مفيد فوزي*
على مر العصور، يظل الإنسان هو الشغل الشاغل مهما أبحر في دنيا السياسة والعمل العام ويستوى في الأمر رجلاً أو امرأة، فالبيت هو ظهير الرجل أو المرأة، كلاهما يخرج من بيته سعيداً أو تعساً، أياً كان موقعه، فالخفير والوزير يعرفان الغضب والعتاب والصفح، وكل منهما على طريقته، وحكى لي طبيب مشهور فوائد الزواج من أجنبية «إنها لا تتقمّص – كالمصرية – شخصية وكيل النيابة»، وسمعت من أحد رؤساء وزراء اعترافه «أن البيت عامل رئيسي في حسن أدائي أو رداءته»، وقال لي مدير شركة أجنبية كبيرة في مصر «لقد تغيرت معاملتي تماماً لكل موظفي الشركة بعد الطلاق من زوجتي التي كانت تنغص حياتي»، هذه الاعترافات تعكس أهمية البيت في حياة الناس، فالوزيرة الهمامة هي في نهاية الأمر امرأة ومن الممكن أن يغضبها الزوج وتبكي قبل أن تهم بالنزول وركوب سيارة الوزارة والحرس المرافق! إن الحياة الخاصة لأي إنسان، رئيس وزراء أو سائق لوري تدخل في حياته العامة شاء أم أبى. ومن رأي عالم الاجتماع د. سيد عويس أن البيت المريح يخرج منه إنسان «مرتاح» سواء كان محافظاً أو سفيراً أو عامل رخام في منجم. من هنا كانت الكتابة عن هذه المؤسسة الزوجية ضرورة لأنها في عمق السياسة والعمل وقد لا ندري، ولأن هذه المؤسسة- على حد وصف د. أحمد فؤاد الأهواني عالم النفس- عامل تقدم ونجاح وربما من أهم أسباب الانهيار الشخصي!
2
إن أكبر عدو للزواج هو الملل، فالإقامة الطويلة في مكان واحد تقتل الود وتغتال البسمة، والملل قادم قادم وهو من سمات الزواج ما لم يتنبه الزوجان للقضاء عليه وهزيمته والأسرة الأوروبية تنجح في إزاحة شبح الملل، في الوقت الذي تفشل فيه الأسرة الشرقية، الملل جزء محوري في مؤسسة الزواج. ويقول جبران خليل جبران: «لتكن بينكما فسحة من الوقت يجدد الشوق» وقصيدة نزار الشهيرة «أسألك الرحيلا لصالح هذا الحب» والحس الشعبي يقول «ابعد حبة تزيد محبة»، فأخطر ما يتعرض له الزواج أن الزوجين «لازقين في وش بعض» هذا الالتصاق ليس حباً بقدر ما هو تملك وغالباً ما تلجأ إليه الزوجة للمحافظة على الزوج من وجهة نظرها، وهذا الالتصاق المنفر تلجأ إليه زوجات الطبقة المتوسطة باعتباره موروثات قديمة عن أقوال الجدات التي تنصح بالإنجاب المبكر «يشيل الهم ماتزوغش العين»، صحيح أن الله عز وجل جعل من الأولاد سيناريو إلهياً لتجميل المؤسسة التي هي في ذاتها مرتبطة بالسأم والمسؤولية، وصحيح أن الخلافات الزوجية هي ملح الحياة والعتاب محطة جميلة، ولكن قطار العتاب قد يمضي إلى الصدام ويحدث الطلاق والقرار يتوقف على العقول والنفوس، لكن «الطلاق» شاع بشكل مخيف في المجتمع.
3
كان الدكتور زكي نجيب محمود يحذرنا في العلاقات الإنسانية من «النقار»، والنقار هو التلاسن بين الزوجين في شبه حرب باردة تنتهى غالباً إلى صراع عضلي، وهذا أسوأ ما في مؤسسة الزواج لأن النقار هو دغدغة لنقط ضعف كل طرف، وهناك من كلمات النقار ما له خاصية الموسى الحاد النصل، وهناك كلمات نقار أشبه بطلقات الرصاص عندما تنطلق من الفم لا تعود. إن الغضب العادي في مؤسسة ال زواج يهون وقد تبدده كلمة جميلة أو مجاملة رقيقة فيذهب الغضب ويعود الصفاء، ولكن أخطر أنواع الغضب ما كان مخزوناً في الصدر لوقت طويل ويؤدى تراكمه إلى الانفجار، والزوج الذكي هو الذي يسعى بفتح صنبور الغضب ليقل المخزون ويمنع الانفجار، بيد أن هذه الانفجارات ربما كانت وسيلة لإعادة العلاقة الزوجية إلى طبيعتها، الأمر يتوقف على مدى ثقافة الطرفين الإنسانية، والثقافة الإنسانية هي الخصال الخاصة للإنسان مثل السماحة وقبول الاعتذار والقدرة على ضبط النفس، أما الثقافة العامة فربما كانت عاملاً في الاشتعال. يحكى لي صديق محام تزوج من دكتورة رياضيات وفلسفة ويؤكد أن علمها الوفير سبب الشقاء في البيت، وقد انتهت العلاقة بالطلاق بعد ثلاثة أولاد إثر عبارة غاضبة قالتها الزوجة الحاصلة على دكتوراه في الرياضة والفلسفة: «يا ريتني اتجوزت مستشار أو قاضي أو رئيس محكمة»، باختصار، لقد شعرت الزوجة أن قرينها ليس في المستوى العلمي لها وبدا النقار أسرع وسيلة للهدم.
4
كيف نهزم الملل؟ كيف نهزم الرغبة في النقار؟ كيف لا يمضي قطار الغضب إلى الصدام والطلاق؟ إن هزيمة الملل أو النقار أو الصدام لحد الطلاق تحتاج إلى «مرونة» في العلاقة بين الزوجين، والمرونة هي صداقة بين الطرفين وقلما توجد إلا بين طرفين يملكان استقلالاً اقتصادياً، أما المرأة التي تعيش مع زوج ينفق عليها وعلى أولادها فهي ميالة لقبول الأمر الواقع بكل سلبياته ومراراته، أما المرأة المستقلة اقتصادياً، فالأمر في يدها ولا تخضع لابتزاز. كثيرون يقولون إن العلاقات الحميمة ضمان لاستمرار العلاقة في مؤسسة الزواج، وقد ثبت خطأ هذه النظرية في زمن تشابكت فيه المصالح فأضحى الجنس وحده لا يبنى حياة، فربما يمارس زوجان كارهان العلاقة الحميمة دون مشاعر وتصبح عملية روتينية: نعم، الجنس وحده ليس وتداً لخيمة المؤسسة، فلابد من الحب والمشاعر، وكم من بيوت مغلقة على أصحابها وفيها كل طقوس الزواج بلا مشاعر، كم من بيوت داخلها طلاق صامت لا يفصح عن نفسه من باب الوجاهة الاجتماعية ورأى الناس، كم من بيوت مغلقة ووراء كل باب حكاية، بعضها صراعات وبعضها تذمر أولاد على حياتهم وبعضها صمت ووحدة ثلجية، من مجموعة هذه البيوت يأتي معنى الحياة في صورها، إن القادرين على هزيمة الملل هم «القادرون» على السفر وتغيير نمط الحياة اليومي وينجحون في النجاة من السأم، والقادرون على هزيمة النقار هم صنف من الأزواج العقلاء قرروا الحياة تحت أي ظروف وهم في الأغلب الأعم «متدينون» يرون في الأديان عزاء وسلوى، ولا يمكن المضي في هذا التحليل، دون الإشارة إلى أن داخل المؤسسة الزوجية «مرضى نفسيين» لا تظهر عليهم أعراض المرض النفسي، بيد أن هذه الأمراض تظهر مرة على استحياء ومرة بوضوح شديد يفرض العلاج وإلا استفحل الأمر، ولما كانت الأسرة المصرية قليلة التردد على عيادة الطبيب النفسي خجلاً أم تحاشياً للفضيحة(!) فإن المرض النفسي يظل حاضراً وتوابعه تنذر بالخطر.
5
إن ضغوط الحياة أحد أهم أسباب إخفاق مؤسسة الزواج في مهمتها، ومن هنا جاء ارتفاع نسبة الطلاق في المجتمع المصري. إن الفيلسوف الإنجليزي المعاصر «جون كاسل» يرى أن إنسان هذا العصر يجب أن يتزود بمجموعة من الصفات أبرزها المرونة والتكيف وقبول الآخر وتحمل الصدمات وعدم المبالغة في الجانب المادي، فضلاً عن قيم الرضا والقناعة وهي قيم معنوية تحد من صعوبة الحياة وتقلل نسبياً من حجم مشاكلها، خصوصاً ذلك السعار المادي الذي يسيطر على الحياة ويخلق المشاحنات التي تؤدي كثرتها إلى الاقتراب من حافة الطلاق.
لقد ثبت أن أهم أركان العلاقة في مؤسسة الزواج هو الحب، ذلك الشعور الجارف الذي يغفر الهنات ويستوعب المشاكل ويزيح الملل ويقضى على السأم ويحتفظ بدفء صداقة بين الزوجين ويحمى العلاقة من التفتت والسقوط في بئر الاعتيادية والرتابة.
6
ما أجمل وصف نزار قباني للحب: «إنه يمشي على الماء ولا يغرق»!
* المصري اليوم.