*محمد الأسعد
يُرجع باحثون من أمثال «رتشارد اتنغهاوزن» نشوءَ فن التصوير عند العرب إلى ما يسمّونها القرون الوسطى، أي العصور الممتدة، حسب رأي بعضهم، من الربع الأخير للقرن الخامس الميلادي وصولا إلى القرن الخامس عشر، أو إلى منتصف القرن السابع عشر حسب رأي بعض آخر. وينسب، هذا النهجُ في التأريخ، إلى أوروبا كلَّ ما حدثَ ويحدث في مناطق العالم الأخرى، أو ربما كلَّ ما سيحدث في المستقبل، من دون اهتمام بما إذا كان ما يسمى القرون الوسطى، بما حملته من عتمة وتأخر علمي وفني واجتماعي، يمكن ألا تكون بصفاتها هذه هي ذاتها قرون وسطى في أمم أخرى. بل ويُرجع بعضهم ظهورَ العرب كاسم فقط إلى مدونات آشورية تحدثت عن من أطلقت عليه اسم «جندب العربي» في منتصف القرن السابع ق.م. ولهذا تبعاته بالطبع، لأن الحضارات التي قامت في عدد من بلدان الوطن العربي خلال ما يسمونه التاريخ القديم (ما قبل الميلاد وصولاً إلى القرن الخامس الميلادي )، بفنونها وآدابها وعقائدها وعمائرها.. إلخ، لا تحسب عادة، حسب نهج التأريخ الغربي السائد، منجزات تقع في الحضارة العربية/الإسلامية، بما في ذلك فن التصوير. أعني بذلك منجزات الإمبراطوريات العربية الكبرى، بتعبير الباحث الفرنسي «بيير روسي» في كتابه «مدينة إيزيس.. تاريخ حقيقي للعرب» (1976)، تلك التي يطلقون عليها بابلية وآشورية وكنعانية وآرمية ومصرية قديمة.
هذا موضوع متفرد لم يُقيض له من يتناوله حتى الآن إلا في جوانب محدودة، لغوية وتاريخية وثقافية عامة، ولسنا بصدد بحثه هنا، ولكن يكفي أن نشير إلى أنه في بحث موضوع فن التصوير عند العرب، لا يمكننا أن نتنكر على الأقل لما كشفت عنه آثارُ «قرية» المنسوبة إلى مجرى قناة الفاو تمييزاً لها عن بقية القرى المجاورة، قرية هذه التي كانت عاصمة لدولة «كندة» بين القرن الميلادي الأول والقرن الخامس، وتبعد 280 كم إلى شمال شرقي نجران على حافة الربع الخالي، كشفت التنقيبات عن لوحات جدارية ملونة في بعض قصورها، ورسوم على صخور الجبال القريبة منها، واستخرج المنقبون من أحيائها الداثرة تماثيل معدنية وحجرية وخزفية، بالإضافة إلى المسكوكات والنقوش الكتابية، أي تم الكشف عن «قرية» ذات مستوى حضاري لافت للنظر، بعد زيارات لموقعها منذ أربعينات القرن العشرين من قبل رحالة غربيين درسوا بعض نقوشها وكتاباتها المنتشرة على سفح جبل طويق المطل عليها من الجهة الشرقية، وكانت نتائج التنقيبات المنظمة التي بدأت منذ العام 1972 مدهشة بما كشفت عنه من فنون تصوير وكتابة لم تكن معروفة، رغم اهتمام الجغرافيين العرب بها اهتماماً محدوداً أمثال البكري في معجمه والهمداني في كتابه «صفة جزيرة العرب».
هذا الوجود الحضاري، بوجوهه الفنية بخاصة، شأنه في ذلك شأن الوجود الحضاري البابلي والآشوري والكنعاني والمصري القديم، يحتاج إلى بحث يقيم الصلات الواقعية بين أجزاء هذه الينابيع التي رفدت، مع ظهور الإسلام، الحضارة العربية/ الإسلامية.
بين يدينا الآن علامات على فن التصوير العربي في المرحلة الإسلامية، وهي علامات وافرة رغم التدمير الذي حل بآثار هذه الحضارة على يد الغزاة من مغول وفرنجة بدءاً من القرن الحادي عشر حتى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر. واحتفظت بهذه العلامات القصور الداثرة مثل قصر «قصير عمرة» و«قصر الحير» و«خربة المفجر» في بلاد الشام، والمخطوطات الأدبية والعلمية التي قام فنانون بتزويقها وتزويدها بالرسوم الإيضاحية في عدة مراكز مدنية، بالإضافة إلى ما احتفظت به قبة الصخرة في القدس من صور نفذها فنانون معماريون باستخدام الفسيفساء الملونة، وما احتفظ به المسجد الأموي من نقوش وصور أصاب التلف بعضها بسبب الزلازل والحرائق، ومع ذلك يشير ما تبقى منها إلى ثروة فنية كانت مزدهرة في يوم من الأيام.
على جدران القصور المشار إليها، وفي زخارف المساجد، في العصر الأموي، ثم مع ازدهار صناعة الكتاب في العصر العباسي، يتوالى ظهور التصوير العربي في مرحلته التاريخية الإسلامية، ويتواصل إلى عصور لاحقة. وتكشف النظرة الشاملة، سواء إلى الجداريات البارزة في القصور الأموية، والتي تصور أشكالاً آدمية وحيوانية ومشاهد صيد وسمر، أو إلى فسيفساء قبة الصخرة والمسجد الأموي بأشكالها النباتية وزهورها، أو مشاهد البيوت والأنهار، عن أن هذه المنتجات الفنية على الجدران وعلى صفحات المخطوطات، إنما هي نتاج انصهار تراث هائل متنوع لأشكال الفنون السابقة على الإسلام، واللاحقة له. أي أن ما لدينا هنا هو تبلور عناصر ورثها الفنان العربي من حضاراته السابقة، وظهورها بأساليب جديدة تحمل مميزات خاصة بهذا العصر الذي شهد حضارة إمبراطورية مترامية الأطراف، جمعت بين أطراف المكان الممتد من نهر الهندوس شرقاً إلى نهر التاج في الأندلس غرباً.
وحتى بعد تساقط العواصم العربية وتحلل السلالات الحاكمة، ظل تأثير هذه الفنون سارياً في البلدان العربية والإسلامية، بل تجاوز ذلك إلى بلاطات أوروبية كما كانت الحال مع بلاط النورمنديين الذين حكموا صقلية، واحتفظوا بالعربية، لغة وثقافة وتقاليد زمناً طويلاً. وتشهد على ذلك زينة سقف كنيسة «الكابلا بلاتينا» التي بنيت في العام 1140م، وقد اشتقت رسومها التصويرية من فن سامراء العباسية.
في التفاصيل، يمكن القول إن العناصر الواضحة في فسيفساء المساجد، قبة الصخرة والأموي، هي عناصر مستمد من الفنون السابقة، بيزنطية ورومانية، إلا أنها عناصر تم تكييفها وفق متطلبات رعاتها، أي الحكام المسلمين، والأمر نفسه يمكن أن يقال عن اللوحات الجدارية، وما تم تصويره على الخشب والجلود والورق والزجاج، ولم تكن رسوم الحيوان والإنسان ممنوعة منعاً باتاً، وخاصة إذا رسمت على بسط وأرضيات يمكن المشي فوقها، أو على وسائد وأرائك يمكن الجلوس عليها، أو رسمت في أماكن لا تعتبر هذه الرسوم فيها ذات مكانة متميزة مثل الحمامات. صحيح أن آثار المعتقدات القديمة بالعلاقة بين المخلوق وصورته المرسومة كانت لا تزال شائعة إلى حد ما، إلا أن النضج العقلي ساعد على التخلص من هذه المعتقدات. ولم يعد هناك من يعتقد أن رسم صورة حيوان أو طائر أو إنسان يعني الاستيلاء عليه، كما اعتقد ذات يوم أحد سكان أمريكا اللاتينية حين رأى رساماً يرسم قطيعاً من الثيران أن هذا الرسام أخذ كل القطعان، ولم يعد هناك ثور يمكن لقبيلته أن تصطاده.
ويخطر لنا هنا أن نقدم تعليلاً لوجود فكرة عبادة الأوثان، فهذه الفكرة هي نتاج المعتقد البدائي الذي يربط الشخص أو الشيء بصورته، كأنها تقوم مقامه، ويربط حتى الاسم بما يسميه، فتصبح للصورة أو التمثال أو الاسم كينونات تتماهى مع ما تصوره أو تجسده أو تحمل اسمه. وأعتقد أن نضج العقلية الحضارية العربية/الإسلامية يقف وراء التخلص من هذا المعتقد الخرافي، فما عاد الإنسان المسلم يماهي بين الشيء وصورته، أي لم يعد يعتقد أن المصور يستولي على إنسان أو حيوان إذا صوره، أو أن المصور يمارس «الخلق» على وجه الحقيقة.
هذا الوعي بالفرق بين المخلوق والصورة، ليس سوى سبب واحد من أسباب شيوع التصوير، فلا يجب أن ننسى تراث الحضارات العربية التي سبقت الإسلام، ففي ظل تلك الحضارات سادت عادات وتقاليد فكرية زمناً طويلاً، جاء الإسلام فاستأصل بعضها ولم يستأصل التصوير، ولم يعد هناك مبرر للتمسك بالتحريم، فليس هناك فنان يتشبه بالخالق، أو إنسان يحمل ذلك المعتقد الخرافي فيعبد صورة أو تمثالا. أضف إلى ذلك أن حماة الرسامين كانوا من الطبقة الحاكمة صاحبة السلطة، وكانت الكتب اليونانية الطبية والزراعية المترجمة تحتوي على رسوم إيضاحية مفيدة، وبكلمة مختصرة كانت أنوار العقل هي التي بدأت بالانتشار، ومعها بدأت تنتشر فعاليات حضارة في كل نواحي الحياة.
لم يبلغ فن التصوير العربي ذروته إلا في عصر ازدهار صناعة الكتاب، بين أوائل القرن الحادي عشر ومنتصف القرن الثاني عشر الميلاديين. وكانت رسوم كتاب «المقامات»، وأشهرها مقامات الحريري، نموذج هذا الفن، ومن خلال نسخها التي توزعتها مكتبات في مدن مثل باريس وبيترسبورغ وإسطنبول، عرف المختصون بوجود أشهر رسامي المقامات «يحي الواسطي» الذي أنجز عمله في بغداد. ولأن أحداث هذه المقامات القصصية وقعت في أماكن متعددة ومتنوعة، فقد وفرت الرسوم مدخلا بصرياً إلى الحياة في الوطن العربي، الحياة اليومية بكل ما حفلت به من مظاهر. قبل ذلك كانت الصور ذات أفق بلاطي، وأعمال الفنانين تكرس لخدمة منشآت الحكام أو المرافق العامة مثل المساجد والخانات وبيوت الأثرياء، ولكن مع المدرسة البغدادية، حيث أنجزت غالبية أعمال التصوير هناك، نجدنا أمام تيارات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية.. إلخ، وقد عكستها صور بأسلوب واقعي، ذات طابع جمالي يضعها في مصاف المنجزات الإنسانية الكبرى.
في هذه الصور ينقل لنا الرسام، مهتدياً بقصص المقامات، حدثاً يقع في مسجد، أو مكتبة أو سوق أو خان أو مقبرة، أو في مخيم صحراوي أو جزر شرقية. ونصادف بين حين وآخر، وأيضاً بوحي من قصص المقامات، بلاط أحد الحكام وقصراً، وغرفة للدرس، ونشاهد سفينة على وشك الإقلاع، وفرساناً ينطلقون في الصحراء، أو يتجمعون بأبواقهم وآلات عزفهم للاحتفال بمناسبة العيد، ونشاهد قافلة تتخذ طريقها إلى الأماكن المقدسة. وكل ذلك بأسلوب واقعي مدهش لا يكاد يترك شاردة أو واردة إلا ومثلها فوق أوراق المخطوطة. وتمتلك بعض رسوم المقامات سمات دالة على أساليب رسم ذات صفات تعبيرية خاصة بشخصية الفنان صاحب الرسم.
ويعتقد بعض الباحثين أن عدم اكتشاف العدد الكافي من المباني الأثرية، أو المخطوطات المصورة، هو الذي منع حتى الآن تقديم صورة واضحة لمسار تطور هذا الفن تاريخياً. ومع ذلك لم يمنع هذا النقص المعنيين من الإحساس بقيمه الجمالية، ومتابعة تأثيره في مدارس الفن الحديث غرباً وشرقاً حتى الوقت الراهن.
_______
*الخليج الثقافي