جرائم تلفزيونية



*بسمة النسور


صنّفه بعضهم واحداً من أسوأ برامج المسابقات في تاريخ الإنتاج التلفزيوني الأميركي، فيما اعتقد كثيرون أنه برنامج طريف ومختلف ومتفرّد. والمعروف أن برنامج “لحظة الحقيقة” حقّق أعلى نسبٍ مشاهدة، فيما يعود مهتمون إلى متابعة فقراته الأكثر إثارة المبثوثة على موقع (يوتيوب)، ولا سيما الحلقة الشهيرة لمتسابقةٍ أميركية بلغت مرحلةً لم يبلغها أحد من قبل، فأجابت بصدق على 21 سؤالاً متعلقاً بحياتها الشخصية، وصفتها المتسابقة المغامرة نفسها بأنها أسئلة وحشية، لم تبق على شيء، وفازت، إثر ذلك، بمبلغ 500 ألف دولار، في مقابل أن تقول الحقيقة، ولا شيء سواها. 
من الصعب، بطبيعة الحال، إنكار براعة مبتكري فكرة البرنامج الخطيرة جداً على الصعيد الاجتماعي، حتى في المجتمعات الغربية التي يقوم خطابها على تقديس حرية الفرد، وهي فكرة شديدةُ التشويق، من ناحية التصاعد الدرامي للاعترافات، كما أنها تلبي غريزة حب الفضول وشهوة كشف المخبوء عند معظم الناس، وهي ماكرة جداً ومضلّلة إلى حد كبير، من حيث اشتغالها على أصول علم النفس، بالإضافه إلى اللعب الذكي والمدروس على نقاط ضعف البشر، حينما يخوضون صراعاً شاقاً مع نزعة الجشع إلى تحقيق كسب مادي سريع ليس سهلاً، من خلال الخوض بإسهابٍ في الخصوصيات ونشر الغسيل المتسخ في معزلٍ عن أي اعتباراتٍ أو ضوابط أخلاقية وإنسانية، تحكم الأداء الاجتماعي في العادة. 
كانت النسخة العربية من البرنامج الذي قدمه آنذاك الفنان السوري، عباس النوري، كارثة تلفزيونية، لم تدم طويلاً، سجلّت فشلاً ذريعاً، وقد تم استنساخه كالعادة عربياً، وجرى تكراره مثل سائر البرامج الأميركية، بالحرف والنقطة والفاصلة، غير أنه قوبل بالرفض والاستهجان من الجمهور العربي، لعدة اعتبارات أخلاقية واجتماعية ودينية، لا يمكن تجاوزها. ويبقى هذا البرنامج الغريب، القائم على الفرجة المجانية الدامية، غير البريء في كل الأحوال، دليلاً دامغاً على أن فكرة الحرية ليست مطلقة في نهاية الأمر، ولا بد من توفر ضوابط، من شأنها لجم قدرة الإنسان على ارتكاب القبح، وهو المؤهل لذلك في أحيان كثيرة. 
أما تحفة العصر والزمان، الخبطة الإعلامية العبقرية، فكانت برنامج الملكة المخلوعة أحلام، والذي تجاوز، في انحطاطه وتردي مستواه فنياً وأخلاقياً وجمالياً، كل ما ورد في تاريخ التلفزيون من فظائع، تشكل وصمة عار على جبين كل من شارك فيها. وقد شاهدنا، أخيراً، ردة فعل الجمهور العربي، حيث عمّت موجة سخط واستنكار غاضبة رافضة للبرنامج سيئ الذكر، حيث أطيح بها من دون هوادة، بعد بث الحلقة الأولى، لما تضمنه البرنامج المؤسف من امتهان للبشر واحتقار للإنسانية، حيث عبّر أكثر من متسابق لا يخلو من بلاهة عن استعداده لارتكاب فعل الخيانة، والتخلي عن المبادئ والأخلاق والأهل والخلان، كرمى لعيون الملكة السادية، المضطربة نفسياً، المفتونة بمقتنياتها من مجوهراتٍ وسيارات، غير العابئة بهدر كرامات الناس، والتنكيل بهم في استغلالٍ مقزّز لحاجاتهم للشهرة والمال.
لا أظن أن هناك اختلافاً كبيراً في الجوهر بين برنامج “لحظة الحقيقة” وهذا القبح المقترح بشكل مبتذل وسافر وخادش للذائقة الجمالية، حيث تعمل مثل هذه البرامج المشينة على تجريد الإنسان المعاصر من إنسانيته، وتحويله إلى مجرد مسخ راقص أمام الكاميرات الدائرة، متعطشٍ لكسب مزيدٍ من المال المغمّس بالذل وقلّة الهيبة. ولحسن الطالع، ستبقى هذه المحاولات البائسة نماذج مرفوضة في مجتمعاتنا المنكوبة على غير صعيد. 
________
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *