*تحسين الخطيب
قبل بضعة أيام أعلنت جائزة المان بوكر العالمية للرواية عن قائمتها القصيرة التي تضم ستّ روايات مكتوبة في الأصل بست لغات أجنبية مختلفة: الإيطالية والتركية والصينيّة والألمانيّة والبرتغاليّة والكوريّة.
ويتصدر القائمة التركي أورهان باموق، الحاصل على جائزة نوبل في الأدب للعام 2006، بروايته “غرابة في عقلي”، ترجمة إيكين أوقلاب، والصّيني يان ليانكي بروايته “الكتب الأربعة”، ترجمة كارلوس روجاس، والإيطالية إيلينا فيرانتي بروايتها “حكاية الطفلة الضائعة”، ترجمة آن غولدستين. كما تحضر أسماء ثلاثة روائيين أقل شهرة عالمية من نظرائهم آنفي الذكر، ولكنهم يتمتّعون بقدر كبير من التحقق الأدبي المتميّز في بلدانهم، الأنغولي خوسيه إدواردو أغوالوسا بروايته “نظرية عامّة للنسيان”، ترجمة دانييل هان، والكورية الشمالية هان كانغ بروايتها “النّباتي”، ترجمة ديبورا سميث، والنمساويّ روبرت سيتهالر براويته “حياة كاملة”، ترجمة شارلوت كولنز.
شاهد على الكاتب
صاحبة الحظّ الأوفر للظفر بالجائزة، من وجهة نظري، هي إلينا فيرانتي لأنها، بحسب المخرج والكاتب الأميركي جون ووترز، “أفضل كاتبة غاضبة على الإطلاق”؛ ولأنه من شبه المستحيل، كما تقول صحيفة المانيفستو الإيطاليّة، أن نجد اليوم كتّابا قادرين على استحضار الروائح والنكهات والمشاعر والشغف المتضادّ في صفحات أعمالهم. يبدو أنّ إيلينا فيرانتي هي الوحيدة القادرة على فعل ذلك. فليس ثمّة كاتب مهيّأ أفضل منها لتأليف الرواية الإيطالية الأعظم لجيلها وبلدها وزمانها”.
ولا تعزّز هذه التكهّنات سوى المراجعات النقدية الرصينة التي وصفت الرواية بأنها آية فنيّة تتخطّى الحدود الشكلانيّة والتصنيفات الأنواعيّة (لم يسبق أن نشر مثلها من قبل) تقدم البرهان الساطع على “قدرة الأدب على شفاء أمراضنا الراهنة، شفاء الروح بتحوّله إلى ترياق لمحاولاتنا العصبيّة المتوترة لرؤية أنفسنا منعكسة” في أوطان الزمن الحاضر المليئة بالقبح والبشاعة.
كما يتميز نثر فيرانتي بصوريّته البارعة التي ترسم تحوّلات الحُبّ والحوارات الجوانيّة بلغة دراميّة ضارية ورؤية إنسانويّة حافلة. نثر متّقد قادر على إدهاش القارئ والتحليق به بعيدا في عوالم تدور حول بعضها وتتنافذ في “جيشان النبض ودفق الدم في عروق” أولئك “الذين يرحلون، وأولئك الذين يظلّون”.
وعلى الرغم من أنّ إلينا فيرانتي هو اسم أدبيّ لامرأة إيطالية لا يعرف هويتها الحقيقيّة لغاية الآن سوى ناشر أعمالها، إلا أنّ ذلك لم يقف حائلا دون أن تحقق شهرة عالمية واسعة، وتصبح واحدة من أكثر الأصوات الأدبية حضورا في إيطاليا اليوم منذ روايتها الأولى “حُبّ مكدّر”، الصادرة في العام 1992.
وفي العام 2014، أنكر الروائي دومينيكو ستارنوني الشائعات التي راجت في الأوساط الأدبيّة عن أنه هو صاحب روايات فيرّانتي، وعن هذه المسألة بالذات قالت الروائية الهندية جومبا لاهيري، في حلقة نقاشية عقدت على هامش مهرجان روما الأدبي حول الشخصية الحقيقية لفيرانتي “كم من المدهش أن تكون كاتبا قادرا على التواصل مع العالم عبر كلماتك فحسب، عبر أدبك ليس إلا. ولو تحلّيت بالشجاعة ذاتها، لأحببت متابعة مسيرتي الأدبية بالطريقة نفسها.. شكرا للقناع الذي يجعل المرء محتجبا وقادرا على الكتابة عن أيّ شيء”.
بيد أنّ المسألة لم تقف عند هذا الحدّ. ففي مطلع العام الحالي ينشر الروائي والعالم اللغوي الإيطالي ماركو سانتاغاتا دراسة مبنية على تحليل فيلولوجيّ لأعمالها المنشورة، يستنتج فيها أنّ إلينا فيرانتي هي مارشيلّا مارمو، أستاذة التاريخ المعاصر في جامعة نابولي الثانية. ولكن سرعان ما أنكرت مارمو وناشر أعمال فيرانتي، هذه النتيجة الغريبة.
“إننا لا نعرف من هي”، كتبت الصحايفة الإيطالية فاميليا كريستيانا، “ولكنّ ذلك لا يهمّ. فأعمال فيرانتي مسلاّت ساحرة مكتفية بذاتها لا تسعى إلى الألفة مع قرّائها، بل تطلب منهم الصمت والإعجاب الحماسيّين”. “وبصرف النظر عمّن يقف وراء اسم إيلينا فيرانتي، يكتب موقع “هفنغتن بوست” للإعلام، “إلّا أننا متأكدون من مسألتين اثنتين: إنها امرأة وتعرف كيف تصف نابولي كما لم يسبق لأحد من قبلها قطّ. إنها تفعل ذلك بأسلوب يستدعي شبكة عنكبوتيّة مسحورة بقوّتها التعبيريّة وإبداعها الفاتن الذي تخلق به عالما كاملا”.
“حكاية الطفلة الضائعة” جزء من رباعيّة تعرف “بالروايات النابوليّة”، نسبة إلى مدينة نابولي التي تدور الأحداث فيها “صديقتي البارعة”، و”حكاية اسم جديد” في العام 2013، و”أولئك الذين يرحلون وأولئك الذين يظلّون” في العام 2014. تنتمي الرواية، على صعيدها الأنواعي، إلى ما بات يعرف في النظرية الأدبيّة “برواية التشكُّل”، وهو المصطلح الذي أطلقه الفيلسوف الألماني كارل مرغنتشيرت على ذلك النوع الأدبي الذي يغوص في التحوّلات السيكولوجية التي تطرأ على أبطال العمل الروائي منذ مرحلة الطفولة أو الصبا وحتى بلوغ سن الرشد، واستقراء هذه التحوّلات في ضوء المتغيرّات المجتمعيّة للعوالم التي تدور الأحداث في محيطها.
ترسم فيرانتي في رباعيّتها تحوّلات إلينا غريكو، الفتاة الطيّبة التي تعشق الكتب، وصديقتها الطائشة ليلى، منذ الطفولة وحتى بلوغهما سنّ الرشد، وهما تكافحان بكل قوّة للعيش في أتون الثقافة العنيفة والمحرّمات التي تسود الحيّ الذي تقطنان فيه على أطراف نابولي.
اتركوا بائع البوظة وحيدا
وأمّا رواية أورهان باموق، فهي تستمّد عنوانها من السفر الثالث لقصيدة “استهلال” للشاعر الإنكليزي وليام ووردزوورث “غرابة في عقلي،/ شعور بأنني لم أكُن نفسي في تلك الساعة،/ ولا في ذلك المكان”. وانطلاقا من هذه الغربة الزمانية والمكانية، يصوّر باموق مغامرات بائع البوظة “مولود قرطاش” والمرأة التي كتب إليها رسائل حبّ طيلة ثلاث سنين، وحياتهما في مدينة إسطنبول بين 1969 و2012 من زوايا مختلفة.
يفتتح باموق الرواية بالمقطع التالي “هذه حكاية حياة مولود قرطاش، بائع اللبن والبوظة، وأحلام يقظته. ولد سنة 1957 في الطرف الغربيّ من آسيا، في قرية فقيرة تطلّ على بحيرة ضبابيّة في وسط الأناضول، يصل إلى إسطنبول وهو في سن الثانية عشرة، ثم يعيش هناك في عاصمة العالم لبقيّة حياته. وحين يبلغ الخامسة والعشرين يعود إلى مسقط رأسه، حيث يهرب مع فتاة قرويّة ويقيم معها علاقة غريبة سوف تحدد مصير ما تبقى من أيّامه. يرجع معها إلى إسطنبول، يتزوّجان وينجبان بنتين، يشتغل في أعمال مختلفة بلا انقطاع بائعا للّبن والبوظة والأرز في الشوارع وعلى طاولات المطاعم. ولكنه، في كل مساء، وبلا كلل أو ملل، يجوب شوارع إسطنبول، يبيع شراب البوظة ويحلم بأحلام غريبة”.
وخلال تجواله يصادف مولود شتى ضروب الناس في الشوارع ويكون شاهدا على المدينة نفسها بكل تحوّلاتها، من هدم لمعظم أجزاء المدينة وإعادة تشييدها من جديد، هجرة القادمين من الأناضول، والصراعات السياسية والانقلابات العسكرية. وبالرغم من الشعور الغريب الذي يستحوذ عليه بشأن ما يفصله عن الآخرين، إلا أنه لا يكفّ عن بيع البوظة خلال مساءات الشتاء، متسائلا عن ماهيّة الحبّ والآمال والسعادة الأرضية وعمّا يخفيه القدر.
وصف آدم كيرش الرواية، في صحيفة واشنطن بوست، بأنها “أكثر روايات باموق تشويقا ومطرحا مثاليا ينطلق منه القرّاء الراغبين في معرفته أكثر.. فهو يجترح إسطنبول على الشاكلة التي اجترح فيها جيمس جويس دبلن.. ليس القبض على سيماء المدينة وحسّها فحسب، وإنّما أيضا على ثقافتها ومعتقداتها وتقاليدها وناسها وقيمها. إنها رسالة حُبّ إلى تركيا المعاصرة”.
ممنوع في وطنه
يتحدث مترجم “الكتب الأربعة” في تقديمه للرواية عن أنّ ليانكي “أكثر كتّاب الصين إثارة للجدل وأكثرهم خضوعا للرقابة الفكرية”. وعلى الرغم من أنّه يعيش في بكين، إلا أن معظم أعماله ممنوعة من النشر، لسخريتها العالية من الشعارات السياسية ولمشاهدها الجنسيّة الفاضحة. وقد قورنت روايته “اخدم الشعب” برواية دي.إتش.لورنس “عشيق الليدي تشاترلي”، كما وصفت روايته “حلم قرية دينغ” بأنها تشبه “طاعون” ألبير كامو.
تتمحور رواية ليانكي حول “القفزة العظمى إلى الأمام”، الحملة الاقتصادية والاجتماعية التي قادها الحزب الشيوعي الصيني بين 1958 و1961، والتي نهضت في أعقاب “حملة المئة زهرة” التي شجّع فيها الحزب على تعدد الرؤى من أجل الارتقاء بالفنّ والأدب والثقافة الاشتراكية.
تنقسم الرواية، على شاكلة كل من النصوص الكنفوشيّة التي تعرف باسم “الكتب الأربعة” والأناجيل الأربعة التي تكوّن العهد الجديد في التقليد المسيحيّ، إلى أربع سرديّات: ابن السماء، ومقاطعة إعادة التثقيف، وفورة البراعم، والضوء والظلال.
تدور أحدث الرواية في معسكر لإعادة التأهيل والتثقيف يعرف باسم المقاطعة 99، حيث يخضع المؤلف برفقة موسيقي وعالم ولاهوتي وخبير تقنيّ إلى إعادة تثقيف من أجل استعادة حماسهم الثوريّ. يعرف المسؤول عن هذا المعسكر باسم “الابن”، وهو مسؤول صارم لا يعرف الرحمة، يراقب أفعالهم عن كثب ويصادر أيّ كتب قيّمة لديهم. بيد أنّ الأحوال تتبدل كليّة في المعسكر، بعد أن يسوء الطقس، وتهجم المجاعة الكبيرة لثلاث سنين عجاف، فيتخلّى النظام عن المعسكر ويترك المثقفين في صراع البقاء وحيدين.
ومن بين الأسماء الروائيّة التي باتت تحظى موهبتها الأدبيّة بمصداقية كبيرة في العالم الناطق بالبرتغاليّة، يحضر بقوّة اسم الأنغولي خوسيه إدواردو أغوالوسا، حيث حققت روايته “هجين” مبيعات كبيرة، وفاز بالجائزة الأدبية الكبرى التي تمنحها هيئة الإذاعة والتلفزة البرتغالية. كما فاز بجائزة الإندبندنت للرواية الأجنبية في العام 2007، عن روايته “كتاب الحرابيّ”.
يتناول أغوالوسا في “نظرية عامة للنسيان” حكاية لودوفيكا فيرنانديز ماناو التي ماتت في العام 2010 عن 85 عاما، ومن واقع اليوميات والقصائد والتأملات التي كانت تكتبها، بعد أن حبست نفسها في منزلها ولم تغادره البتّة طيلة 28 عاما. بيد أنّ أغوالوسا لا يخلق من تلك اليوميات العشر رواية تاريخيّة، بالمعنى العميق لهذا النوع الأدبي، بل يجعلها منطلقا لاجتراح عملي تخيليّ بحت.
تحبس لودو نفسها في شقّتها، ولا تقتات إلّا على الخضروات والحمام، حارقة أثاث الشقة طلبا للدفء. بيد أن العالم الخارجي الذي هربت منه، يتسلل إليها عبر المذياع، وعبر أصوات الجيران القادمة إليها من الحيطان المجاورة وصور الذين تلمحهم لمحا. ولكنّ حياة لودو تنقلب رأسا على عقب حين يتسلق شاب يدعى سابالو إلى شرفة بيتها.
يقارن النقاد خوسيه أغوالوسا بفيرناندو بيسوا وخورخي لويس بورخيس من حيث أنه صانع ماهر يعرف كيف يفتن القارئ بشخوص رواياته المتخيّلة عبر بنى سرديّة أنواعية مختلفة تتراوح بين أدب الجاسوسيّة والسرد الرعويّ والتأملات الجوانيّة، بحيث تصبح كل حكاية فردية هي حكاية قائمة بعين ذاتها.
_______
*العرب