*آية الاتاسي
غداً… سأحبك أيضاً
الحب لا يفرق بين كبير وصغير، امرأة ورجل، فقير وغني، جاهل ومثقف، قاتل وقتيل…
شيء كالفيروس الذي يصيب القلب، كل قلب لا محالة، ولا تنفع معه مضادات الغرام ولا مقاربات العقل والمنطق…
الوقوع في الحب يعيد خلقنا، فقد يحولنا لشعراء نجيد التعبير وقد يصيبنا بالخرس، قد يمنحنا الحكمة وقد يعيد لنا براءة الأطفال، قد يفقدنا الشهية أو يصيبنا بجوع دائم، ولكن عوارضه الأولى لا تخطئها العين ابتداءً من بريق السعادة في العينين وفراشات البطن الملونة وعزلة العاشق للاختلاء بطيف المعشوق…
الحب لا يشكلنا وحدنا بل يعيد تشكيل المحبوب على مقاس الحب فيبدو متجاوزاً لكل ما عداه، ويأخذنا الخيال للافتتان بأدق التفاصيل، كحفرة الذقن، شامة الخد، نبرة الصوت، وخصلة الشعر الهاربة…
حتى العالم من حولنا يبدو لنا بصورة مغايرة، وكأن لحواسنا الخمس حاسة سادسة اسمها «الحب».. أو كأن الحب يهندس خيالنا ويصوغ قلبنا، ويأخذ منا كل شيء ليمنحنا كل شيء على طريقته الخاصة.. ولكن أين يبدأ الحب وأين ينتهي، وما هو الحد بين الجسد والروح فيه؟
الحب…والرغبة الجنسية:
هل انحرف الدافع الجنسي عن غايته الأصلية أو كفَّ عن بلوغها، فكان الحب؟
أو هل ربط الشهوة الجنسية بالروح والتسامي بها جعل البشر يخترعون الحب وينتقلون من الأسنان إلى الشفاه ومن العضة إلى القبلة؟ ربما يستطيع علم النفس الإجابة عن هذه الأسئلة بشكل أدق، ولكن من الناحية الفيزيولوجية الإنسان قادر على بلوغ النشوة الجنسية وحده من دون شريك أو من دون عاطفة، ولكن مفعول النشوة تلك يزول سريعاً ويصيب الروح بالخواء… بينما النشوة المصاحبة للحب تصيب العاشق بالامتلاء الجسدي والروحي، مما يجعلها شغفاً يستمر بعد الإشباع الجنسي متجاوزاً حدود الجسد والممكن… أما منشأ الرغبة الجنسية في الحب فهو مختلف بين الرجل والمرأة.
وحسب المحلل النفسي الشهير ثيودور رايك: «الرغبة غالباً هي التي تنجب الحب لدى الرجال، أما لدى النساء فالحب هو الذي ينجب الرغبة، وبشكل أكثر دقة فإن الرغبة غير المتحققة هي التي تنجب الحب عند الرجال، وعند النساء ليس الحب ما ينجب الرغبة وإنما التحقق من كونهن محبوبات ومطلوبات»… ويمكننا الذهاب أبعد مما قاله رايك، والادعاء بأن الحب مفهوم أنثوي للجنس أقحمته المرأة كفكرة في عقل الرجل، ولكنه ظل شيئاً مستورداً ودخيلاً على الرجل… ولهذا قد يستطيع الرجل امتلاك المرأة جنسياً، ولكنه لا يستطع امتلاكها عاطفياّ ولا إعادتها إليه إلا بالحب.
الحب… بين التكامل والامتلاك:
هل نقع في غرام من يكملنا وننجذب لما ينقصنا؟ حسب الأساطير اليونانية يقال إن أب الآلهة «زيوس» قسم البشر عقاباً على محاربتهم الآلهة إلى قسمين، وعاشوا بعدها أنصافاً مشوهين، فحاولوا أن يجدوا أنصافهم الأخرى ليتحدوا بها ويتبادلوا معها العناق والحنان، ومن هذا الافتقاد والحنين لما فُقد، ولد إله الحب «إيروس»…
في الحب يسمى العثور على النصف الآخر والتوحد به «الوله»، وهو أعلى مراحل الحب، حيث تذوب الأرواح في بعضها، ويصعب رؤية الحد الفاصل بينهما، ويتخاطب العاشقان بـ: يا أنا، ويصبح فقد الحبيب ألماً مضنياً، يشبه فقد ضلع من الجسد بدون إرادة أو رغبة. ولكن بين هذا الوله الصوفي والامتلاك خيط رفيع جداً… فياء المخاطبة التي ينادي بها المحب محبوبه: «حبيبي»، هي ياء الامتلاك والاستحواذ على الآخر أيضاً… فالحب بحث عن الأنا في الآخر، وانعكاس لصورة العاشق في مرآة المعشوق
أنت حبيبي…وبك يزداد حبي لنفسي…
أنت امتداد لذاتي وإثراء لروحي…
أنت لي …فيا لسعادتي…
ولكن رغم الإثراء العاطفي الذي يشعر به العاشق بامتلاكه للمعشوق، يبقى الامتلاك الأجمل هو امتلاكه لذاته، وأن يعبر بنفسه للآخر ولكن لا يمنح نفسه إلا لنفسه…
فالحب كي يتنفس ويعيش، يحتاج إلى فسحة حرية…فهل من الممكن احتجازه خلف قضبان الزواج مثلاً؟
تعقيم الحب… الزواج:
مقتلة الحب هي عندما تستبدل لحظات الجنون القصيرة بغباء طويل الأمد وباسم مستعار هو «الزواج»… فالحب جنون وتحد شاق للعقل لأنه خارج حدود سيطرته، والزواج في شكل ما هو تقييد للحب ومحاولة لعقلنته وتدجينه. ومما لا شك فيه أن المشكلة الأكبر في الزواج هي في الاحتفاظ بوهج الحب أمام برودة الاعتياد، وفي المحافظة على الفردية في شراكة لا تسمح بالحرية إلا في خطوتها الأولى، الخطوة التي يدخل فيها العاشقان طوعاً وبكامل إرادتهما قفصها الأبدي.
في الزواج نحن لا نحدد ارتباطنا لليوم فقط، بل للغد أيضاً، وهذا ما يجعل الزواج غير منطقي في جوهره، وكما قال الفيلسوف روسو: «لا أستطيع أن أعدك بالحب الأبدي لأنني لا أعرف في المستقبل كيف سأتغير أنا ولا كيف ستتغير أنت».
التناقض بين الحب والزواج هو في أن الحب قائم على نار المتعة، أما الزواج فيقوم على المتعة الهادئة المتفق عليها، وقد تتلاشى تلك المتعة مثل الرغوة عندما ينجح عنكبوت الملل الصامت بغزل نسيجه في أركان القلب، محولاً الزواج إلى مقبرة كئيبة. ولا يبقى حينها للزواج من خلاص إلا بالصداقة، فهي خيار واختيار حر ووحدة تامة بين الارتباط والحرية، فبينما يُعمق الزمن المعرفة وبالتالي الصداقة، يقوم بتعرية الحب من أوراقه. للحب خريفه أيضاً وللحب شيخوخته… وشيخوخة الحب لا شيخوخة عشاقه هي بداية احتضاره وموته.
النسيان… موت الحب:
للحب تاريخ صلاحية وانتهاء، كما للمعلبات والأدوية وكما للعمر… وكما كتب محمود درويش:
«يقول المحب المجرب في سّره:
هو الحب كذبتنا الصادقة
فتسمعه العاشقة وتقول:
هو الحب يأتي ويذهب
كالبرق كالعاصفة»
يذهب الحب عندما يزول السحر ونرى الآخر بلا أقنعة، عارياً وسط العدم وينتهي الغزل والكلام… ونقف فجأة نتلفت حولنا بحثاً عمن أحببناه يوماً، ونكتشف أن الحب وحده صوَّره بهيئة خارقة، وما هو بالنهاية إلا إنسان عادي بكل محاسنه وتناقضاته وعيوبه… سنقف قربه ونقيس طولنا على قامته، ونسأله ألم تكن قامتك أطول في ما مضى؟ وعندما نضحك لسخافة السؤال… نكتشف فجأة أنه لم يكن يوماً مارداً، وأن من ظنناه من شدة الحب ينام واقفاً، ينام في النهاية كالبشر متكوراً على نفسه كجنين ويصدر أصوات شخير… لا ثبات إذن في الحب، حتى أن صورة إيروس إله الحب مجنحة لأن التقلب من صفات الحب، وحتى القلب سمي قلباً لتقلبه… ولكن الخيانة الأكثر خطورة في الحب هي النسيان… ترمومتر الحب بالنهاية هو الذاكرة، فالحب الحقيقي عصي على النسيان، وحتى لو انتهى عمره يبقى أثره حياً في ركن ما من أركان القلب والذاكرة…
ويبقى العاشق يحك موضع الحب في جسده كما يحك الجريح مكان ساقه المبتور.
وكثيراً ما يشبه الحب بالحرب، فهو يسهل البدء به ومن الصعب إيقافه ومن المستحيل نسيانه، ومع ذلك لا شيء يضاهي بساطة الوقوع فيه من جديد…
بساطة تشبه أجمل ما قيل عن الحب، للشاعر رياض الصالح حسين، والذي سرقه الموت باكراً جدا، قبل أن ينهي قصائده عن الحب:
«غداً ماذا سيحدث لي؟
أقذف قطعة نقود في الهواء وأضحك…
إذا كان نسراً سأحيك
إن كانت كتابة سأحبك أيضاً»
وهكذا نستمر في الحب، مهما كذب الحب باسمنا ومهما تألمنا باسمه …
نحب…نموت حباً…نولد من جديد…ونحب….
__________
*القدس العربي