أنوار طاهر*
خاص ( ثقافات )
يدفعنا النظر إلى عمق الهاوية التي ينحدر فيها الواقع العربي، علاوة على خطابنا الثقافي الأيديولوجي إلى حد النخاع، نحو البحث في قضية الترجمة الشائكة والمعقدة للغاية، ومساءلة طبيعتها اللغوية والمنطقية الإشكالية إلى حد كبير في خطابنا الفلسفي والثقافي على حد سواء. هذا الخطاب الذي يعكس بالضرورة المنحى العام للمشاريع المؤسساتية الداعمة للترجمة بشكلها المطروح في الوقت الراهن تحديداً. فعلى الرغم من الارتفاع الملحوظ في نسبة المطبوعات من النصوص المترجمة عن اللغات الأجنبية، والتي غالبا ما تفتقر إلى رؤية فلسفية واضحة تساعد كل من المؤسسة والمترجم على قراءة وتحديد ما يحتاجه المتلقي العربي من موضوعات هو في أمس الحاجة إليها في الأزمنة المظلمة -حسب تعبير أرندت- والمأزومة التي يعيش ويلاتها كل يوم. ولم نشهد مع العملية الراهنة في اختيار عناوين كتب ومؤلفات أحدثت خلال فترة إصدارها من القرن الماضي تحولات سياسية/ وثقافية كبيرة وواسعة شملت مجالات الفكر والحياة الإنسانية في آن واحد، أي أثر يُذكر ولم يُسمع لها أي صدى في البؤر القارة في طيات ذاكرتنا المعطوبة، بل ولا لم تُحدث أدنى خلخلة في السد المتعالي للمنظومة اللغوية الراكدة والمتطابقة مع مسلماتها الأولى بشكل كلي.
وهذا بالضبط ما يدعونا إلى طرح السؤال حول المعنى “المفروض” والمطلوب مؤسساتياً من فعل الترجمة خاصة؛ والمعنى الثقافي المقصي الذي يحيل له فعل الترجمة عامة؟ وهل هو معنى متعين داخل السياق التاريخي العربي المتحول أم يقع خارج منطق الصيرورة التاريخية منذ الأصل؟ هل يتلازم عندنا فعل الترجمة مع أفعال التفكير المؤسس على التحاور البينذاتي والتأويل والابتكار والتي يصاحبها بالضرورة حدوث منعرجات مفصلية في قواعد علم النحو وفلسفة البلاغة والمنطق؟ أم ما زال هناك حالة من العزلة والانفصال التام بين كل من: الترجمة وفلسفة البلاغة والخطاب الثقافي؟ وهل نتوفر على “نظرية للترجمة” تجمع بين المفهوم والمنهج والبراكسيس؛ وبين الثقافة والسياسة، أم ما زالت الترجمة تقع تحت وصاية الأنموذج التقليدي السلفي؟ وهل هناك ثمة انفتاح ثقافي جاد نحو الآخر أم حالة استنفار عالية للقوى الارتكاسية المتوفرة عليها مؤسساتنا الجامعية والثقافية بكثرة على تعزيز ثقافة العداء والكراهية والحقد ليس للذات وهويتها الهرمة بل وللثقافات المختلفة آخر ملاذ يمكن أن يتحقق من خلاله عملية مثاقفة وتحول وتجديد ليس على طريقة “دعاة التجديد السلفي” المغرق في تشويه أدبيات التراث العربي وتحريف المفاهيم وتكميم الأفواه وغلق باب السؤال والتفكير والاجتهاد الإنساني الإبداعي؟
الترجمة: من أيديولوجيا الخيانة إلى جينالوجيا التأويل
تلك الأسئلة الإشكالية وغيرها الكثير تساعدنا على الكشف عن بعض آثار مومياء أنطولوجيا الجوهر الأحادي/ الخطاب الهوياتي التي تتحكم في إنتاج انموذج محافظ أرثوذكسي يضمن إمكانية إعادة ولادة نسخ عديدة من هذا الأنموذج رغم ظهوره في عناوين متعددة وتحت أسماء/ يافطات ثقافية وطبعات مختلفة. وأحد أهم الأسباب التي عززت من هيمنة هذا البرادايم المسيطِر في عملية الترجمة، والذي أدى إلى نتائج وخيمة على كل الأصعدة في واقعنا اليومي وخطابنا الثقافي، هو المباركة المتواصلة على الدوام لأحد أكثر الأخطاء الشائعة في الترجمات العربية والتي تحولت/ وما زالت تتحول بدعم مؤسساتي ضخم إلى واحدة من البديهيات والحقائق الصائبة صواباً مطلقاً لا يمكن الشك فيها وغير مقبول النقاش والسؤال عن مدى صحتها ودرجة فاعليتها على أرض الخطاب الثقافي/ واليومي من خلال العودة إلى جينالوجيا تاريخ المفاهيم وقراءة صفحات تدوينها الأولى ومعرفة أصول دلالاتها القديمة والحادثة ومرجعياتها الأصيلة والدخيلة.
فهناك الكثير من الأخطاء المتراكمة في أغلب النصوص المترجمة والتي تكفي نظرة بسيطة على حال اللسان العربي اليومي قولاً وممارسة اجتماعية مضطربة على الدوام؛ علاوة على الأسلوبيات الأكاديمية النمطية والمرضية المعتمدة، لنتعرف عن قرب أكثر على عواقب تلك البديهيات الفصامية التي خلفتها أغلب الترجمات التي أصبحت هي الأخرى من ضمن النصوص المعصومة والتي لا يجوز المساس بها عبر نقدها وإعادة قراءتها ومساءلة مدى صحتها وفاعليتها فهذه من المحظورات بالطبع!!
ومن أهم تلك الأخطاء، الاقتصار على تبني المعنى الفرنسي لمصطلح الترجمة لتكون معادلة للخيانة [traduire=trahir=infidélité] والإهمال الواضح للمعنى الآخر المشتق من اللغة اللاتينية حيث تكون الترجمة وفقاً له معادلة للانكشاف [traduire=révéler=dévoilement]. وحسب المعنى الأول تكون العودة للتقليد بهدف المحافظة والامتثال لجميع مسلماته وحقائقه المطلقة والتقيد بها دون الحياد عنها قيد أنملة، وهذا ما يمثل الاتجاه الفرنسي. أما المعنى الثاني فهو يسعى من خلال العودة إلى التقليد إلى إعادة التفكير بمجمل التاريخ الدوغمائي للأفكار المتضمنة عليها الأبنية المنطقية واللغوية واللسانية بهدف تقديم قراءات وتأويلات جديدة تتوافق مع السياق الثقافي في كل حقبة تاريخية معينة، حتى أن الفيلسوف هايدغر لطالما أكد على أن الترجمة تعادل عملية ولادة فعل التفكير من جديد بإحداث تلك الصدمة مع ثقافة الآخر/ مع منظومته اللغوية والدلالية والثقافية. بمعنى آخر، أن تأسيس نظرية جديدة في الترجمة يشكل مقدمة راديكالية أساسية في كل عملية تحول ضرورية في المنظومة اللغوية والمنطقية والبلاغية، والتي تتلازم مع إنتاج نظام من العلامات مختلف تماما عن البرادايم التقليدي السائد، وبالتالي سيؤدي إلى انبثاق إمكانية التفكير بعدما جرى وأدها بين ثنايا وطيات العقل العربي المأزوم منذ زمن بعيد.
إشكالية الترجمة بين فلسفة البلاغة والسياسة
لكن، هل في الإمكان تحقيق ذلك في ظل السيطرة المحكمة للغاية للمؤسسات العابرة للحدود والمتداخلة مع قوائم عديدة من الأسماء اللامعة في سماء الثقافة والذين أصبحوا يشكلون مجالاً من مجالات الاستثمار المالي؟ وهل هناك ثمة توجه حقيقي نحو التحرر من الحاضنة اللغوية ومساءلة مجمل تقنياتها الحجاجية وفق منهجية فلسفية بلاغية نقدية جادة، هذه التقنيات التي ما زالت تعمل على تشكيل/ وإعادة تشكيل البعد القيمي والتعميمي للقيم المتوارثة والمتهالكة في عمق أعماقها؟ وهل هناك ثمة رؤية محددة لبناء إنسان قادر على التفكير وإنتاج الفعل والقرار أم أن هناك عملية متكاملة يساهم فيها النخبة المختارة في تدمير وتخريب وتعطيل مجمل هذه الملكات والقدرات الإنسانية الخلاقة؟ وهل بقي لنا ثمة إمكانية للحديث عن موروث أصيل غير مشوه الملامح؛ أو عن حاضر مسلوب في الأصل أيضاً؛ أو حتى عن مستقبل لا يمثل أكثر من وجود نحو المَوَات؟
وهنا، علينا أن نتوقف قليلاً لنتساءل حول العوامل التي أدت إلى فرض أنموذج هوياتي متطابق مع التقليد حيث تتصاعد خطابات الغلو والتطرف والسلفية في الترجمة والبحث والكتابة، لدرء أي محاولة تهدف إلى خيانة الموروث والحياد عن الحقائق المطلقة من خلال فتح باب القراءة والتأويل الذي لا يؤدي بالعقل العربي إلا إلى التهلكة؟ ولماذا لم تشكل المشاريع المؤسساتية في الترجمة العربية أي صدمة في العقل العربي تحفز فيه شرارة التفكير والسؤال والنقاش لننتقل من مرحلة المَوَات الإنساني إلى مرحلة اكتشاف الوجود الإنساني العربي الغائب والمغيب، هذا الوجود الذي لا يمكن له أن ينبثق حضوراً فاعلاً في المجتمع ومساهماً في تشكيل خطاب سياسي ديمقراطي تعددي ما لم يتم تفعيل إعادة تشكيل المنظومة اللغوية والمنطقية والبلاغية من جهة؛ والقيّمية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية؟ ولماذا ثمة استبعاد وإقصاء لمجمل المحاولات الفردية التي تصب في هذا المسار النقدي الراديكالي، وثمة اهتمام ودعم مؤسساتي وبلا حدود لجميع الترجمات التي تتلاءم والتطلعات الأيديولوجية للأنموذج الهوياتي الأحادي المتطابق؟
يتضح إذن أن عملية الترجمة غير منفصلة عن السياق التاريخي وتشكيل الخطاب الثقافي وعن إعادة رسم خرائط لغوية ودلالية وذهنية وإدراكية واجتماعية جديدة، أي بناء تصورات ورؤى مغايرة للذات والآخر والعالم من حولنا. وهذا ما يتناقض تماما مع جميع الخطابات القيمية والأخلاقية والتربوية والتعليمية والجامعية والاجتماعية والثقافية والسياسية السائدة والمسيطرة حتى اللحظة الراهنة. إذن، كيف يمكن أن تنشأ نهضة ثقافية جديدة في عالم الترجمة تماثل البدايات الأولى لنهضة الخطاب الثقافي العربي في القرن الماضي وتنطلق نحو تشكيل خطاب ثقافي جديد؟
*باحثة ومترجمة من العراق-مختصة في الدراسات الفلسفية والحجاجية
انصح بالاطلاع على كتابي فلسفة الترجمة https://www.jarir.com/arabic-books-543101.html