*مبارك حسني
منعش هذا الفيلم الجديد. منعش ويترك أثراً طيباً حين ينهي وقائعه السينمائية أحداثاً وصوراً. بهذا المعنى، نجح محمد الشريف الطريبق في منحنا قطعة فنية تستجيب لدواخل العواطف في ما هو إنساني وملهم. وحين تتم مشاهدته في ألق قاعة بمواصفات عالمية، يتم الشعور بقوة لحظة سينمائية. وهو أمر ليس بالغريب، فالمخرج واحد ممن تلقوا أبجديات الفن السابع من رحم السينيفيليا، أي نهل من سينمات مؤلفين تشكل لهم السينما مجال تعبير، وفي ذلك ما يشفع كثيراً كما ما يسعف في اﻹبداع.
حب فوق السطوح
وهكذا ينقل إلينا الفيلم في البداية فضاءً مدينياً تقليدياً لحاضرة عتيقة هي تطوان. مدينة معمار يحضن السر ويغري بالكشف. لكنه يختار أن يوجه بوصلة الزمن جهة سنة سالفة هي 1955. وذلك كمخرج يحب أن يخلق زمناً سينمائياً، ليجرب قدراته في تطويع صورة غير معاصرة ولا مألوفة لكن حنينية تسكن الذاكرة، بغض النظر عن واقعيته الحقيقية، فما يهم هو السينما حين تعيد خلق الواقع. ولكي ﻻ يقع في الافتضاح باحتمال مرور ما قد يكسر التوافق مع اللحظة المختارة، جعل المخرج الكاميرا قريبة والشخوص أقرب. شخوص هم في الغالب اﻷعم من لقطات ومشاهد الفيلم ككل، نسوة من الأجيال العمرية الثلاثة للإنسان، نسوة تختال وسطهن صبيتان (فرح الفاسي ولعناية). وهن في جل مراحل الفيلم يخطرن في حريم يتجزأ مسار يومه في معمار عتيق، مقفل ومحدد ﻻ تدخل الشمس إليه إلا عبر كوات موزعة بعناية وحرص، أو من أعلى السماء في السطوح.
الفيلم توزيعة مضبوطة بين تتبع لحركات النسوة ورصد لزوايا اﻷبنية حيث تتمثل هذه الحركات. بالمقابل ﻻ يخرج الشريط إلا لماماً نحو الأزقة الضيقة والممرات للتوقف عند تدخّل ذكوري، حين يفرض منطق اﻷحداث وتطورها وجود رجل. وفي الشريط ثلاثة رجال ﻻ غير. عاشقان عابران وأب شيخ لا يظهر إلا في آخر الشريط. العاشقان يترصدان فتيات قلبيهما فوق السطوح وعند زوايا الحارات أو عند الخرجة الجماعية للنسوة إلى قاعة سينما لمشاهدة أفلام فريد الأطرش. لكن حضورهم العابر هذا محدد لبعض المراحل اﻷساسية للشريط.
الصبيتان البطلتان، فطومة ونفيسة، تعيشان فترة انبثاق العواطف الجياشة تجاه كل ما هو حسّي، تلك الفاصلة في العمر عندما يصرخ فيها الجسد في بداية تشكله الناضج بالرغبة والانطلاق الحي ومعانقة لذات الحياة. لكن هذه ليست متاحة في غرف النساء وفي المحرمات التي تعشش في ذهن اﻷمهات والجدات. وبالفعل ففي الشريط جدة تراقب كل نمة من الجمع النسائي الذي تسهر على احترامه لقواعد الهامش، وتحصي اﻷنفاس وتقرر مصائر الصبايا بالبحث عن اﻷزواج والحفاظ على الفروج.
الحب حين ينافح الممنوع
الفيلم ككل يروي علاقة حب تتخللها قصص حب بعضها لاصق بها، وبعضها يمر من وسطها في متوازيات غير مستقيمة، أي أنها تلتقي بها من حين لآخر. فطومة البطلة الرئيسية فتاة غيورة على استقلالها، وعلى ممارسة الحياة في لحظة العمر اﻷهم التي هي المراهقة، ضداً على رغبة العموم والمحيط من جدة حريصة ومن تقاليد قوية وعصية على الكسر، لكن وهنا قوة الشريط الموضوعاتية، من دون الصدام المباشر والتمرد غير المنطقي في زمن لا مكان فيه لشيء اسمه «ثورة» على شيء في تطوان الزمن القديم. هي فطومة، بنت ذكية ومعتدة بشخصيتها، تمارس حرية مقتطعة في فضاء محاصر تعرف كيف تضبط شيفراته. عكس أخت لها زُوِجت برجل لم يــبرهن على ذكورته، فكان مآلها الغضب والعودة إلى المنزل العتيق الكبير. أما فطومة فهي لا تؤمن إلا بعفويتها وقوتها الأنثوية. وذلل بالتحديد ما سيتجلى في علاقتها مع البنت نفيسة التي تشكل النواة القوية الأساسية للفيلم، وما نشاهد إنما هو هذه العلاقة المذكورة آنفاً.
ويجب الإقرار بأن هذه الفكرة تكون حلقة طيبة في السينما، ﻷنها مملوءة بتآلف وتنافر طبيعتين أنثويتين وتاريخين شخصيين بُنيا في مدة الشريط. ﻷنهما صبيتان خلقتهما قصة الفيلم الذي شكلهما كامرأتين بعد أن كانتا مراهقتين حائرتين. لكن السينما ﻻ تؤمن بالعفوية والعلاقات الرتيبة، فقد جعل لها المخرج طابعاً صدامياً. ففطومة هي بنت البيت الكبير، الذي يطفح ثراء وتسلطاً، بينما نفيسة آتية من أسفل درك اجتماعي، وإن لم يعلن عن صفته هاته، فهي بنت أرملة بلا حول وﻻ معيل سوى الجدة التي تحنو عليها حنواً يتجاوز، وفق ما يود الفيلم تبيانه، براءة وإحساناً وشفقة وصداقة نحو الضعيف.
العاطفة والسلطة
محمد الشريف الطريبق تخيل علاقة مستشكلة يُجاور فيها العاطفي السلطة واعتداد أرستقراطية عائلية ذات الحضور المجتمعي الرنان. ما يدور بين الفتاتين من تجاذب ونفور، من لحظات حميمية وآونات افتراق غاضبة، هو عبارة عن رصد لكل ما يعرفه أي ارتباط عاتٍ تؤسسه عاطفة جارفة ﻻ تُحتمل عواقبها إلا بالرضا الكامل ونبذ كل ما يعوقها. وما قيل عن طبيعة العلاقة، وما حاول الفيلم التلميح إليه ﻻ نراه بائناً وصريحاً بالقدر الكافي. مثلاً، حين يضع الصبيتين في سرير واحد، وحين تقبل فطومة في «هجوم» لعب فيه اختلال التوازن بين البنت اﻷرستقراطية والبنت اليتيمة دوراً حاسماً. لكن هذا المعطى ليس مهماً كيفما كان الحال. المهم هو ما يُشاهد ويُمثل ومن عبور اﻷحاسيس اﻹنسانية القوية في وجهي المراهقتين. هنا لوحات جميلة وناطقة بالتمكن جعلنا الشريط نحياها بألق. ولا أهم من رسم العواطف والوقوف عند آثار المشاعر في الجسد وفي القلب، لدى الفرد وعند الجماعة القريبة.
وكل هذه العواطف، لا يمكن تلمسها بالصورة فقط. كل السينما تتضاعف بالموسيقى. وشريط «أفراح صغيرة» لم ينسَ ذلك، وبالطبع وارتباطاً بعتاقة تطوان الأرستقراطية، وظف الموسيقى الأندلسية المغربية، لحناً وأشعاراً وأناشيد. وقد تم توظيفها ليس كموسيقى تصويرية، خلفية، بل كعنصر أساسي في الدراما وفي الأحداث. بعد كل لحظة قوية ومنذ اللقطات الأولى، تطفر الموسيقي لدقائق، لتملأ الشاشة. موسيقى تنشدها وتعزفها فرقة موسيقية معروفة تختال في وسطها مطربة ذات صوت أخاذ. وهذا يجعلنا نرى شريطاً ينثر حكايته بالتشخيص وبالألحان. وقد استطاع مونطاج ذكي خلق سلاسة محبذة بين المحكي والطربي.
هنا، نساء وموسيقى وسينما حميمية. أي طرب متعدد. وصاحب المقال، مثل أفراد جيل بالكامل، وجد تمثلاً سينمائياً حقيقياً لجزء حنيني من موروث كان دائماً مضمخاً بالسحر عناصره هي الجمال الأنثوي التطواني الشهير، وغناء نوبات طرب الآلة، والشعر الذي يسكن العمارة والخواطر.
_________
*الحياة