غنيت وأنا طفلة صغيرة، لا أعرف من أمور الدنيا إلا ما يعرفه الأطفال! غنيت وأنا لا أشعر بما أقول ولا أحس بحلاوة النغم في فمي ولا بهزة الطرب في قلبي، وكنت إذا صفق الناس عجبت، وسألت نفسي لماذا يصفقون؟!
وهكذا لا أستطيع أن أقول إني عشقت الغناء طفلة، أو أن أدعي أنني كنت أردد القصائد والموشحات بدلا من البكاء!
لقد غنيت «للقمة» لا «للنغمة» غنيت لأعيش، لا للفن، ولا لآلهة الفن الجميل!
وعندما كنت طفلة أغني في الأفراح، كانت أمنيتي أن تحدث مشاجرة واحدة على الأقل بين المدعوين، أو بين أصحاب الفرح، أو بين المدعوين وأصحاب الفرح، لأتفرج وأستريح من عناء المغنى!! والليلة المتعبة عندي هي التي تمر بسلام، فلا يحدث فيها ضرب ولا يقع جرحى ولا ترتفع الكراسي في الهواء ولا تتكسر مثل الفوانيس على رؤوس المدعوين، ففي مثل تلك الليلة الهادئة كنت أضطر إلى أن أكرر القصيدتين الوحيدتين اللتين كانتا كل محصولي «الفني» في تلك الأيام!
كنت أصعد إلى المسرح لا يهمني شيء ولا أبالي بشيء ولا يخيفني شيء.. وأي شيء يخيف طفلة صغيرة لا تعي ما تفعل ولا تفهم كلمة واحدة مما تقول!
***
وكبرت، وبدأ حظى يكبر معي، وبدأت أتذوق الفن، عند ذلك بدأت أتهيب المسرح وأرهبه وأخشاه وأشعر كلما غنيت أني مقبلة على امتحان رهيب.. وأن المستمعين هم أولئك الممتحنون الذين لا يرحمون ولا يتساهلون ولا يقبلون عقد امتحان ملحق للراسبين!
وقد يحدث أحيانا إذ أذهب إلى حفلة من الحفلات، وأنا على تمام الاستعداد لها: مزاج رائق، وصحة طيبة، فلا أكاد أفتح فمي للغناء حتى أتمنى لو أنهم أخذوا مني كل ما أملك، وعتقوني لوجه الله.. ولا أغني!
وفي بعض الليالي، قد تكون صحتي ليست على ما يرام، ومزاجي لا يصلح للغناء، وإنما أذهب «لأداء الواجب» فلا أكاد أفتح فمي حتى تترقرق دمعة في عيني، وتظل حائرة، ثم لا ألبث أن أنسى الناس، وأغني لنفسي.. وقد أفتح عيني وأنظر للجمهور ولكني لا أراه! أتصور المكان وليس فيه أحد سواي. لا أسمع أصوات التصفيق، ولا صيحات الاستحسان، فإذا كررت مقطعا فإنما أكرره لأني أريد ذلك، لا لأن صوتا ارتفع يقول لي «كمان»!
في مثل هذه اللحظات أغني وأنا أحلم وتصبح القطعة الغنائية قطعة من قلبي، فإذا قلت «سافر حبيبي» فإني أتخيل أن لي حبيبا، وأنه سافر، وأنه تركني، وأنه أسلمني للألم والعذاب. وإذا أنشدت «غَنى الربيع» أحسست أن الدنيا كلها ربيع يغني: الأطيار تغني والأشجار تورق والوجوه تبتسم والنسيم يراقص الغصون على أنغام الطير وأرى الورد نعسان حقا والكون يشاركني فرحي، والجو يغنى «كل لحن بلون».. ثم أتلفت وأبحث عن الحبيب الذي تخيلته فلا أجده، فأشعر أنه غاب عن قلبي الحائر، وأناديه «كلمني!» وأذكره بالماضي الذي أعيش فيه وأقول له «طمني» وأسأله عن حال فؤاده؟ هل قسا وأنا صابرة؟ هل غضب وأنا راضية؟ ثم أنظر حولي فإذا أنا وحيدة حقا وإذا الأزهار جفت فوق الغصون وإذا الشمس غابت من أفق الأحلام وإذا الأرض صحراء جرداء لا زهر فيها ولا ماء!
وفي بعض الليالي أنتهي من غنائي وكأنني أنتهي من حلم، فيوقظني تصفيق الجمهور في نهاية المقطوعة، فأحس بالرعدة في جسمي، وأشعر شعور النائم حين يستيقظ بعد حلم رائع ويتمنى لو أنه لم يفتح عينيه، وعاش إلى الأبد في ذلك الحلم الجميل!
وهناك ليلة في عمري لا أنساها، تختلف عن كل ليالي حياتي، ليلة أن غنيت في النادي الأهلي وكانت ليلة العيد. وأقبل الملك فاروق مفاجأة… أحسست عندئذ أن في قلبي عيدا سعيدا، وأن في قلبي موسيقى تعزف بأعذب الألحان! وأحسست في نفس الوقت برهبة وخوف، وحرت ماذا أغني في حضرة الملك؟
ورحت أغني… ولم أشعر بشيء بعد ذلك، لم أعرف أني أجدت ولم أعرف أني فشلت.
بعد ذلك بأيام كنت في محطة الإذاعة أسمع الشريط الذي سجلت عليه أغاني الحفلة.
فأغمضت عيني، ورحت أسمع، ولم أتمالك نفسي، فوجدتني أصيح:
– الله… يا أم كلثوم!
* القاهرة.