د. مكارم الغمري
في أعقاب ثورة أكتوبر الاشتراكية (1917) دب الشقاق في أوساط المثقفين الروس، انضم البعض إلى جبهة المعارضين للثورة الذين أطلق عليهم »البيض« والذين هبوا للدفاع عن النظام القيصري، بينما انضم البعض الآخر إلى “لحمر” من المدافعين عن الثورة البلشفية
والنظام الجديد واندلعت حرب أهلية دموية التهمت نيرانها الملايين من الطرفين.
وفي غضون ذلك بات واضحا للمثقفين من “البيض” أن واقعاً جديداً يفرض نفسه بعد ثورة أكتوبر، وجد فيه هؤلاء المثقفون أنفسهم في وضع صعب: الرقابة السياسية والأدبية، إغلاق الصحف المعارضة والتي لا تنتمي إلى البلاشفة، تأميم دور النشر الخاصة، والحصار على الكلمة الأدبية، والفن بشكل عام، نيران الحرب الأهلية، فضلاً عن حملات الاعتقالات والتنكيل التي طالت العديد من الأدباء والمثقفين.
وإزاء هذه الظروف اضطر العديد من المثقفين الروس، العلماء، والأدباء، والنبلاء، وكبار الضباط إلى الهجرة بالملايين من روسيا.
وظاهرة الهجرة، قديمة عرفتها مجتمعات عدة، ولم تكن الأولى بالنسبة لروسيا، لكن موجات الهجرة التي حدثت في روسيا بعد ثورة أكتوبر – وكما يشير المؤرخ بطرس كوفاليوفسكي – لا يوجد في التاريخ العالمي ظاهرة مشابهة لها في حجمها، وعددها وأهميتها التاريخية، والثقافية.
ومن المعروف أن هناك ثلاث موجات هجرة كبرى في الفترة السوفيتية: ال أولى في الفترة 1917 – :1940، وتشير بعض الإحصاءات إلى أن الموجة الأولى هاجر فيها مليونان من المهاجرين، كان بينهم عدد كبير من المثقفين، البعض منهم رحل منفيا علي متن السفينة الفلسفية التي سافر عليها مئات الادباء، الفنانين، العلماء ، أما الموجة الثانية فقد حدثت في الفترة (1940 1960:)، والموجة الثالثة (1960 1980: )، وقد تختلف هذه التواريخ بعض الشيء من مرجع لآخر.
انطلقت موجات المهاجرين الروس إلي أوربا عبر أوديسا، ووارسو، البلطيق، القسطنطينية
عاش الأدب والفن الروسي المهاجر في سياق ثقافي مغاير للسياق القومي الثقافي، ولم يحل ذلك دون استمرارهم في الإبداع، فقد أقام المهاجرون الروس في المهجر دورا للنشر في تركيا، ألمانيا، براغ، باريس، صوفيا وغيرها من مراكز الهجرة الروسية، كما أقاموا الصالونات والجمعيات الأدبية، واتحادات للكتاب، وكانت القسطنطينية هي أولى هذه المراكز حيث كون المهاجرون الروس اتحادا للكتاب، ونظموا أمسيات ثقافية وأدبية، ثم أصبحت برلين في العشرينيات مركزا كبيرا للإصدارات الأدبية الروسية وفي منتصف العشرينيات انتقل ثقل الحياة الأدبية للمهاجرين إلي باريس التي صارت مركزا للهجرة الروسية ومستقرا للعديد من أدباء الموجة الأولي، ومنهم الشاعر والاديب ايڤان بوتين، والشاعرة مارينا تسفيتايفا، والاديب كوبرين وغيرهم، فضلا عن عدد كبير من الفنانين التشكيليين والموسيقيين، والفلاسفة والعلماء ومنهم أسماء معروفة مثل دخمائينوف، بروكوفيف، سترافينسكي، جلا زنوف، بيرديايف، ساروكين.
عانى الأدباء الروس في ظروف المهجر من العوز المادي، والإحساس بعدم الاستقرار، ومن الخطر علي إنتاجهم في وطنهم، ووجود دائرة ضيقة من القراء في المهجر ومع ذلك حرص الأدباء الروس في المهجر علي الكتابة باللغة الروسية الأم، فيما عد بعض الاستثناءات، فمثلا الكاتب الروسي نابوكوڤ اتخذ اللغة الانجليزية لغة للإبداع إلي جانب الروسية، وكان الحفاظ على الكتابة باللغة الروسية بالنسبة لأدباء المهجر يمثل شكلا من أشكال الحفاظ علي الهوية القومية، رغم أن الكتابة باللغة الروسية قلصت دائرة القراءة وجعلتها قاصرة علي المهاجرين – من جهة أخرى ففي الوقت الذي كان يعاني فيه أقرانهم في الوطن من ظروف الحظر والرقابة على الكلمة الأدبية، والمنهج الأدبي المفروض علي الأدباء داخل الاتحاد السوفييتي السابق، تطور الأدب الروسي في المهجر في ظروف حرية الإبداع، والتعددية الثقافية، ورغم أن الأدب الروسي المهاجر كان مجهولا في وطنه نال بعص أدباء المهجر تقديرا كبيرا من خلال جوائز أدبية متعددة، لعل أهمها حصول ثلاثة أدباء مهاجرين علي جائزة نوبل: أولهم الشاعر والأديب إيڤان نوبين، ويعتبر أول أديب روسي على الإطلاق يحصل على جائزة نوبل (في عام 1933 وقد أنقذته القيمة المادية للجائزة هو وزوجته من الفقر وأعطته فرصة مساعدة الآخرين من أدباء المهجر في باريس، حيث تبرع بجزء من قيمة الجائزة لمساعدة المحتاجين من الأدباء وفي هذا السياق يعد إيڤان بوتين واحداً من الأدباء الروس الذين اهتموا، وتأثروا بالثقافة العربية الإسلامية والحضارة المصرية القديمة وقد سبق لي تناول هذا الموضوع في دراسات سابقة كذلك حصل على جائزة نوبل الشاعر المهاجر برودسكي، والأديب سولچينتسين.
اتسمت أعمال الأدباء الروس في المهجر بالسعي إلى فهم ديناميات التطور التاريخي والثقافي لروسيا، ومحاولة الحفاظ علي تقاليد الأدب الروسي الكلاسيكي. والسبعي إلي فهم الملامح المميزة للطابع القومي الروسي، والاهتمام بالمنابع الفلكلورية، ومحاولة استرجاع الفضاء الروسي القومي عبر الذاكرة، ولذا نجد انتشارا لكتابات السيرة الذاتية، وأدب المذكرات.
اهتم أدباء المهجر بتجسيد معاناة الغربة، ومشاعر الحنين للوطن، والأهل وعبروا عن القضايا الانسانية العامة، ومشاكل الوجود، الحياة، الموت، الحب وغيرها
كان الأدب الروسي في المهجر هو الغذاء الروحي الذي ألف بين المهاجرين الروس على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم، وتحولت مناسباته إلي أعياد قومية في المهجر، فعيد الثقافة الروسية، كان يحتفل به في السادس من يونيو، وهو نفسه يوم ميلاد شاعر روسيا الاكبر بوشكين، وأقيمت في بعض مراكز الهجرة – وخاصة باريس – حيث كان يوجد أكبر تجمع للمثقفين الروس دورا للنشر، كانت تعمل علي إعادة نشر مؤلفات الادب الروسي الكلاسيكي
وفي باريس الروسية – كما كان يطلق عليها مجازا نشأت المدارس والمؤسسات العلمية لأبناء الجالية الروسية المهاجرة، وكانت لغة الدراسة هي اللغة الروسية، كذلك تكونت مقاه ومحال صارت مركزا لتجمعات الروس، وللقاءات السياسية، والاجتماعية والأدبية الخاصة بهم.
وفي باريس الروسية أيضاً تشكلت جماعات أدبية روسية جديدة منها جماعة «نوتة باريس» والتي تشكلت في الأساس من مجموعة من شباب الشعراء الروس في باريس ثم انضم إليها بعد ذلك شعراء شباب من عواصم متفرقة في أنحاء العالم جمعت هذه الجماعة الأدبية شعراء ينتمون إلى جيل الشباب الذي ولد في بداية القرن العشرين، وبدأ نشاطه الأدبي في المهجر وقد خرج هؤلاء الشعراء من عباءة شعراء الحركة «القمية» (الاكميزم) وهي إحدى حركات الحداثة في الشعر الروسي في مطلع القرن الماضي وقد تميز إنتاج هؤلاء الأدباء الشعراء بلهجة الهجاء، والمجازية، وجسدت أشعارهم الحزن علي فراق الوطن، والحنين إليه.
تباينت مواقف أدباء المهجر تجاه وطنهم ، فمنهم من تمسك بالبقاء في المهجر رافضا العودة الي الوطن، ومنهم الاديب الروسي إيڤان بونين الذي توفي في باريس ودفن بها – ومنهم من لم يستطع الاستمرار في المنفي الاختياري وعاد إلى الوطن، مثل الشاعرة مارينا تسفيتايفا، والاديب الكسندر كوبرين الذي كان يري في الفرنسيين « شعبا رائعا» لكنهم لا يتحدثون الروسية.
ساد شعور بالعداء المتبادل بين أدباء المهجر والنظام السوفيتي السابق ، فمن جهة كان من وجهة نظر الكثيرين في المهجر أن الاتحاد السوفيتي ليس بروسيا، وأن روسيا تم غزوها واحتلالها من قبل فكر أجنبي دخيل: الفكر الماركسي ومن جهة أخرى كانت هناك نظرة عدائية داخل الاتحاد السوفيتي السابق تجاه المثقفين المهاجرين الذين اعتبروا منشقين عن النظام، أما أدب المهجر فقد كان ينظر إليه على أنه أدب معاد إيديولوچيا، ولا يتفق جماليا مع أدب الواقعية الاشتراكية ولذا فقد تم حظر نشر أعمال أدباء المهجر في الاتحاد السوفييتي السابق، وتم تجاهل إنتاجهم من وقبل النقد، وفي التواريخ الأدبية، وخاصة في فترة القبضة الحديدية الستالينية ولسنوات طويلة غاب أدباء المهجر الروس عن المشهد الثقافي في روسيا السوفيتية، إلي أن هبت رياح التغيير في روسيا مابعد الاتحاد السوفييتي حيث عاد أدباء المهجر الروس إلى وطنهم، وسمح بنشر أعمالهم المحظورة من قبل، واتجه الباحثون والدارسون إلي إنتاجهم، وفي اطار إعادهم كتابة التاريخ الأدبي تم إدراج أدباء المهجو المستبعدين من قبل من التواريخ الأدبية لقد بات واضحا أن دراسة الادب الروسي في القرن العشرين بمعزل عن الادب الروسي في المهجر لاتعطي صورة حقيقية للتنوع الذي ميز طريق تطور الادب الروسي داخل وطنه وخارجه، ولا يسمح بتصور حركة الادب الروسي بوصفه عملية إبداعية واحدة وهكذا تم السماح بنشرأعمال أدباء المهجر، وأعيد الاعتبار إلي أسمائهم، واتجه الباحثون الي إنتاجهم في هذا الاطار عاد الي روسيا أديب المهجر جايتو جازدانوف (1903 – 1971) بعد قرابةعقدين من وفاته في المهجر فقد بدأ الاهتمام بنشر أعماله والكتابة عنه في التسعينيات من القرن الماضي – وحتي ذلك الوقت كان اسم جازدانوف معروفا على نحو ضيق في دوائر المتخصصين، ويكاد يكون مجهولا بالنسبة للقراء في وطنه.
وتعكس سيرة جازدانوف ملامح نمطية لأديب المهجر: المشاركة في الحرب الاهلية، الهجرة الي الخارج، افتقاد الوطن والاهل، المعاناة من شظف الحياة في المهجر، وعدم الاستقرار، والافتقاد إلي الأمان، وتجاهل إنتاجه في وطنه.
ولد جازدانوف في بطرسبرج في أسرة ميسورة الحال، وكان والده متخصصا في علوم الصحراء، ويعمل في مؤسسة عسكرية مختصة بالصحاري، وعنه تعلم حب الطبيعة، ومحاولة الاقتراب من أسرارها وعناصرها أما والدته التي كانت تجيد عدة لغات اجنبية فقد كان لها الفضل في تعرفه علي الادب الفرنسي في سن مبكرة. في اطار عمل الوالد تنقلت الاسرة بين ربوع سيبريا، ثم إلي مدينة خاركوف التي كانت مركزا ثقافيا ومسرحيا في ذلك الوقت
وقد تركت فترة الاقامة في خاركوف أثرا كبيرا في حياة جازدانوف وتركت طبيعتها الخلابة بصمة في ذاكرته، وفي إبداعه فيما بعد.
درس جازدانوف في المدرسة العسكرية، ثم انضم إلى صفوف المتطوعين في الحرب وهو في عمر السادسة عشرة ذهب إلي القتال وذلك رغبة منه أن يفهم في الحرب اشياء «قد تعيد ميلاده» علي حد وصفه، بعد أن ترك المدرسة انضم الي صفوف « البيض» في الحرب الاهلية، ثم فر إلي تركيا وهناك التحق بالمدرسة الثانوية لاستكمال الدراسة، ثم تمكن من الحصول علي تأشيرة الي بلغاريا عام 1921، والتحق بالمدرسة مرة للانتهاء من المدرسة الثانوية وفي عام 1923 سافر جازدانوف إلي باريس.
اضطر جازدانوف لامتهان العديد من المهن الشاقة في باريس من أجل كسب قوته وتدبير مصروفات الدراسة في جامعة السوربون، فعمل حمالا، وسائقا للتاكسي ليلا، وفي مصنع سيارات «رينو» ومترجما، وبالتدريس للغات، وكتابة التحقيقات الصحفية، وفي اذاعة
» الحرية« وغيرها من الأعمال، وكان يعيش في بنايات متواضعة.
وبفضل عمله في مصنع «رينو» تمكن من الحصول على الاقامة الشرعية في فرنسا، والحصول علي جواز سفر فرنسي.
انخرط جازدانوف في الحياة الثقافية والادبية «لباريس الروسية» فكان يواظب علي حضور اللقاءات الثقافية والتجمعات الادبية التي كان يعقد بعضها في مقاهي الحي اللاتيني بباريس.
لم تكن بداية جازدانوف في عالم الادب بالسهلة، فأمثاله من الادباء المبتدئين كانوا يجدون صعوبة في نشر أعمالهم وقد كتب جازدانوف بثماني روايات، بالاضافة الي العديد من القصص والاستطلاعات الأدبية.
وقد ظهرت باكورة قصصه في عام 1926 (فندق المستقبل) أما أول رواية له فقد ظهرت في عام 1929 (أمسية عند كلير) ويتميز إبداع جازدانوف بشكل عام بالعمق النفسي، والاهتمام بالمنظر الطبيعي، والكتابة النثرية ذات الايقاع الشعري، والايجاز في التعبير، والانصراف عن الشكل الروائي التقليدي، والاقتراب من المشاكل الحياتية والاجتماعية والنفسية، والوجودية.
وتقدم شخصية جازدانوف نموذجا لحوار الثقافات، فهو الي جانب جذوره القوقازية الاستونية، جمع بين الثقافتين الروسية الكلاسيكية، والاوربية الغربية، وهو رغم أنه ينتمي الي عائلة استونية قوقازية، فهو روسي المولد، والثقافة واللغة، كذلك مكنته دراسته في جامعة السوربون من الاقتراب من الثقافة الفرنسية والاوربية، فضلا عن تعرفه في الطفولة علي الادب الفرنسي والفلسفة الاوربية.
ربطت بعض الدراسات بين اسم جازدانوف والتقليد الأدبي للادباء الروس: تولستوي، دستويفسكي، جوجول، تشيخوف، بونين، وأيضا بالتقليد الأوربي وخاصة كتابات كاميو، موباسان، بروست.
حافظ جازدانوف علي الكتابة باللغة الروسية في المهجر، ويخص لغته الروسية اقتباس بعض الكلمات الاوربية.
وقد عبر جازدانوف في خطاب أرسله إلى الأديب الكبير مكسيم جوركي عن حرصه علي الكتابة بلغته الأم: «أنا لا أنتمي إلى كتاب المهجر، معرفتي بروسيا قليلة وسيئة، فقد غادرتها حين كنت في السادسة عشرة من العمر، أو أكثر بقليل، لكن روسيا هي وطني، ولا أستطيع، ولن أكتب بلغة أخري غير اللغة الروسية.
لم يتمكن جازدانوف من العودة إلى وطنه في حياته، فقد توفي في المهجر، ودفن في باريس في عام 1971، ولم يشهد عودة أعماله الي وطنه في تسعينيات القرن الماضي وقد تأسست في روسيا جمعية أصدقاء جازدانوف، وصدرت الأعمال الكاملة له في خمسة أجزاء، وتوالت الدراسات التي تبحث في إنتاجه ، ولعل من أهمها كتاب أولجا أورلوڤا عن جايتو جازدانوف، والصادر في عام 2003 ضمن سلسلة »حياة الناس الرائعين« إنتاج جازدانوف مازال مجالا خصبا للباحثين، وتحت إشرافي تعد المعيدة مي أمين أطروحتها عن جازدانوف التي ستتناول فيها عناصر السيرة الذاتية في إبداعه وخاصة في روايته الأولي »أمسية عند كلير«.
* أخبار الأدب.