جازدانوف‮.. ‬ وعودة الأدب الروسي المهاجر



د. مكارم الغمري




‮ ‬في أعقاب ثورة أكتوبر الاشتراكية‮ (‬1917) ‬دب الشقاق في أوساط المثقفين الروس، ‮ ‬انضم البعض إلى جبهة المعارضين للثورة الذين أطلق عليهم‮ »‬البيض‮« ‬والذين هبوا للدفاع عن النظام القيصري، ‮ ‬بينما انضم البعض الآخر إلى‮ “‬لحمر‮” ‬من المدافعين عن الثورة البلشفية
‮ ‬والنظام الجديد واندلعت حرب أهلية دموية التهمت نيرانها الملايين من الطرفين‮.‬
‮ ‬وفي‮ ‬غضون ذلك بات واضحا للمثقفين من‮ “‬البيض‮” ‬أن واقعاً جديداً ‬يفرض نفسه بعد ثورة أكتوبر، ‮ ‬وجد فيه هؤلاء المثقفون أنفسهم في‮ ‬وضع صعب‮: ‬الرقابة السياسية والأدبية، ‮ ‬إغلاق الصحف المعارضة والتي لا تنتمي إلى البلاشفة، ‮ ‬تأميم دور النشر الخاصة، ‮ ‬والحصار على الكلمة الأدبية، ‮ ‬والفن بشكل عام، ‮ ‬نيران الحرب الأهلية، ‮ ‬فضلاً عن حملات الاعتقالات والتنكيل التي طالت العديد من الأدباء والمثقفين‮.‬

‮ ‬وإزاء هذه الظروف اضطر العديد من المثقفين الروس، ‮ ‬العلماء، ‮ ‬والأدباء، ‮ ‬والنبلاء، ‮ ‬وكبار‮ ‬الضباط إلى الهجرة بالملايين من روسيا‮.‬

‮ ‬وظاهرة الهجرة، ‮ ‬قديمة عرفتها مجتمعات عدة، ‮ ‬ولم تكن الأولى بالنسبة لروسيا، ‮ ‬لكن موجات الهجرة التي حدثت في‮ ‬روسيا بعد ثورة أكتوبر‮ – ‬وكما‮ ‬يشير المؤرخ بطرس كوفاليوفسكي‮ – ‬لا‮ ‬يوجد في التاريخ العالمي ظاهرة مشابهة لها في حجمها، ‮ ‬وعددها وأهميتها التاريخية، ‮ ‬والثقافية‮.‬
‮ ‬ومن المعروف أن هناك ثلاث موجات هجرة كبرى في‮ ‬الفترة السوفيتية‮: ‬ال أولى في‮ ‬الفترة‮ ‬1917‮ – ‬:1940، ‮ ‬وتشير بعض الإحصاءات إلى أن الموجة الأولى هاجر فيها مليونان من المهاجرين، ‮ ‬كان بينهم عدد كبير من المثقفين، ‮ ‬البعض منهم رحل‮ ‬منفيا علي‮ ‬متن السفينة الفلسفية التي سافر‮ ‬عليها مئات الادباء، ‮ ‬الفنانين، ‮ ‬العلماء‮ ‬، ‮ ‬أما الموجة الثانية فقد حدثت في‮ ‬الفترة‮ (‬1940‮ ‬1960‮:‬)، ‮ ‬والموجة الثالثة‮ (‬1960‮  ‬1980‮: ‬)، وقد تختلف هذه‮ ‬التواريخ بعض الشيء من مرجع لآخر‮.‬

‮ ‬انطلقت موجات المهاجرين الروس إلي‮ ‬أوربا عبر‮ ‬أوديسا، ‮ ‬ووارسو، ‮ ‬البلطيق، ‮ ‬القسطنطينية
‮ ‬عاش الأدب والفن الروسي المهاجر في‮ ‬سياق ثقافي مغاير للسياق القومي‮ ‬الثقافي، ‮ ‬ولم‮ ‬يحل ذلك دون استمرارهم في‮ ‬الإبداع، ‮ ‬فقد أقام المهاجرون الروس في‮ ‬المهجر دورا للنشر في‮ ‬تركيا، ‮ ‬ألمانيا، ‮ ‬براغ، ‮ ‬باريس، ‮ ‬صوفيا وغيرها من مراكز الهجرة الروسية، ‮ ‬كما أقاموا الصالونات والجمعيات الأدبية، ‮ ‬واتحادات للكتاب، ‮ ‬وكانت القسطنطينية هي أولى هذه المراكز حيث كون المهاجرون‮ ‬الروس اتحادا للكتاب، ‮ ‬ونظموا أمسيات ثقافية وأدبية، ‬ثم أصبحت برلين في‮ ‬العشرينيات مركزا كبيرا للإصدارات الأدبية الروسية وفي‮ ‬منتصف العشرينيات انتقل ثقل الحياة الأدبية للمهاجرين إلي‮ ‬باريس التي صارت مركزا للهجرة الروسية ومستقرا للعديد‮ ‬من أدباء الموجة الأولي، ‮ ‬ومنهم الشاعر والاديب ايڤان بوتين، ‮ ‬والشاعرة مارينا تسفيتايفا، ‮ ‬والاديب كوبرين وغيرهم، ‮ ‬فضلا عن عدد كبير من الفنانين التشكيليين والموسيقيين، ‮ ‬والفلاسفة والعلماء ومنهم أسماء معروفة مثل‮ ‬دخمائينوف، ‮ ‬بروكوفيف، ‮ ‬سترافينسكي، ‮ ‬جلا زنوف، ‮ ‬بيرديايف، ‮ ‬ساروكين‮.‬

‮ ‬عانى الأدباء الروس في‮ ‬ظروف المهجر من العوز المادي، ‮ ‬والإحساس بعدم الاستقرار، ‮ ‬ومن الخطر علي‮ ‬إنتاجهم في‮ ‬وطنهم، ‮ ‬ووجود دائرة ضيقة من القراء في‮ ‬المهجر ومع ذلك حرص الأدباء الروس في‮ ‬المهجر علي‮ ‬الكتابة باللغة الروسية الأم، ‮ ‬فيما عد بعض الاستثناءات، ‮ ‬فمثلا الكاتب الروسي نابوكوڤ اتخذ اللغة الانجليزية لغة للإبداع إلي‮ ‬جانب‮ ‬الروسية، ‮ ‬وكان الحفاظ على الكتابة باللغة الروسية بالنسبة لأدباء المهجر‮ ‬يمثل شكلا من أشكال الحفاظ علي‮ ‬الهوية القومية، ‮ ‬رغم أن الكتابة باللغة الروسية قلصت دائرة القراءة وجعلتها قاصرة علي‮ ‬المهاجرين‮ – ‬من‮ ‬جهة أخرى ففي‮ ‬الوقت الذي كان‮ ‬يعاني فيه أقرانهم في‮ ‬الوطن من ظروف الحظر والرقابة على الكلمة الأدبية، ‮ ‬والمنهج الأدبي‮ ‬المفروض علي‮ ‬الأدباء داخل الاتحاد السوفييتي السابق، ‮ ‬تطور الأدب الروسي‮ ‬في‮ ‬المهجر في ظروف حرية الإبداع، ‮ ‬والتعددية الثقافية، ‮ ‬ورغم أن الأدب الروسي المهاجر كان مجهولا في‮ ‬وطنه نال بعص‮ ‬أدباء المهجر تقديرا كبيرا‮ ‬من خلال جوائز أدبية متعددة، ‮ ‬لعل أهمها حصول ثلاثة أدباء مهاجرين علي‮ ‬جائزة نوبل‮: ‬أولهم الشاعر والأديب إيڤان نوبين، ‮ ‬ويعتبر أول أديب روسي على الإطلاق‮ ‬يحصل على جائزة‮ ‬نوبل‮ (‬في عام‮ ‬1933‮ ‬ وقد أنقذته القيمة ‮ ‬المادية للجائزة هو وزوجته من الفقر وأعطته فرصة مساعدة الآخرين من أدباء المهجر في‮ ‬باريس، ‮ ‬حيث تبرع بجزء من قيمة الجائزة لمساعدة المحتاجين من الأدباء وفي‮ ‬هذا السياق‮ ‬يعد إيڤان بوتين واحداً من الأدباء‮ ‬الروس الذين اهتموا، ‮ ‬وتأثروا بالثقافة العربية الإسلامية والحضارة المصرية القديمة وقد سبق لي تناول هذا الموضوع في دراسات سابقة كذلك حصل على‮ ‬جائزة نوبل الشاعر المهاجر برودسكي، ‮ ‬والأديب سولچينتسين‮.‬

‮ اتسمت أعمال الأدباء الروس في‮ ‬المهجر بالسعي إلى‮ ‬فهم ديناميات التطور‮ ‬التاريخي والثقافي لروسيا، ‮ ‬ومحاولة الحفاظ علي‮ ‬تقاليد الأدب الروسي‮ ‬الكلاسيكي‮. ‬والسبعي‮ ‬إلي‮ ‬فهم الملامح المميزة للطابع القومي الروسي، ‮ ‬والاهتمام بالمنابع الفلكلورية، ‮ ‬ومحاولة استرجاع الفضاء الروسي القومي عبر الذاكرة، ‮ ‬ولذا نجد انتشارا لكتابات السيرة الذاتية، ‮ ‬وأدب المذكرات‮.‬

‮ ‬اهتم أدباء المهجر بتجسيد معاناة الغربة، ‮ ‬ومشاعر الحنين للوطن، ‮ ‬والأهل‮ ‬وعبروا عن القضايا الانسانية العامة، ‮ ‬ومشاكل الوجود، ‮ ‬الحياة، ‮ ‬الموت، ‮ ‬الحب وغيرها
‮ ‬كان الأدب الروسي في المهجر هو الغذاء الروحي الذي ألف بين المهاجرين الروس على‮ اختلاف توجهاتهم ومشاربهم، ‮ ‬وتحولت مناسباته إلي‮ ‬أعياد قومية في‮ ‬المهجر، ‮ ‬فعيد الثقافة الروسية، ‮ ‬كان‮ ‬يحتفل به في‮ ‬السادس من‮ ‬يونيو، ‮ ‬وهو نفسه‮ ‬يوم ميلاد شاعر روسيا الاكبر‮ ‬بوشكين، ‮ ‬وأقيمت في‮ ‬بعض مراكز الهجرة‮ – ‬وخاصة باريس‮ – ‬حيث كان‮ ‬يوجد أكبر تجمع للمثقفين الروس دورا للنشر، ‮ ‬كانت تعمل علي‮ ‬إعادة نشر مؤلفات الادب الروسي الكلاسيكي
‮ ‬وفي باريس الروسية‮ – ‬كما كان‮ ‬يطلق عليها مجازا‮ ‬نشأت المدارس والمؤسسات العلمية لأبناء الجالية الروسية المهاجرة، ‮ ‬وكانت لغة الدراسة هي‮ ‬اللغة الروسية، ‮ ‬كذلك تكونت مقاه ومحال صارت مركزا لتجمعات الروس، ‮ ‬وللقاءات السياسية، ‮ ‬والاجتماعية والأدبية الخاصة بهم‮.‬
‮ ‬وفي‮ ‬باريس الروسية أيضاً تشكلت جماعات أدبية روسية جديدة منها جماعة‮ «‬نوتة باريس‮» ‬والتي تشكلت في‮ ‬الأساس من مجموعة من شباب الشعراء الروس في باريس ثم انضم إليها بعد ذلك شعراء شباب من عواصم متفرقة في‮ ‬أنحاء العالم جمعت هذه الجماعة الأدبية شعراء‮ ‬ينتمون إلى‮ ‬جيل الشباب الذي ولد في‮ ‬بداية القرن العشرين، ‮ ‬وبدأ نشاطه الأدبي في‮ ‬المهجر وقد خرج هؤلاء الشعراء من عباءة شعراء الحركة‮ «‬القمية‮» (‬الاكميزم‮) ‬وهي‮ إحدى حركات الحداثة في‮ ‬الشعر الروسي في مطلع القرن الماضي وقد تميز إنتاج هؤلاء الأدباء الشعراء بلهجة الهجاء، ‮ ‬والمجازية، ‮ ‬وجسدت أشعارهم الحزن علي‮ ‬فراق الوطن، ‮ ‬والحنين إليه‮.‬

‮ ‬تباينت مواقف أدباء المهجر تجاه وطنهم‮ ‬، ‮ ‬فمنهم من تمسك بالبقاء في‮ ‬المهجر رافضا العودة الي‮ ‬الوطن، ‮ ‬ومنهم الاديب الروسي إيڤان بونين الذي توفي في باريس ودفن بها‮ – ‬ومنهم من لم‮ ‬يستطع الاستمرار في المنفي الاختياري وعاد إلى الوطن، ‮ ‬مثل الشاعرة مارينا تسفيتايفا، ‮ ‬والاديب الكسندر كوبرين الذي كان‮ ‬يري في‮ ‬الفرنسيين‮ « ‬شعبا رائعا‮» ‬لكنهم لا‮ ‬يتحدثون الروسية‮.‬

ساد شعور بالعداء المتبادل‮ ‬بين أدباء المهجر والنظام السوفيتي السابق‮ ‬، ‮ ‬فمن جهة كان من وجهة نظر الكثيرين في‮ ‬المهجر أن الاتحاد السوفيتي ليس بروسيا، ‮ ‬وأن روسيا تم‮ ‬غزوها واحتلالها من قبل فكر أجنبي‮ ‬دخيل‮: ‬الفكر الماركسي‮ ‬ومن جهة أخرى كانت هناك نظرة عدائية داخل الاتحاد السوفيتي السابق تجاه المثقفين المهاجرين الذين اعتبروا منشقين عن النظام، ‮ ‬أما أدب المهجر فقد كان‮ ‬ينظر إليه على‮ ‬أنه أدب معاد إيديولوچيا، ‮ ‬ولا‮ ‬يتفق جماليا مع أدب الواقعية الاشتراكية ولذا فقد تم حظر نشر أعمال أدباء المهجر في‮ ‬الاتحاد السوفييتي السابق، ‮ ‬وتم تجاهل إنتاجهم من وقبل النقد، ‮ ‬وفي‮ ‬التواريخ الأدبية، ‮ ‬وخاصة في‮ ‬فترة القبضة الحديدية الستالينية ولسنوات طويلة‮ ‬غاب أدباء المهجر الروس عن المشهد الثقافي في‮ ‬روسيا السوفيتية، ‮ ‬إلي أن هبت رياح التغيير في‮ ‬روسيا مابعد الاتحاد السوفييتي حيث عاد أدباء المهجر الروس إلى‮ ‬وطنهم، ‮ ‬وسمح بنشر أعمالهم المحظورة من قبل، ‮ ‬واتجه الباحثون والدارسون إلي‮ ‬إنتاجهم، ‮ ‬وفي‮ ‬اطار إعادهم كتابة التاريخ الأدبي‮ ‬تم إدراج أدباء المهجو المستبعدين من قبل من التواريخ الأدبية لقد بات واضحا أن دراسة الادب الروسي في‮ ‬القرن العشرين بمعزل عن الادب الروسي في‮ ‬المهجر لاتعطي صورة حقيقية للتنوع الذي ميز طريق تطور الادب الروسي داخل وطنه وخارجه، ‮ ‬ولا‮ ‬يسمح بتصور حركة الادب الروسي بوصفه عملية إبداعية واحدة وهكذا تم السماح بنشرأعمال أدباء المهجر، ‮ ‬وأعيد الاعتبار إلي‮ ‬أسمائهم، ‮ ‬واتجه الباحثون الي‮ ‬إنتاجهم في‮ ‬هذا الاطار عاد الي‮ ‬روسيا أديب المهجر جايتو جازدانوف‮ (‬1903‮ – ‬1971‮) ‬بعد قرابةعقدين من وفاته في‮ ‬المهجر فقد بدأ الاهتمام بنشر أعماله والكتابة عنه في‮ ‬التسعينيات من القرن الماضي‮ – ‬وحتي ذلك الوقت كان اسم جازدانوف معروفا على نحو ضيق في‮ ‬دوائر المتخصصين، ‮ ‬ويكاد‮ ‬يكون مجهولا بالنسبة للقراء في‮ ‬وطنه‮.‬

وتعكس سيرة جازدانوف ملامح نمطية لأديب المهجر‮: ‬المشاركة في‮ ‬الحرب الاهلية، ‮ ‬الهجرة الي‮ ‬الخارج، ‮ ‬افتقاد الوطن والاهل، ‮ ‬المعاناة من شظف الحياة في‮ ‬المهجر، ‮ ‬وعدم الاستقرار، ‮ ‬والافتقاد‮ ‬إلي‮ ‬الأمان، ‮ ‬وتجاهل إنتاجه في‮ ‬وطنه‮.‬

ولد جازدانوف في‮ ‬بطرسبرج في‮ ‬أسرة ميسورة الحال، ‮ ‬وكان والده متخصصا في‮ ‬علوم الصحراء، ‮ ‬ويعمل في‮ ‬مؤسسة عسكرية مختصة بالصحاري، ‮ ‬وعنه تعلم حب الطبيعة، ‮ ‬ومحاولة الاقتراب من أسرارها وعناصرها‮ ‬أما والدته التي كانت تجيد عدة لغات اجنبية فقد كان لها الفضل في‮ ‬تعرفه علي‮ ‬الادب الفرنسي في‮ ‬سن مبكرة‮. ‬في‮ ‬اطار عمل الوالد تنقلت الاسرة بين ربوع سيبريا، ‮ ‬ثم إلي‮ ‬مدينة خاركوف التي كانت مركزا ثقافيا ومسرحيا في‮ ‬ذلك الوقت
‮ ‬وقد تركت فترة الاقامة في‮ ‬خاركوف أثرا كبيرا في‮ ‬حياة جازدانوف وتركت طبيعتها الخلابة بصمة في‮ ‬ذاكرته، ‮ ‬وفي‮ ‬إبداعه فيما بعد‮.‬

درس‮ ‬جازدانوف في‮ ‬المدرسة العسكرية، ‮ ‬ثم انضم إلى صفوف المتطوعين في‮ ‬الحرب وهو في‮ ‬عمر السادسة عشرة ذهب إلي‮ ‬القتال وذلك رغبة منه أن‮ ‬يفهم في‮ ‬الحرب اشياء‮ «‬قد تعيد ميلاده‮» ‬علي‮ ‬حد وصفه، ‮ ‬بعد أن ترك المدرسة انضم الي‮ ‬صفوف‮ « ‬البيض‮» ‬في‮ ‬الحرب الاهلية، ‮ ‬ثم فر إلي‮ ‬تركيا وهناك التحق بالمدرسة الثانوية لاستكمال الدراسة، ‮ ‬ثم تمكن من الحصول علي‮ ‬تأشيرة الي‮ ‬بلغاريا عام‮ ‬1921، ‮ ‬والتحق بالمدرسة مرة للانتهاء من المدرسة الثانوية وفي‮ ‬عام‮ ‬1923‮ ‬سافر جازدانوف إلي‮ ‬باريس‮.‬


‮ ‬اضطر جازدانوف‮ ‬لامتهان العديد من المهن الشاقة في‮ ‬باريس من أجل كسب قوته وتدبير مصروفات الدراسة في‮ ‬جامعة السوربون، ‮ ‬فعمل حمالا، ‮ ‬وسائقا للتاكسي ليلا، ‮ ‬وفي‮ ‬مصنع سيارات‮ «‬رينو‮» ‬ومترجما، وبالتدريس للغات، ‮ ‬وكتابة التحقيقات الصحفية، ‮ ‬وفي اذاعة‮ ‬
‮» ‬الحرية‮« ‬وغيرها من الأعمال، ‮ ‬وكان‮ ‬يعيش في‮ ‬بنايات متواضعة‮.‬

‮ ‬وبفضل عمله في‮ ‬مصنع‮ «‬رينو‮» ‬تمكن من الحصول على الاقامة الشرعية في‮ ‬فرنسا، ‮ ‬والحصول علي‮ ‬جواز سفر فرنسي‮.‬

‮ ‬انخرط جازدانوف في الحياة الثقافية والادبية‮ «‬لباريس الروسية‮» ‬فكان‮ ‬يواظب علي‮ ‬حضور اللقاءات الثقافية والتجمعات الادبية التي كان‮ ‬يعقد بعضها في‮ ‬مقاهي الحي‮ ‬اللاتيني بباريس‮.‬
‮ ‬لم تكن بداية جازدانوف في‮ ‬عالم الادب بالسهلة، ‮ ‬فأمثاله من الادباء المبتدئين كانوا‮ ‬يجدون صعوبة في‮ ‬نشر أعمالهم وقد كتب جازدانوف بثماني روايات، ‮ ‬بالاضافة الي‮ ‬العديد من القصص والاستطلاعات الأدبية‮.‬

‮ ‬وقد ظهرت باكورة قصصه في‮ ‬عام‮ ‬1926‮ (‬فندق المستقبل‮) ‬أما أول رواية له فقد ظهرت في‮ ‬عام‮ ‬1929‮ (‬أمسية عند كلير‮) ‬ويتميز إبداع جازدانوف بشكل عام بالعمق النفسي، ‮ ‬والاهتمام بالمنظر الطبيعي، ‮ ‬والكتابة النثرية ذات الايقاع الشعري، ‮ ‬والايجاز في‮ ‬التعبير، ‮ ‬والانصراف عن الشكل الروائي التقليدي، ‮ ‬والاقتراب من المشاكل الحياتية والاجتماعية والنفسية، ‮ ‬والوجودية‮.‬

‮ ‬وتقدم شخصية جازدانوف نموذجا لحوار الثقافات، ‮ ‬فهو الي‮ ‬جانب جذوره القوقازية الاستونية، ‮ ‬جمع بين‮ ‬الثقافتين الروسية الكلاسيكية، والاوربية الغربية، ‮ ‬وهو رغم أنه‮ ‬ينتمي‮ ‬الي‮ ‬عائلة استونية قوقازية، ‮ ‬فهو روسي‮ ‬المولد، ‮ ‬والثقافة واللغة، ‮ ‬كذلك مكنته دراسته في‮ ‬جامعة السوربون من الاقتراب من الثقافة الفرنسية والاوربية، ‮ ‬فضلا عن تعرفه في‮ ‬الطفولة علي‮ ‬الادب الفرنسي والفلسفة الاوربية‮.‬

‮ ‬ربطت بعض الدراسات بين اسم جازدانوف والتقليد الأدبي للادباء الروس‮: ‬تولستوي، ‮ ‬دستويفسكي، ‮ ‬جوجول، ‮ ‬تشيخوف، ‮ ‬بونين، ‮ ‬وأيضا بالتقليد الأوربي وخاصة كتابات كاميو، ‮ ‬موباسان، ‮ ‬بروست‮.‬

‮ ‬حافظ جازدانوف علي‮ ‬الكتابة باللغة الروسية في المهجر، ‮ ‬ويخص لغته الروسية اقتباس بعض الكلمات الاوربية‮.‬

وقد عبر‮ ‬جازدانوف في خطاب أرسله إلى الأديب الكبير مكسيم جوركي عن حرصه علي‮ ‬الكتابة بلغته الأم‮: «‬أنا لا أنتمي إلى كتاب المهجر، ‮ ‬معرفتي بروسيا قليلة وسيئة، ‮ ‬فقد‮ ‬غادرتها حين كنت في السادسة عشرة من العمر، ‮ ‬أو أكثر بقليل، ‮ ‬لكن روسيا هي وطني، ‮ ‬ولا أستطيع، ‮ ‬ولن أكتب بلغة أخري‮ ‬غير اللغة الروسية‮.
 ‬
‮ ‬لم‮ ‬يتمكن جازدانوف من العودة إلى وطنه في حياته، ‮ ‬فقد توفي في المهجر، ‮ ‬ودفن في‮ ‬باريس في‮ ‬عام‮ ‬1971، ‮ ‬ولم‮ ‬يشهد عودة أعماله الي‮ ‬وطنه في تسعينيات القرن الماضي وقد تأسست في‮ ‬روسيا جمعية أصدقاء جازدانوف، ‮ ‬وصدرت الأعمال الكاملة له في خمسة أجزاء، ‮ ‬وتوالت الدراسات التي تبحث في‮ ‬إنتاجه‮ ‬، ‮ ‬ولعل من أهمها كتاب أولجا أورلوڤا عن جايتو جازدانوف، ‮ ‬والصادر في‮ ‬عام‮ ‬2003‮ ‬ضمن سلسلة‮ »‬حياة الناس الرائعين‮« ‬إنتاج جازدانوف مازال‮ ‬مجالا خصبا للباحثين، ‮ ‬وتحت إشرافي تعد المعيدة مي أمين أطروحتها عن جازدانوف التي ستتناول فيها عناصر السيرة الذاتية في‮ ‬إبداعه وخاصة في روايته الأولي‮ »‬أمسية عند كلير‮«.‬

* أخبار الأدب.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *