الثقافة السياسية


سعيد يقطين

يتضح لكل متتبع للشأن القطري والعربي، وما يتخبطان فيه من مشاكل عويصة تجعل العالم العربي يعرف تقلبات لا حصر لها، أننا نمارس الثقافة بلا سياسة، ونشتغل بالسياسة بلا ثقافة. وحين تغيب الثقافة عن السياسة تهيمن الأهواء. وتشيع الفوضى حين لا تدبر الثقافة بالسياسة الناجعة.

بين سيادة الأهواء وهيمنة الفوضى لا يمكن إلا أن نكون أمام التخبط والعشوائية في تدبير الشأن العام، والتفكير فيه، وإنتاج الخطابات بصدده، فيقل التواصل، وينعدم الحوار. ولا يمكن أن يتولد عن ذلك غير العنف في مختلف أنواعه وصوره وأشكاله الأكثر شراسة، والأشد ضراوة.
يسلم كل من تحمل مسؤولية «وزارة» الثقافة في الوطن العربي، بشكل أو بآخر، سواء من خلال تصريحات أو حوارات، أننا لا نمتلك سياسة ثقافية. وأن التجريب والارتجال يطبعان أي تدبير لشأن الثقافي. فالتكنوقراطي حين يتحمل مسؤولية الثقافة تجده يتعامل معها بتقنيات الإداري بلا رؤية ثقافية ولا عمق اجتماعي. والمثقف حين يتصدى لها بهوى السياسي لا يرى دورها إلا من خلال رؤيته السياسية، وبما يمكن أن تعود بالنفع على تصوره الإيديولوجي، فتضيع الثقافة بين العمل الإداري والهوى الإيديولوجي.
من تبعات غياب السياسة الثقافية ونتائجها انعدام الثقافة السياسية، سواء لدى الدولة أو الحزب. فالدولة العربية، أيا كان النظام السياسي الذي تعتمده لا ترى في الثقافة، سوى واجهة لتزيين صورة النظام. وهو غير معني، تبعا لذلك، لا بالسياسة ولا بالثقافة لأنه يرى أن الاشتغال بهما معا، متصلين أو منفصلين، لا يمكن إلا أن يمسا بصورة أو بأخرى، الهوى الذي تدبر به شؤون البلاد. لذلك كانت ممارسة السياسة لعنة، والاشتغال بالثقافة محنة. وطوال عدة عقود ظلت السياسة العربية الرسمية تسير على هذا النهج: الموقف من الحزب الذي يمكن أن ينافسها في السياسة، والمثقف الذي يمكنه أن يفكر فيها بكيفية مختلفة. 
أما الحزب، إذا سمح له بالتشكل، فبسبب السياسة الرسمية يظل موقفه من السياسة والثقافة معا مختزلا في ما يمكن أن يعودا عليه بمكاسب، سواء بالتواطؤ مع الدولة، أو باحتلال موقعها. فيكون الهوى الآخر هو السائد في ممارسة الحزب أو الطائفة، ورؤيتهما للثقافة. لكل هذه العوامل لا يمكننا الحديث في التجربة العربية لا عن سياسة ثقافية ولا عن ثقافة سياسية. 
يبرز لنا هذا الواقع بجلاء في اللحظات الكبرى في تاريخ الوطن العربي: الانقلابات، الاحتجاجات، الانتخابات، مثل هذه اللحظات تبدو فيها هشاشة السياسة وهي تتأسس على الهوى، وضعف الثقافة وهي تبنى على الفوضى. فإذا كانت أحداث الربيع العربي، مثلا، قد عرت تلك الهشاشة وكشفت عن تلك الفوضى، فإنها تبين لنا بجلاء أن كل التاريخ العربي الحديث لم تتشكل فيه تراكمات يمكن أن تتأسس عليها حقبة جديدة من تحول المجتمع العربي سياسيا وثقافيا. وصرنا بذلك، وكأننا أمام ولادة جديدة، ولكنها محملة بكل تبعات ومشاكل التاريخ الحديث، مما يجعل الولادة مستعصية وزمانَ المخاض طويلا جدا. 
تصرف المغرب مع أحداث الربيع بكيفية مختلفة عن العديد من الأقطار العربية. وها نحن أمام دستور جديد وانتخابات جديدة. وإذا كانت السياسة الثقافية، كما صرح بذلك المثقف سالم حميش حين تقلد مسؤولية وزارة الثقافة منعدمة، فإن الثقافة السياسية بدورها مستحيلة. إن هناك علاقة جدلية بين السياسة الثقافية والثقافة السياسية. وإذا شئنا التمييز بينهما لضرورة التحليل، قلنا بأن «السياسة الثقافية» من مسؤولية الدولة، وأن «الثقافة السياسية» من مهام المثقفين والأحزاب والمجتمع المدني. وإذا تأكدنا من الانفصام القائم بين المثقفين والمجتمع السياسي، بدا لنا بجلاء أن المثقف، وهو يبدع أو يفكر أو يحلل أو يعظ، يتوجه بذلك إلى جمهور عريض وغير محدد هو القارئ أو الشاهد، وهو غير معني بتأطير الناس أو توجيههم في نطاق مؤسسي. إن هذا هو دور الحزب أو الجمعية. 
لكن الحزب الذي يضطلع بمهمة التأطير الاجتماعي، يضع على قائمة مهامه، ليس الارتقاء بوعي الناس، وجعلهم يحملون ثقافة سياسية ما، من أجل بناء مجتمع المواطنين لا الأتباع، ولكن النجاح في الانتخابات، وقد صارت الممارسة السياسية مختزلة في صناديق الاقتراع. لذلك فهو يشتغل بالثقافة والسياسة بكيفية لا تختلف عن الدولة. فما هو الخطاب الذي يمكن أن ينتجه حزب في استحقاق انتخابي؟ ومن هم «المناضلون» الذين سيضطلعون بالتعريف بالبرنامج الذي يدافع عنه الحزب ويسعى إلى إقناع الناخبين به؟ لن نجد أنفسنا سوى أمام الهوى والفوضى. 
حين يوظف الحزب أطفال ونساء وشيوخ الأحياء الشعبية الفقيرة لتوزيع أوراق الدعاية للمرشحين، لا يمكننا الحديث عن ثقافة سياسية. وحين يمارس العنف بين من يقودون الحملة الانتخابية، لا يمكننا الحديث عن فهم ثقافي لاستحقاق سياسي. وحين تتشابه الخطابات والشعارات إلى حد التطابق، رغم تباين الأحزاب وصراعاتها، لا يمكننا الحديث عن رؤية ناضجة للتحول الثقافي. 
أمام المساجد وفي الأسواق الشعبية يتصارخ الباعة المتجولون على بضائعهم، ويعرِّضون ببعضهم بألفاظ نابية، وقد يصلون إلى الاشتباك بالأيدي… إنها ثقافة سياسة الساحات الشعبية العمومية؟ إنه الهوى والفوضى.
القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *