*إبراهيم أبو هشهش
صورة قلميّة من المخيم
على الرغم من أن عدد التلاميذ في الصف الأول الابتدائي في مدرسة ذكور الفوار الابتدائية كان خمسة وخمسين، وهو عدد كبير جدا ليكون في صف واحد، إلا أنه كان قادرا في كل مرة على أن يبري لهم جميعا أقلام الرصاص بموسه الكباس ذي المقبض الأحمر المربوط من حلقته المعدنية بخيط مصيص في عروة حزامه، وكان سريعا في ذلك وبارعا بشكل مدهش؛ ثلاث أو أربع حركات سريعة محكمة ويكون القلم مبريا كأحسن ما يمكن.
كان يبري بالحماس نفسه خمسة وخمسين قلما مرة واحدة في اليوم على الأقل لخمسة وخمسين طفلا يتزاحمون حوله وهو يردد محذرا: إياكم أن تستخدموا البرايات فهي تقطم (أي تكسر الرأس المدبب للقلم). كان الصف مزودا بمبراة طاولة كبيرة من النوع الذي يدار بمقبض دائري، إلا أنه كان يفضل موسه الكباس الذي لا يفارق جيبه، فقد كان يستخدمه أيضا لشطف أقلام البوص التي يغمسها في الحبر الصيني حين يخطط أو يرسم وسيلة إيضاح ما.
كان خطاطا ورساما بارعا. وكان الجميع يستعينون بمهاراته هذه التي يبذلها لمن يريد. أما غرفة الصف فقد كانت متحفا مليئا بالألوان والرسومات واللوحات المكتوبة بخط النسخ الرصين، كان الصف بهجة للزائرين، يتزاحم أولاد المدرسة على الشبابيك ينظرون إلينا بحسد لأننا نحظى بمثل هذا الصف.
كان أستاذنا الشيخ خليل أبو بكر يبدع وسائله التعليمية الخاصة بطريقته المبتكرة، فيجعل لكل حرف من حروف العربية قصة متسلسلة مصورة على عدد متجاور من اللوحات، فحرف الألف مثلا، الذي يعلمنا صوته فقط، هو بقرة جائعة لا تتوقف عن المناداة على صاحبها: آآآآآآ، حتى يحضر أخيرا حاملا لها حزمة من البرسيم، وعلى الرغم من أننا لم نكن نعرف ما هو البرسيم على وجه الدقة سوى أنه شيء تأكله الأبقار، إلا أن القصة كانت مقنعة جدا لرؤوسنا الصغيرة. أما حرف الواو فهو عجوز محنية الظهر تمشي متوكئة على عكازها من دكان إلى دكان تريد أن تشتري البندورة، ولكنها لا تعثر على ما تريد إلا في الدكان الأخير الواقع في طرف البلد، فتشتري وتعود إلى بيتها متعبة جدا وظهرها يؤلمها، فتلقي بعصاها جانبا، وتجلس على حصيرها على شكل حرف واو مادة ساقيها أمامها وحانية رأسها على صدرها وهي تصيح من الألم: أووووو. وهكذا مع بقية الحروف.
لم يكن أستاذنا الشيخ خليل أبو بكر يشبه المدرسين الآخرين في أغلب الأشياء؛ فهو لم يكن يضع ربطة عنق مثلهم، ولكنهم كانوا يحترمونه ويقدرونه كثيرا، ويستعينون به في حل معضلات تتعلق بصعوبة نطق أو كتابة عند أولاد في الصفوف الأخرى، فكان يحلها بصبر شديد وبراعة خاصة، إلا أنه نادرا ما كان يخالطهم أو يجلس معهم في غرفة المدرسين في أوقات الاستراحة أو حصص الفراغ، بل كان يجلس أغلب الأحيان وقت الاستراحة مقرفصا ومستندا بظهره إلى جدار الصف الخارجي المواجه للملعب، يحتسي الشاي الذي يحضره آذن المدرسة، ويدخن غليونه بعد أن يحشوه بدخان الهيشي من كيس أسود ذي قماش سميك له خيط يلفه عليه ليغلقه. كان يشرب الشاي ويدخن ساهما وهو ينظر إلى لا شيء من وراء زجاج نظارته ذات الإطار الأسود، فيبدو رجلا مهموما.
أما بداية الدروس ونهايتها فلا علاقة لها غالبا ببرنامج المدرسة، كان يحضر في الباص من الخليل ويكون في استقباله جمع كبير من الأطفال الصاخبين المهللين، وعلى رأسهم إسحق، وهو ولد بسيط أكبر حجما وعمراً من بقية التلاميذ، كان يجلس في المقعد الأخير بجوار ابن أخيه طه، وهو أيضا ولد بسيط هادئ شديد الانطواء وأكبر منّا سنًّا وحجما مثل عمه، وقد تركا المدرسة نهائيا منذ الصف الأول من غير أن يعلق في رأسيهما حرف واحد من الدروس، واشتغلا وتزوجا مبكرا. أما طه فقد مات منتحرا بشرب مبيد الفيليدول الحشري، وهذه الطريقة للانتحار- إلى جانب القفز في آبار المياه العميقة- كانت أكثر أساليب الانتحار شيوعا في منطقة الخليل قبل أن يُمنَع استعمال هذا المبيد الفتّاك لأضراره البالغة على صحة الإنسان، لقد وضع طه حدا لحياته بهذه الطريقة المفجعة لإخفاقه مع عروسه بعد ستة أشهر من الزواج.
بعد حوالي أسبوعين من موته الفاجع هذا، كنت أراجع دروسي في الجبال، على عادة أبناء القرى والمخيمات، فسمعت من بعيد والد طه وهو يروّد وراء المحراث بتراويد شجية لم أفهم منها كلمة واحدة، لأنها كانت ذات لحن رثائي متصل مديد، ولكن الأسى الحارق الذي يحمله الصوت وصل إلي في مكاني البعيد و تغلغل إلى أعماقي، فشعرت بحزن عميق على مأساة ذلك الفتى المسالم الخجول، وعلى والده المفجوع الذي يبث حزنه لشعاب الجبل معتقدا أن لا أحد يسمعه. كان مقعد طه وإسحق خلف المقعد الذي أجلس فيه، فقد كنت أيضا فارع الطول بما لا يكاد يتناسب مع سني، وكان ذلك مثارا لتندر والدي، رحمه الله، الذي لم يكن يفتأ يسألني مازحا فيما إذا كان في الصف أطفال أطول قامة مني، فأقول له: إسحق و طه أطول مني، فيقول: يجب أن يرفّعوك مباشرة للصف الثالث بسبب طولك فقط. كان في كتاب القراءة الجديدة الجزء الأول الذي وضعه المربي والمفكر الفلسطيني الكبير خليل السكاكيني درس يجمع أسماءنا معا، ويشعرني برابطة من نوع ما مع هذين الولدين اللذين لم تكن لهما أي فاعلية تذكر داخل الصف سوى التزام الصمت التام، تقول كلمات هذا الدرس:
“قال الرجل لأبنائه، طه وإبراهيم وإسحقَ: يا هؤلاء، من منكم يقدر أنْ يصعد هذا الجبل؟ فقال كل منهم: أنا أقدر يا أبي”.
أذكر أن إسحق هذا قد سأل الأستاذ خليل بعد يومين أو ثلاثة فقط من بداية العام الدراسي قائلا بصوته الجهوري ولهجته الخليلية التي كانت تميز سكان الحارة التحتا من المدينة: أُستاز، وَأتيش الفيدوس؟ (أي متى تحل العطلة الصيفية يا أستاذ) فأجابه: ما يزال الوقت باكرا جدا على ذلك يا إسحق، بقي أمامنا تسعة أشهر. كان إسحق ينتظرعند باب الباص فور توقفه أمام بوابة المدرسة، وحالما يترجل الأستاذ منه يبدأ بالرقص والغناء صائحا بفرح: إجا أستازنا، إجا أستازنا(أي جاء أستاذنا). ثم يتناول يد الأستاذ ويقبلها ثلاث مرات، قبلات يُسمع صوت مطقها من بعيد، ويرفعها في كل مرة إلى جبينه. كان الأستاذ يترك يده لتلميذه البسيط القلب، ويمسح على رأسه بيده الثانية وهو يبتسم بحنان ابتسامة راضية غامرة تحتل كامل وجهه الحليق، بينما تضيق عيناه وتشع منهما طيبة ساحرة. كان يبدو فجأة أشبه بالأجداد المتسامحين بابتسامته العريضة وحطّته البيضاء فوق هامته السامقة أكثر مما يشبه الأستاذ الصارم المخيف الذي نعرفه. ثم يمشي الموكب اليومي يتقدمه إسحق هاتفا راقصا، أو حاجلا على ساق واحدة إلى الخلف، وهو يواجه الأستاذ ويصفق بيديه ويقفز في الهواء، بينما يُصدر من فمه صوتا انفجاريا جذلا ماطقا يتناسب مع إيقاع تصفيق راحتيه الكبيرتين اللتين تليقان بحراث، ويتجه هذا الموكب الصاخب من الأطفال الذين يحفّون بأستاذهم الستيني المبتسم مباشرة إلى الصف حيث تبدأ الدروس التي قد تستمر إلى وقت متأخر من النهار أحيانا ، فالشيخ خليل لم يكن يسرّحنا إلا بعد أن يقرأ آخر تلميذ الدرس أو يكتبه بالطبشور على اللوح. كان محكوما فقط بموعد مغادرة الباص الأخير إلى الخليل. ما عدا يوم الخميس، فقد كان يسرّحنا مبكرا.
أستطيع الآن أن أتذكر تقريبا بوضوح قصة كل حرف تعلمناه على يده، وأكاد أذكر كيف كان يشبّه بعض الحروف للأطفال بطيئي التعلم، مثلا، الهاء المتوسطة في كلمة مُهر أو نهر: “مثل الشبريّة يا أبو طعيمة”، هكذا يقول موجها كلامه لولد يجلس صامتا في طرف الصف قرب النافذة، ويتلعثم حين يطلب منه قراءة كلمة، ولكنه يتحول إلى شيطان مريد خارج الصف. أتذكر ذلك الآن وكأن شوقي كان يعنينا حين قال:
عصافيرُ عند تهجّي الدروس مِهارٌ عرابيدُ في الملعبِ
ولكن المهارة و العربدة اللتين يعنيهما شوقي هنا لم تكونا تنطبقان علي كثيرا، فقد كنت خجولا بل وقورا بما لا يليق بطفل في السادسة، حتى أن الشيخ خليل حين كان يعاقب الأطفال جميعا أحيانا لسبب ما بضرب كل واحد منهم بالعصا مرة واحدة على راحة يده المفتوحة، كان يستثنيني من ذلك. كان الأولاد يتوسلون ويبكون خوفا ويتلكؤون في بسط أيديهم ويخفونها وراءهم، ولكن ذلك لم يكن ينجيهم، أما حين يأتي دوري فقد كنت أفتح يدي، ولكنه كان ينظر في وجهي ويقول: أنت لا، ثم يواصل إنزال عقابه ببقية الأولاد. كان هذا الخجل يمنعني في أحيان كثيرة من المشاركة في الأنشطة الصفية أو الإجابة عن الأسئلة، وغالبا ما كنت أهمس بالجواب همسا للأولاد الذين يجلسون قربي، فيسارع هؤلاء للإجابة ويحظون بالمديح الذي هو عبارة عن كلمة: عفارم عليك صفقوا له، فيصفق الأولاد ويشعر صاحبنا بالزهو. بل إن بعض الأولاد عرفوا ذلك عني مع الزمن فكانوا إذا سأل الأستاذ سؤالا يقتربون من مقعدي وينتظرون حتى أهمس بالجواب، ثم يتسابقون للإجابة والحصول على العفارم والتصفيق. ولما كان التقويم في الصفوف الثلاثة الأولى يعتمد أساسا في ذلك الزمن على مشاركة الطفل وبروزه بين أقرانه، فقد انعكس ذلك على درجتي في نهاية السنة، وكانت خيبة جميع من كان حاضرا كبيرة عندما لوّح أخي الأكبر بحزن من بعيد بشهادتي قائلا: الخامس والعشرون. ولم أفهم في بداية الأمر. كان أكثر من اثني عشر شخصا من أولاد الجيران والأقارب وجميعهم من الأولاد الكبار بالنسبة لي حاضرين يشهدون ظهور نتيجتي الأولى بفضول، متوقعين أن أكون من الأوائل. ولكن الدرجة كانت صادمة. كانت مكتوبة بالحبر الأحمر الجاف والخط المميز للشيخ خليل أبو بكر: الخامس والعشرون. قرؤوها وأسقط في أيديهم جميعا، كان الأمر أكثر أهمية عندهم مما استطعت أن أستوعب آنذاك، وهكذا تحولت خيبة أمل الجميع إلى ألم ممض في روح الطفل الذي كنته ، فانفجرت في بكاء سرعان ما تحول إلى نشيج متصل لم ينفع معه أي عزاء أو مواساة، حتى أشفق علي ابن عمتي الذي كان في المرحلة الإعدادية، وذهب إلى بيتهم القريب وعاد بقلم حبر جاف أحمر، ثم أخذ الشهادة وشطب كلمة “والعشرون” ، فبقيت : “الخامس”، فشعرت ببعض العزاء، ولكنه عزاء لم يتغلغل عميقا في نفسي، غير أنني أمسكت عن البكاء.
بعد سنوات كثيرة من هذه النتيجة التي ارتفعت عشرين درجة دفعة واحدة بجرّة قلم من الحبر الأحمر الجاف، وحينما كنت أسكن في جبل التاج في عمان في أثناء دراستي للمرحلة الجامعية الأولى في الجامعة الأردنية، كنت ذاهبا إلى الجامعة في ضحى أحد الأيام حين صادفت ولدين صغيرين لعلّهما كانا في الخامس الأساسي، كما أذكر، قد تسلما شهادتيهما المدرسيتين. كان أحدهما أنيقا تبدو عليه مخايل الذكاء والنجابة، والآخر أطول قامة منه تبدو عليه علامات الشقاوة واللامبالاة، وكأنّ شيئا شيطانيا كان يلمع في عينيه، ولم يكن يبدو من الأولاد المجتهدين في دروسهم. كان يسأل رفيقه: أنت كم في الرياضيات؟ فيقول الولد ذو الملامح الذكية: خمس وثمانون، فيقول أنا تسع وتسعون. وكم في العلوم؟ فيقول الطفل الأنيق: سبع وثمانون، فيقول: أنا أشطر منك، أنا أربع وتسعون، فيغيم وجه الطفل الآخر بالحزن. لفت الأمر انتباهي فقلت للولد الطويل: أرني شهادتك، وسرعان ما اكتشفت أنه كان يضع في كل مرة عصا لرقم خمسة ويحوله إلى تسعة، ثم انتبهت إلى أن الدرجة المكتوبة بالحروف قد بقيت كما هي، فهو لم يغيرها ربما سهوا أو لأن ذكاءه لم يسعفه بالانتباه إليها، فقلت له: غيّرت الأرقام فماذا عن الحروف؟ فأسقط في يده وغام وجهه مباشرة بالحزن أو ربما خوفا من العقاب الذي ينتظره في البيت، ولكن الطفل الآخر سُرّي عنه وانفرجت أساريره، أما أنا فقد شعرت أنني انتصرت له وأعدت له معنوياته، وبأنني قد انتقمت له. انتقمت ممن؟ من الولد الزري الهيئة، أم من ذلك الولد الذي كف عن البكاء بعد أن شطب له ابن عمته كلمة “والعشرون” وأبقى على “الخامس” فقط؟ وأيهما أنا؟ الطفل النجيب، أم ذلك الذي وضع عصيّا لخمساته وحوّلها إلى تسعات؟
__________
* مجلة شؤون فلسطينية/ شتاء 2016.