البطالة السياسية والاستنقاع الثقافي


*خيري منصور


بدءا أعترف بأنني أفدت من كتاب «العنوان في الثقافة العربية» لمحمد بازي الذي طرق هذا الباب بسؤال تحول منهجيا إلى مساءلة، فالعناوين قد تكون مثل التسمية هدفها التضليل، وما أعنيه بالبطالة السياسية والاستنقاع الثقافي هو هذا المناخ المُشبع بالريبة، والمبثوث في كل تفاصيل النسيج الاجتماعي العربي، وغياب تداول السلطة أفضى بالضرورة إلى بطالة مغطاة بطقوس بترياركية موسمية، حيث لا معنى أو جدوى من أي حراك محدد السقف مسبقا، وأقصى ما يهدف إليه هو الترميم وليس الإصلاح كما يقال، وشتان بين المصطلحين، أما الاستنقاع الثقافي فهو ركود وتلوث وخمول، يتيح للطفيليات أن تطفو، بلا جذور، وتنعطب البوصلة بحيث يتعذّر تحديد الجهات، وتتدنى المعايير إلى الحدّ الذي يتيح للذبابة أن تحوم حول كفل الحصان حسب تعبير شهير لتشيكوف، كي تقول له بأنها أيضا كائن حي، وقد تلدغه ويكون عجزه عن ردعها ليس مهارتها، بل فائض قوته، لأنها أصغر من أن يعضها أو يرفسها، تماما كما فعل الإله أندره في الأسطورة حين اشتبك مع الشيطان، الذي كان سلاحه هو أنه غير مرئي، مما اضطره إلى الاختباء في ساق زهرة لوتس. 
البطالة السياسية قد ترتدي أقنعة أيضا ككل البطالات، بحيث يكون الزحام مجرد إعاقة للحركة، أو كما قال الشاعر الذي كان يفتح عينيه على كثير ولكنه لا يرى أحدا. وكلما تفاقمت البطالة السياسية ازدهرت الأقنعة المزخرفة وكثرت المناسبات الوطنية المفرطة في الغلو تعويضا عن مفقود أصيل، هو المواطنة بأدق تعريفاتها المدنية الحديثة. والبطالة السياسية محكومة بالنمو الدائري والعودة دائما إلى أول السطر، لأن أبطالها بيادق يعاد ترتيبهم حسب الحاجة، ما دامت المعادلة العرجاء هي أولوية الولاء على الكفاءة، ولو أحصى حاسوب عربي، حتى لو كان محدود الذكاء، خسائر العرب جراء هذه المفاضلة بين الولاء والكفاءة لكانت الحصيلة فاجعة، لكن فائض البطالة لا يسمح حتى بمثل هذه المراجعة، وقد تعيدنا مفردة الاستنقاع قدر تعلقها مجازيا بالثقافة إلى ذلك الاستنقاع الذي يتعرض له الماء الراكد، إذ يُروى عن الإمام محمد عبدة أن اعترض ذات يوم على من يتوضأون بالماء الراكد ذاته، واقترح عليهم الوضوء من صنبور للماء، لكنه قوبل بالشجب لأن ما يقوله بدعة، واضطر الرجل إلى تبرير اقتراحه بالعودة إلى مرجعيات منها ابو حنيفة ووجد أنها تبيح ما يريد، ومنذ ذلك اليوم اطلق اسم الحنفية على صنبور الماء.
وثقافتنا العربية الآن إذا جاز لنا استخدام مصطلح الثقافة العربية وهي المشوبة بأخلاط لا آخر لها من النقل والمحاكاة والترجمة بأسلوب التعريب فإن السائد فيها هو الماء الراكد، ولأن النقد أيضا يعاني من بطالة فهو لا يمارس دوره التقليدي في الفرز والتفريق بين الحافر والحافر، خصوصا بعد أن أصبح ما يسمى التناصّ تلاصّا السطو فيه مسموح والدفاع عن النفس مكروه. 
إن العلاقة جدلية بين البطالة والاستنقاع، فهما يتغذيان من بعضهما كما تتغذى الطفيليات من حاضنات مائية راكدة، ولكي ندرك كيف حدث هذا التأقلم مع الظاهرتين، لا بد من استخدام ما سماه برنارد شو عقدة اللااستحقاق، وهي لم تدرج في قائمة العُقَد الفرويدية على هذا النحو المباشر. 
من يعانون من عقدة اللااستحقاق لا يستشعرون ما يقع عليهم من استبداد وينطبق عليهم بدقة ما قاله جان جاك روسو عن الشقاء، فهو لا يفضي إلى التمرد أو الثورة، بل الوعي به، واللااستحقاق المُزمن لأسباب تاريخية يحرم ضحاياه من هذا الوعي.
وكما أن البطالة السياسية تهجع أحيانا تحت سطح يعجّ بالكرنفالات والمناسبات البروتوكولية، فإن الاستنقاع الثقافي قد يهجع تحت سطح يعج بدور النشر والصحف، ووسائل التواصل الحديثة، بحيث تكون الكثرة قليلة بمقياس نوعي، خصوصا أن الثقافة عبر تاريخها كله لم تكن رهينة الإكثار أو التراكم الكمي، مما جعل كتابا واحدا أو قصيدة يتيمة أو رواية يعيد الاعتبار لمصطلح الإنجاز المفترى عليه، كما يقول الناقد فلاتشر، وما ترسب لقرون من البطالة السياسية لم يكُن عابرا، بل أفرز عادات ذهنية وأساليب تفكير قد تعيش طويلا حتى بعد زوال أسبابها، وهذا ما حدث أيضا في الثقافة، فهي تعاني من مديونيات ما من سبيل إلى تسديدها في المدى المنظور، سواء على مستوى ترجمة الثقافات الأخرى والحوار معها، أو التعبير الحرّ عن الذات الجريحة كما يسميها علي زيعور، أو المبتورة كما يطلق عليها داريوش.
إن التوصيف ليس ميسورا فقط للهواة، بل هو الآن ملقى على الأرصفة لمن يشاء التقاطه، لكن الذهاب إلى ما هو أبعد والكشف عن السّبب لإبطال العجب هو المهمة الجذرية للمثقف إذا أعلن العصيان على الاستنقاع وقرر الموت من الظمأ إذا لم يكن أمامه غير الماء الراكد الذي تطفو فيه الطحالب على السطح لخفّتها وانبتات جذورها.
وما نخشاه هو التحالف حتى لو كان عن غير قصد بين البطالة السياسية والاستنقاع الثقافي، لأنه في نهاية المطاف تطوير وتصعيد لما سماه هربرت ريد التحالف غير المعلن بين الكاتب الرجعي وقارئه، تماما كما هو بين الكاتب الحقيقي وقارئه الحصيف.
____
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكتابة الابداعية كما أراها: 23 خلاصة تصلح للكاتب الجديد والمحترف

الكتابة الابداعية كما أراها:  23 خلاصة تصلح للكاتب الجديد والمحترف*  يحيى القيسي   بدأتُ الكتابة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *