يوسف زيدان*
.. قمتُ من جلستي الأرضية فوضعتُ الديوان الشعري فوق التليفزيون القديم، وهممتُ بنشاطٍ مفتعلٍ إلى المطبخ كي أتمّ مهمتي اليومية الأخيرة. أشعلتُ لهب الدمَّاسة بعدما ألقيتُ في جوفها ثلاث حفنات من حبَّات الفول وصببتُ عليها المقدار المناسب من الماء، ثم مسحتُ الرخامة التي فقدت لونها والبوتاجاز الذي كان أبيض، بقطعةٍ مبللة. استدرتُ إلى الصالة لإنهاض «نور» من أمام أفلام الكرتون مستعملةً عبارتي المسائية المعتادة، وبالنبرة ذاتها المازجة بين التحذير والحنو: يللا يا كتكوت، الساعة بقت عشرة.
قامت معي مترنحةً برقة غزالٍ يغالبه النعاسُ، وسريعاً سوف يغلبه. دسستُ راحتي اليسري تحت إبطها الطفولي الرقيق ومن طرف أريكة الصالة، أقصد «الكنبة» الوحيدة بالبيت، سريتُ بها إلى سريرنا الدافئ لحافه وغطيتها به وبقبلةٍ ناعمةٍ تُسلمها إلى أمان النوم. لما ابتسمتْ حبيبةُ قلبي، أشرقت بقلبي شموس صغيرة ملونة.
كنتُ ساعتها ساكنةَ الهواجس، وغافلةً عن المكالمة المفاجئة التي ستأتيني بعد ساعتين، فتعصف بكل سواكني. فقمت بهدوء من جوار «نور» ثم عدتُ إليها بعدما أوصدتُ بالرتاج الصدئ باب الشقة، وأغلقتُ بإحكامٍ شباك الصالة وضلفتيه الزجاجيتين.. حين أطفأتُ اللمبات استولي السكونُ على المكان، والسكينةُ، وكاد الإعتامُ يعمُّ غرفتنا الصغيرة.
شقة أبي هذه، التي صار إليها المآلُ فكانت لنا نعم المأوي، كل ما فيها صغير: مطبخ بلا باب على يمين الداخل من الباب، وحمَّام ملاصق له مفتوح بابه الضعيف على الصالة المفتوح عليها الغرفتان الصغيرتان.. في طفولتي الأولي كنت أري تلك الأماكن رحبة، فسيحة الأنحاء.
برفقٍ، انسرب ساقايَّ تحت لحافنا واحتضنتُ وردتي النائمة، ورحت أمرِّر أطراف أناملي على جدائل شعرها الكثيف، آملةً أن تطمئن إلى نومها فتحلم بالضياء الملوَّنة المتماوجة، التي طالما رأيتها في أحلام طفولتي. لم أكن أنام في طفولتي بغرفتنا هذه التي نسميها البحرية، مع أنها شرقية، ولم أكن أدخلها إلا نادراً. لأنها كانت مخصّصة لأبي وطنط «عزّة» المسماة تدليلاً «وِزَّة» وهي لم تكن تحب دخولي غرفتها، وتحرص على إغلاق بابها بمفتاح. سامحها الله، ورحم أبي الذي تزوَّج بها عقب وفاة أمي، لترعاني، فرأيتُ منها مارأيتُ. لابد أن الله سيرحم أبي ويغفر له خطاياه إن وُجدت، فقد أمضي حياته وديعاً محزوناً، ولم يُعرف عنه إيذاءُ أحدٍ أو الاختلافُ أو الشجارُ مع أي شخص، مع أن المشاجرات في الحيِّ دائمة الوقوع بين معظم الناس. اسم أبي «عبدالسلام» كان منطبقاً عليه تماماً، وله منه كل النصيب. رحمه الله. وقد مات بعد معاناةٍ طويلةٍ كفيلة بمحو الذنوب كلها، فلا يُعقل أن يعاني الناسُ في الدنيا إذا عبستْ، ثم في الآخرة إذا جاءت. الله اسمه «الرحمن» ولذلك فسوف يرحم أبي، أما عزة فلن يسامحها الله فليس من بين أسمائه المسامح أو المتسامح أو السامح. لا أدري.
فالأسماءُ قد لا تدل على المسمي، ولا اسم أصلاً لمن لا رسم له. ومَنْ يدري؟ فربما هناك سر لهذه الأسماء، وأنا لا أعلمه. والله اسمه أيضاً «الغفور» وربما أراد أن يُخطئَ الناس في حقه ولاحقاً يغفر لهم، فينطبق عليه اسم الغفور. ويتحقق بهذا التعالي معني اسمه «المتعال» الذي لا يكترث كثيراً بما يفعله الناس. وكيف له أن يكترث، وكل شيء بالنسبة إليه هين أو معدوم الأهمية؟ والبشرُ لا شيء. فما هم في خاتمة المطاف إلا موجاتٌ متتالية تحّركها الرياحُ إلى حين، وشطآنُ الموت تكسر الموج كله وتطويه، مهما علا أو تسارع. عموماً أنا الآن لا شأن لي بعزَّة ولا بغيرها، وليفعل بها ربُّها ما يراه عادلاً ومنصفاً.. الإنصاف! ما معني هذه الكلمة، وعلي أي شيء في الحياة تنطبق. يووه، سأطرد عني هذه الأفكار كلها، فهي تتركني كل مرة حبيسة الحيرة.
في زمني الجميل، أقصد قبل خروجي من هنا متـكسّرةً ثم عودتي مع ابنتي متحسّرة، كنتُ أنام بالغرفة الأخري المسماة القبلية مع أنها غربية، وفيها تراكمت معظم ذكرياتي المبكرة، أقدمها عندي أنني كنت أحدِّق قبل نومي في لمبة السقف، المحيط بها قُمع كبير من البلاستيك الملون، وأطيل التحديق فأتوهم أن هذا الضوء الملوَّن المبهج هو الله، وكان يُريحني الوهم. ويوم أفصحتُ لأبي عن سرّي، وكنت في حدود السابعة من عمري، ضحك بهدوءٍ وقال: لا يا نورا ربنا فوق في السما بعيد.. قلتُ له بلسان الطفولة: طيب ما كان يعيش معانا هنا في الأرض بدل ما يبقي فوق في السما لوحده! فقال: سبحانه، يا نورا كفاية كلام.
***
الليلة، مثلما يحدث في معظم الليلات، ساحت بي الذكرياتُ والأفكارُ وطوَّفت في آفاقٍ بعيدةٍ حتى أراحني النوم مني، وعند انتصاف الليلة وصلني من خلف باب الغرفة صوتُ رنَّات الهاتف، فتجاهلتُ الأمر بأن طويت على أطرافي دفء اللحاف ولذة المنام في حضن نور. لن أنهض. قد يكون اتصالاً خاطئ الرقم، أو لعلها معاكسة سمجة من أحد الفُرَّاغ الذين يخيِّل لهم غباؤهم أن المرأة المطلقة لعوبٌ تعاني من فوران الشهوات، وتتمني الارتواء بالارتماء تحت أقدام أول رجلٍ يُداعبها باستهانةٍ أو يقتحمها بإقدام! كأن المطلقة، عند هؤلاء، مريضةٌ تميل بطبعها إلى مزيدٍ من التعذيب. هؤلاء زبالة البشر.
بعد هدأةٍ لم تمتد، عاد الرنينُ ليقضَّ استلقائي المستدفئ فانتبهتُ إلى أن الرنات طويلة وغير ثنائيةٍ، كتلك المعتادة، فأدركتُ أنه اتصال من خارج الإسكندرية أو من خارج مصر. ربما هي «أمل». لكن الوقت متأخر! تُري كم الساعة الآن؟ قمتُ إلى الصالة متخبطةَ الخطو، وقبل أن أهبط على الكنبة رفعتُ سماعة الهاتف وعيناي مغلقتان: آلو.
– أيوه يا نورا، انتِ نايمة بدري كده ليه! اسمعي عندي خبر مهم جداً جداً.
– خير يا أمَّولة. خير. هيَّ الساعة كام دلوقتي؟
– عندنا هنا الساعة اتنين، ودلوقت عندك اتناشر. فيه فرق ساعتين بين الدوحة وإسكندرية. بس أنا ماقدرتش اصبر للصبح، أول ما وصل المنيِّل أخدت تليفونه الجوال..
– المنيِّل! تقصدي مين؟
– يا نورا صَحْصَحي معايا. حسـن جوزي، هيكون مين غيره يعني..؟
– طيب يا أمل. خير، إيه اللي حصل يا حبيبتي؟
– موش هتصدقي النهارده قابلت مين. سمارة، حبيب قلبك. قابلته في السوق، وأول ما شافني سألني عنك، وكان نفسه يكلمك. هيموت عليكي. قال لي إنه مسافر بكرة الصبح تبع الشغل، هيروح حتة كده بعيدة وهيرجع بعد شهر أو شهرين بالكتير، وهيتصل بيكي على طول أول مايرجع. على فكرة دا بقي دلوقتي زي القمر كده، وملو هدومه. ونِضف قوي يانورا، بيشتغل هنا في التليفزيون.
– إنتِ بتقولي إيه يا أمل؟!
– أيوه واللهِ، بيشتغل معاهم مراسل. وسألني عنك وعن البنت، قلت له إنها طالعة شبهه، الخالق الناطق. فرح قوي، وكانت عينيه بتلمع. شوفي، أنا لمَّحت له كده بشوية حاجات، وادّيته نمرة تليفونك علشان يكلمك أول ما يرجع من السفرية اللي رايحها.
– طيب، ما كان يكلمني..
– شوفي، أنا لقيته مذهول كده ومتلخبط لما عرف إنك اطَّلقتِ، وإنك قاعدة دلوقت لوحدك. كانت عينه هتدَمع م الفرحة. أنا اللي قلت له يكلمك لما يرجع، علشان يكون اتلمَّ على أعصابه كده وينجز. المهم، خلاص دلوقتي علشان سي حسن أفندي طالع م الحمام. حمام العوافي يا اخويا، هئ هئ. بكرة يانورا هاكلمك م السنترال، سلام انتِ دلوقت يا روح قلبي.
أغلقتْ «أمل» هاتف زوجها الجوَّال بعدما قدح كلامها في أنحائي شرارات نورٍ ونار وطوَّحني بعيداً عني، فبقيت مذهولةً. وجيبُ قلبي يتسارع، ورأسي يتأرجح بين نواحي الفرح والحيرة. ما هذا؟ أتراني أحلم.. مرَّت على فترةً لا أدري كم امتدت، حتى أتاني من خلف الشباك صوتُ رياح سريعة وأصداءُ رعدٍ بعيد، يدلَّ على اقتراب هطول المطر الوفير. الشتاءُ دخل علينا هذه السنة عفياً، ومنذ نوة «غسيل البلح» لا تهدأ الريح إلا أحياناً قليلة ثم تعود فتشتد، ولحقت بها نوة «رياح الصليبة» العتية، فما خلا يوم من مطر ينهمر على غير المعتاد في هذا الوقت من العام. لعلها بشري. أنا أحب الشتاء، والأنواء، وأحتاج جداً هذه البشارات.
ياه، أخيراً ظهر من بعد اختفائه التام، وبعدما كاد اليأسُ يُسلمني إلى البؤس.. هزَّ الجدران رعدٌ قريب فقمت من سريري إلى الصالة مخطوفةَ القلب، ثم عُدت لإلقاء نظرةٍ على «نور» فوجدتها ساكنةً في أمان نومها، واربتُ عليها الباب وذهبتُ مبتهجةً إلى المرآة التي فوق الحوض في الحمَّام وحدَقتُ بعين الفرحة والأمل في ملامحي، ثم حادثت نفسي بلا صوت: أتراني تغَّيرت؟ هل هذه الملامح هي ما أحب، وهاتانِ الشفتانِ هما ما ذاق وعشق؟ أهذه أنا.. نعم، هي أنا من بعد معاناة سنوات خمسٍ عجافٍ، موجعة، ولكنني سأبقي جميلةً في عينيه مثلما كنتُ دوماً، ولسوف أستعيدُ ذاتي وكأن كل الذي كان، ما كان.
لماذا لم يتصل بي من فوره، وكيف سأصبر على هذا الانتظار. أمره عجيب. ألا يدري قدر احتياجي إليه وعُمق اشتياقي؟ لن ألومه، فأنا التي ابتعدتُ عنه وبادرته بالهجران، غصباً عني، وهو الذي جاء من بعيد يبحث عني فاستترتُ عنه. كنت مضطرةً. ما كان بإمكاني مواجهته ومواجهة مصيري المحتوم، معاً، ولم أقدر على احتمال رؤيته لي محطمةً مهزومةً، منكسرة. كلانا انكسر واحترق قلبه، بلا ذنبٍ جناه.. هل الحبُّ ذنبٌ.
لماذا يا أمل اصطنعتِ دور الحكيمة ونصحته بتأجيل اتصاله بي إلى حين عودته من السفر! كان بإمكانه الاتصال أمس ليقول لي أيَّ كلمة. وكان يكفيني أن أسمعه يناديني باسمي، بحبًّ، مثلما كان يفعل دوماً. أين سافر؟ ومتي سيعود؟ لماذا أبكي الآن.
غسلتُ بماءٍ كثيرٍ وجهي وجفَّفته، فأشرق، وأمام المرآة بللتُ شعري ومشَّطته بيدٍ ترتجف وشفةٍ تتهيّأ للابتسام، ثم أدخلتُ فيه أصابعي ونثرته حول وجهي مثلما كنت أفعل في أيامنا.. أيام كان يهمس لي بأن دوَّامات شعري تُغرقه في بحري، فأردُّ عليه بلسان الدلال وميعة الصبا: بحر إيه يا ابني يا حبيبي، دا أنا المحيطات كلها.. سأخبره حين يتصل بأنني ما عدتُ من بعده محيطاتٍ ولا بحاراً، ولا حتى بحيرات، أصبحت مياهاً جوفية أو مستنقعات عطنة أو بئراً جف ماؤه. أصبحتُ غيري. لا، لن أحزنه بهذا الكلام المرّ ولن أحزن معه، سأقول فقط إني أحبه، وإن حباً كهذا لا يمكن أن يذهب سُدى.
ما الذي جري لي! ما عدتُ من شدة شعوري بالفرح شاعرةً ببرد. كشفتُ كتفيَّ وسقف صدري بأن خلعت سترتي الصوفية الخانقة، وتنفستُ كل الهواء فامتلأت خفةً ومرحاً بحرياً. نعم. هذه أنا، وتلك بشرتي الناعمة الناصعة التي طالما عشقها، وكان يطيل التأمل فيها ويرتاح إلى لمسها بأنامله. وها هي سُمرتي قد ازدادت إشراقاً بعدما زاد وزني قليلاً، وقلَّ تعرُّضي للشمس بسبب ندرة خروجي من البيت.. صاحبتي «ياسمينة» كانت تقول إن لوني البرونزي البراق هذا هو أمنية الأوروبيات، فأردُّ: المستحيلة.
أنا لم أتغير كثيراً، وربما صرتُ الآن أجملَ وأكثر ملاءمةً للعشق والاشتياق والاشتهاء والمنح. هو كان يهمس لي بأنه لا يحب النحيلات اليابسات كالنخلات، ولا البدينات جداً كالكُرنبات، ولا الشقراوات شبيهات شعر الخرشوف والبيض المسلوق. كان يقصد أنه يحبني أنا، فقط. وهو لا يزال يحبني، ولن يراني إلا جميلة، مهما كان حالي. أنا عنده الجمال.
الجوُّ بردَّ، أم حرّ. وضعتُ على كتفي ما خلعته عني، وخرجتُ من الحمَّام المفتوح بابه إلى أفق الصالة الفسيح بأقدامٍ رشيقة الخطو، متمايلةً، متموَّجةَ الذراعين كمن يقود فرقةً موسيقية بديعة العزف. طّوفت في الصالة بخفَة راقصات الباليه، الفَرَاشيات، وأطلتُ التحليق حتى كاد الدوار يُسقطني من سماء السعادة إلى بساط البهجة. تماسكتُ، واحتضنت صدري بعنفوانٍ قديم، ثم هدَّأتُ إيقاعي كيلا أقع. أخرجت مرآةً صغيرة من شنطتي المعلَّقة خلف باب الغرفة القبلية، وجلستُ في الصالة أتأمل ملامح وجهي وتفاصيله.
لابد طبعاً من بعض الاستعداد. سأعاود من الغد الاهتمام ببشرتي والمسح عليها بزيت اللوز المر، وأداوم ترطيب وجهي كل ليلة بقلب الخيار، وتغذية شعري بعجينة الحنَّاء. سأهتمُّ بكل ما فيَّ، بأسناني والرموش والحاجبين العريضين، ونظرتي. من جديدٍ سأكتسي بسحري السابق. لن أضع مساحيق ملونة، فهو لا يحب ذلك. سأكتفي بكريم الأساس مخفَّفاً، وبالكحل الجذاب، وبابتسامتي.. لن أستطيع الليلة النوم بقلبي الخفّاق هذا، وبارتعاشة باطني، ولسوف أبقي صاحية حتى تتصل «أمل» وتخبرني بالمزيد من تفاصيل لقائها به، فأعرف منها كل حرف قاله وكيف كانت ملامحه حين قاله، ولمعة عينيه عندما أخبرته بأنني الآن حُرة، وبأن «نور» تشبهه.. أتراه أدرك أنها ابنته؟.. لن أفكر الآن في أي شيء، وليس عليَّ إلا الجلوس في سكونٍ كي أهدأ.
***
الليلُ استطال. متى سيأتي هذا النهارُ الكسول، متي؟ ماعدتُ قادرةً على الانتظار. أسرعتُ ملهوفة إلى النتيجة الحائطية المعلقة بمدخل المطبخ، ونزعتُ منها على عجلٍ أوراق الأيام الماضية، المتشابهة، لأري تاريخ اليوم. ابتسمتُ مستبشرةً حين وجدت ورقة يومي الذي ابتدأ منذ ساعتين، مكتوب بأعلاها السنة «2001» وبأوسطها اليوم والشهر بأرقامٍ كبيرةٍ مبهجة «10/10» وبأسفلها بخطًّ دقيق: الأربعاء. وتحته بخطًّ أدق، حكمة اليوم: اشتدي أزمةُّ تنفرجي.
اشتدت عليَّ أزمات عديدة أوجعتني، كثيراً، وعانيتُ منها طويلاً، ولكنني ما تذمَّرت ولا شكوتُ حالي لأحد. صبرت، فصار الله معي. أو هو كان معي، فصبرت على المرار الذي مررت به، واحتملت ما لا يُحتمل. من أين واتتني القدرة على البقاء أيام دهسني «مفتاح المبروك» بحوافره، وكيف عَبَرتُ معاناتي بعد رحيل أبي واسوداد الأيام؟ من أين واتتني القوة! لابد أن الله كان معي، مع أنني لم أكن آنذاك واعيةً بحضوره فيَّ، وفي كل التفاصيل.. الله ليس بعيداً عن هذا العالم الذي نعيشه، ولا يسكن السماوات، هو هنا معنا يختار لنا ما نظن أنه اختيارنا، ويدركنا حين نميل إلى الاستسلام للأسي، ويهمس إلى أرواحنا فنتماسك ولا ننهار. صحّ، اشتدت بي الأزماتُ حتى انفرجتْ، وجاءني اليومُ المبهج: الأربعاء العاشر من أكتوبر سنة واحد وألفين«.. نعم، أسعد الأيام هو الأربعاء، وهذا تاريخه عشرة على عشرة، وعامه متناسق الأرقام يبدأ ألفية جديدة.. كان أول لقاءٍ مع حبيب عمري، بأسوان يوم أربعاء، وجاء إلى الإسكندرية أول مرة ليراني يوم أربعاء. هذه كلها إشارات. لقاء »أمل« به واتصالها بي لحظة ابتداء هذا اليوم بالذات، ليس مصادفات. لا صدفة في الكون. كان الدكتور العظيم »أبو اليزيد« يقول لنا ذلك في السنة التمهيدية للماجستير وهو يشرح نظرية أثر الفراشة، ويخبرنا بأن الحوادث الكبري والصغري يربط بينها خيط خفي. فلو رفَّت فراشة بأجنحتها في الصين، كان ذلك مرتبطاً بإعصارٍ يهب في أمريكا! كلام عجيب. كنتُ دوماً غير متأكَّدة من تلك الفكرة، لكنها الآن تبدو لي صحيحة، فالذي جري قبل قليل والذي جري قديماً لم يكن صدفة.. ربما.. ياربي.. عقلي مضطرب ويكاد يختل، يجب أن أهدأ قليلاً.
وصلتني من بعيد أصداءُ أذان الفجر بصوت مؤذن »مسجد سلطان« الجميل، المطمئن. بعد قليل، سوف تشرق شمسي ويبدأ نهاري بعدما طال الليلُ بي، وملأ ما حولي ظلاماً وظلماً.. من كان يتوقع أن تطل شمسي فجاةً في منتصف الليل، وأنا التي كنت صباح الأمس جالسة على هذه الكنبة أفكر في مستقبل ابنتي وفي أيامي الآتية، ويُربكني أنني سأكون لنور أماً وأباً، مع أنني لم أعرف أمي ولا أدري كيف تتصرف الأمهات مع بناتهن. لا أتذكر من طفولتي المبكرة إلا ما كانت تفعله معي »عزة» التي تزوَّجها أبي، لتكون بديلةً لأمي، حسبما كان يقول لي في صغري.. مسكين أبي، لم يكن يدرك أن الأم لا بديل لها.
* المصري اليوم.