثم الرقص ثم الرقص، والشيخ علي السمهوني مستاء، يشعر أنه تورّط في المجيء إلى السهرة، إذ كيف يقبل بأن يحشر نفسه بين حشد من المراهقين والمراهقات؟ كان بوسعه أن يستمر في مخاطبة الأجيال الصاعدة ومحاولة هدايتها إلى السبيل القويم، عبر شاشة التلفاز ( ثمة إشارات توحي بأن رأفت مسؤول عن مجيئه إلى هذا المكان) ورأفت ينقسم على نفسه فجأة ولا يدري كيف حدث له ذلك؟ فالبراءة التي تطلّ من عيني بهاء ومن وجهها الصبوح، أوقعته وهو يراها أمامه من دون حواجز أو معوّقات، في ذهول لم يجرّبه من قبل، أدرك أنه واقع في حبها لا محالة، وهذا أمر سيوقعه في ورطة مع صديقته سوسن التي تدرس معه في الجامعة، (وقع في حبها منذ عام، وهي تحبه حدّ العبادة، ولم تطمئن نفسها إلا حين اتفقا على الزواج بعد التخرج في الجامعة، أي بعد سنة من الآن) أجال رأفت نظره في جمهور الفتيات لعله يرى سوسن بينهن، فلم يعثر لها على أثر، شعر بالإثم لأنه جاء إلى السهرة ولم يصطحبها معه، كيف حدث ذلك؟ كيف تجاهل فتاته التي يحلم بها في الليل وفي النهار؟ هل كان يزمع على خذلانها من دون أن يدري؟ هل رتّب في لاوعيه مسألة التحوّل عنها إلى الأمّورة بهاء؟ فلم يخبرها بأمر هذه السهرة التي لعب هو الدور الأساس في ترتيبها، وفي التحضير لها، وفي إقامتها قرب جدار الفصل العنصري؟ لتكون مظهراً من مظاهر احتجاج العرب على الجدار، وشكلاً من أشكال تضامنهم مع أخوتهم الفلسطينيين! (رأفت يتذكّر الآن كيف أن المسافة بين بيته والجامعة لا تزيد عن ثلاثة كيلومترات، وكيف أنه مضطر بسبب الجدار إلى قطع مسافة أربعين كيلومتراً للذهاب إلى الجامعة، وأربعين كيلومتراً للعودة منها إلى البيت، ورأفت يراهن على أن شارون معتوه، يبني جداراً، لكي ينهب المزيد من أراضي الفلسطينيين، ولكي يظفر بالخلود مثل القادة الذين بنوا أسواراً عظيمة. ولكن، أي خلود يمكن تحقيقه بجدار طوله، بعد الخصم والتنزيلات التي اقتضتها الظروف، ستمائة كيلومتر لا غير؟ وأين يصنّف شارون نفسه إذا ما قورن بقادة الصين الذين بنوا سوراً طوله سبعة آلاف كيلومتر؟ لذلك، وتحت تأثير هذه الفضيحة المتوقّعة في أروقة التاريخ، نشرت إحدى الصحف العبرية نداء لشارون أرسله أحد السياسيين المتعصّبين، يقترح فيه عليه أن يمدّ الجدار حتى قطاع غزة، ومن ثم يمتدّ به إلى شمال إفريقيا وصولاً إلى ساحل العاج أو جنوب إفريقيا. وثمة نداء لسياسي آخر يقترح فيه على شارون أن يبني الجدار على شكل الأكورديون، بحيث يتربّع فوق كل الأراضي المخصصة للدولة الفلسطينية، وبذلك يجد العالم نفسه أمام عجيبة جديدة تضاف إلى عجائب الدنيا السبع، إذ بدلاً من جدار في دولة، ستقوم دولة في جدار. وحينما يصاب الفلسطينيون بالضجر، يمكنهم العزف على الأكورديون المكرّس لمحاصرتهم، إلى أن تهدأ نفوسهم)
قطعت هيلدا على رأفت تأملاته حينما أعلنت عن استراحة إعلانية.
هذه المرة جاء المعلنون بأنفسهم ومعهم بضائعهم. جاء بائعو النسكافيه والشوكولاتة وعصير الأناناس والبسكويت والعطور ومعجون الأسنان وكريم الشعر ودهون البشرة والحقائب الجلدية والأحذية والفساتين والحفّاظات. سوق تجاري كبير انعقد قرب الجدار، مهرجان من الأنوار المشعّة ومن السلع المتنوّعة المستوردة من عواصم أجنبية مختلفة. اندلعت نداءات الباعة في الفضاء المحدود، أظهر الباعة كرماً بالغاً تقديراً لأخوتهم الفلسطينيين واستيعاباً لظروفهم، خفّضوا أسعار بضائعهم إلى النصف، وأبدوا استعداداً للبيع بالتقسيط المريح. قدّر الفلسطينيون هذه اللفتات الطيبة ولم يثر استغرابهم سوى بائع الحفّاظات، ليس لأنه جاء يبيع الحفاظات في سهرة لا يوجد فيها أطفال رُضَّع، بل لأنه جاء يبيع حفّاظات للكبار. سأله بعض الزبائن تفسيراً لذلك، قال بلسان لا تعوزه الفصاحة: بسبب هذا الوضع، سلامة فهمكم (فعلاً، الرجل محقّ في كلامه، لأنه وضع بيخرّي)
ارتفع صوت هيلدا المصقول من جديد. قدّمت نانسي عجرم في عدد من أغانيها، وصاحبها في الغناء محمد خلاوي وبشار الشطي، ثم ظهر المطرب عصام كاريكا وغنى أغنية: الواد دا أيه؟ شانكوتي! غضب رأفت من هذه الأغنية، اعتقد أن عصام كاريكا يقصد التعريض به، حاول أن يرفع صوته محتجاً، صوته لم يخرج من حلقه، وعجب لذلك أشد العجب. نادى هيلدا لعلها تسمعه، هيلدا لم تسمعه ولم تنتبه إليه. اعتقد أنه يتعرّض لمؤامرة، لأن هيلدا أجلسته أمام الجمهور ولم تعد تكترث له، بل لم تتح له حتى الآن فرصة لكي يغني. ما هذا؟ مؤامرة بالتأكيد، لحرمانه من كسب ودّ الأمّورة بهاء. 
يبدو أن هيلدا حدست بما يفكّر فيه رأفت. اقتربت منه مبتسمة، أنيقة أناقة لا تُضاهى وقالت: رأفت، كيف؟ مبسوط معنا! ما هيك؟ فوجئ رأفت بعجزه عن الكلام. ضغط على شفتيه فلم يخرج صوته إلى حيّز العلن. ابتعدت عنه هيلدا، وجد نفسه ينهض ويلحق بها قائلاً: أنا هنا يا هيلدا، هل جاء دوري في الغناء؟ قالت هيلدا موجّهة كلامها للجمهور دون إبطاء: والآن مع الفلسطيني الرائع رأفت حسين. صفّق الجمهور لرأفت الذي تهيأ للغناء، قال: سأغني لمارسيل خليفة. صفّق الجمهور لدى سماعه اسم مارسيل. غنى بصوت شديد الصفاء:
صامدون هنا صامدون
خلف هذا الجدار اللئيم
ردّد الجمهور الأغنية بصوت جماعي هادر، تحشرج صوت رأفت من جديد ولم يعد قادراً على الاستمرار في الغناء. تدخّل الجمهور في اللحظة المناسبة، أكمل الأغنية، وقف رأفت أمام الجمهور مثل المسطول، ولم يخرجه من أزمته سوى بهاء التي ركضت نحوه وعانقته بعاطفة صادقة وانفعال، (الشيخ علي استغفر الله مرّات عدّة بسبب هذه المعانقة) حذا حذوها محمد خلاوي، محمد عطية، وبشار الشطي. قالت له هيلدا مشجّعة: شكراً لك يا رأفت، ستقوم بمحاولة أخرى في ما بعد، ثم أعلنت عن فرقة راقصة، دخلت الفرقة بأبهة واعتداد. راح الراقصون يخبطون الأرض بأقدامهم وكذلك فعلت الراقصات، تطايرت الفساتين الناعمة الفضفاضة من على أجسادهن، غضّ الشيخ علي بصره. وصلت حمّى الرقص إلى جنود الاحتلال، اقتربوا من الجمهور أكثر مما ينبغي وراحوا يتمايلون طرباً، ولولا خوفهم من رصد الفضائيات لهم لتوغّلوا في الساحة ورقصوا مع الراقصات، لكنهم اكتفوا بهزّ أجسادهم على تخوم الساحة وحسب. غنى طلاب الأكاديمية وغنى معهم الجمهور: زيِّنوا الساحة والساحة لينا. ولم يعد الشيخ علي السمهوني قادراً على الاحتمال، صاح: ملعون هذا الجدار، ملعون أنت يا شارون. ولم يتوان الجمهور عن الرد: ملعون هذا الجدار، ملعون أنت يا شارون. رمى الشيخ علي حجراً نحو الجنود، تبعه كثيرون من الشبان الذين قذفوا الجنود بالحجارة في الحال. 
انتبه جنود الاحتلال إلى أن ثمة أمراً جللاً يحدث أمام أعينهم. الساحة اضطربت والجنود أطلقوا النار في الهواء، ولما ازداد قذف الحجارة نحوهم أطلقوا النار على الناس، جرحوا عشرين شاباً وشابة، ثم قتلوا بهاء، قتلوا النجمة الواعدة. شاهد ملايين المتفرّجين العرب، الجريمة النكراء على شاشات التلفاز. نهض عدد كبير منهم ونزلوا إلى الشوارع، هتفوا بأصوات هائجة مزلزلة، ولم يتوقّفوا عن التظاهر إلا بعد ثلاثة أيام.
سيذهب رأفت بعد هذه السهرة بأسبوع واحد، إلى المشاركة في مظاهرة احتجاج ضدّ الجدار، يقتله الجنود، يصوره مصورو الفضائيات، تظهر صورته وهو مقتول على ملايين الشاشات الصغيرة، لا تخرج مظاهرة واحدة، احتجاجاً على قتله، لأنه ليس الوحيد الذي قُتل من الفلسطينيين. وعلى أية حال، من هو رأفت حسين هذا؟ إنه اسم لا ظلال له. ولأن القتل هنا أصبح مشهداً يومياً، فيبدو أنه لا بد من تنويع ما على المشهد لتخليصه من الرتابة، مثلاً: لو أن سلطات الاحتلال سمحت لرأفت بالسفر إلى بيروت للمشاركة مدّة أربعة أشهر في برنامج ستار أكاديمي، لأصبح نجماً متألقاً على امتداد الوطن العربي، فلا يضيع اسمه بين الأسماء حين يقتله الجنود.
آخ! لو! لو! لو! 
__________
*روائي وقاص فلسطيني
– من مجموعته القصصية ” ابنة خالتي كوندوليزا”.

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *