نجوى الزهار*
( ثقافات )
عندما امتدت يداي لهذا الكتاب ” المستقبل ” . عشرون حوارا في الطب والجنس والحياة مع أكبر علماء الغرب، كان قلبي يسير في اتجاه ابي الطبيب “رحمه الله ” ، وبدأت أحاديثي الجوانية تتخذ مسارات عدة . وشعرت بأنه سوف يفرح أبي بأي معلومات نيره. فهو المؤمن بهذا القول : ” ان الخطورة لا تكمن فيما نعرفه ،بل فيما نعتقد أننا نعرفه حق المعرفة ” مارك توين ، هو الطبيب البارع والمولع بأم كلثوم أيضا. وقد كنت أرافقه في عيادته الكائنة في شارع المهاجرين / عمان .
كنت أسمع الأسئلة الشخصية وبعض الضحكات مع مرضاه ومحاولاته المستمرة في أن يجعل الدواء آخر محطاته .فهو المؤمن بطاقة الانسان الايجابية على الشفاء
ولطالما كنا نحن أفراد العائلة نحتار في أمرنا ، فاذا ما أصيب أحدنا بالتهاب الحلق كانت الغرغرة بالماء والملح هي الوصفة المحببة لديه .
ثمة مواضيع ومواقف ونظرة للحياة لم أستطع أن أضعها في مكانها الصحيح الا بعد قراءتي وقراءتي لهذا الكتاب . لا أنكر أنني شعرت بالفرح والاحترام والالتزام لأبي ، فهو في مشواره كان قريبا من هؤلاء الأطباء العلماء الاقتصاديون الكيميائيون والفيزيائيون الذين حكمتهم الحكمة
المستقبل
وكيف لنا أن نبني المستقبل؟ لا بناء للمستقبل بدون فهم الحاضر. وهذا عدم الفهم للحاضر ليس لأنه مليء بالظواهر والتعقيدات ، ولكن لأن مفاهيمنا حول هذا العالم هي بلا حكمة . كان هؤلاء الأطباء العلماء الفلاسفة والاقتصاديون عندما يتساءلون عن عمق هذه المشكلة . من عدم فهم أنفسنا أولا والآخر ثانيا وعدم فهم الحاضر أيضا بكل تعقيداته ، تكون الاستعانة بالفلسفة الشرقية . وهنا يكمن القصيد ، من الصين الى الهند . فهذا الايمان الراسخ بالتعدد الثقافي والتعدد الاجتماعي . فهذا العالم الفيزيائي يستند في أجوبته على الفكرة ا لمركزية للتاوية. ويؤكد أن البحوث التي كانت موضع الاهتمام في الغرب تؤدي قليلا الى مثل هذه الأفكار من العلاقات للتراكيب المرتبطة ارتباطا وثيقا لدرجة أن أي اختلال في التوازن لأحدها يفضي الى تعديل الآخر .
الحكمة الصينية : ” الوقاية خير من العلاج “
فلقد كانوا في الصين القديمة يدفعون أجر الطبيب في حالة تحسن صحة المريض فقط ، ويمتنعون عن اعطائه أتعابه اذا كان الشخص المعالج ما زال مريضا . وما زال بعض هؤلاء الأطباء العلماء الفلاسفة يتمسكون بهذه النظرة الشمولية للمريض.
وعندما يتوجه أحد أشهر علماء المناعة ” طعم شلل الأطفال ” في كيانه وروحه الى حكمة الشرق ، فستعير منها أسلوبا وفنا ملموسا في طريقة حياته .
حتى في معهده الذي يكون كلوحة من الظلال والأضواء، كأنه حديقة يابانية . ليحصل من جائزة نهرو رفيعة الشأن .
ويؤكدون أن أعظم مشاكل الانسان الحالية هي فقدان الايقاع في الطبيعة ، والتوجه الى الأدوية المضادة للقلق والاكتئاب .
الأخلاق
ليس هنالك الا أخلاقية واحدة، وأن الجوهر في كل الأديان وكل الفلسفات واحد . ويركزون أننا علينا أن نحتفظ بالمعنى الحقيقي للأخلاق ، وأن لا تكون أخلاقنا متكيفة مع العصر ولكن المهم أن ننشد تكيف العصر مع أخلاقنا وهذا أصعب .
ان الحكمة التي يرتكز عليها هذا الكتاب تعود لتلك المعلومة . أن العلميون في القرن التاسع عشر وما قبله كانت لديهم رؤية واقعية قبل كل شيء، ولم يمارسوا عبادة العلوم لأن هؤلاء العلماء كانوا أيضا من عداد الفلاسفة . ويمسكون الوسيلة التي تتيح لهم فهم العالم . فالفارق كبير بين الفهم والتفسير. لأن الفهم أساسي أكثر من التفسير. ويؤكدون أن الابداع والعبقري شأنهما شأن الانطلاقة الصوفية أو الموهبة الشعرية
يركز هذا الكتاب على المصادر المهددة للإنسان في روحه وعقله وجسمه ، ويركز أيضا على المصادر المهدورة لهذه الأرض الجميلة وذاك الخطر في اضفاء قيمة اجتماعية على السلع الاستهلاكية ، فيكون الانسان بعيدا عن كينونته .
ولقد عثر في بعض الخطابات التي حررها ديكارت الى صديقة ألمانية :
لقد توصلت من جهة أخرى أن المظهر الأهم للصحة على أي حال . هل أنا سعيد أو غير سعيد ؟ فاذا كنت غير سعيد أصاب بالمرض وهذا صحيح تماما ولكنه رأي يعوزه قدر من الديكارتية .
أمسكت بالمزحة القديمة
” ان الطبيب المتخصص الذي يمتلك من المعارف أكثر وأكثر عن أشياء أقل وأقل . وفي نهاية المطاف فهو يعرف كل شيء عن لا شيء .
وقصة المماس العام الذي يعرف أقل وأقل من أشياء أكثر وأكثر وفي نهاية الأمر فهو لا يعرف شيئا عن الكل “.
ابتسم أبي “رحمه الله ” ثم دعاني لمشاركته في الاستماع والاستمتاع بأغنية أم كلثوم – عودت عيني على رؤياك – .
المستقبل – ميشيل سالومون، ترجمة وديع حنا، الفكر المعاصر
* كاتبة من الأردن