*الحبيب الدائم ربي
خاص ( ثقافات )
لكأن هشام ناجح في روايته الجديدة “دوار الكية” يحاول البرهنة على كونه قادرا على “إعادة انتشار” عتاده السردي من فضاء المدينة إلى الفضاء الريفي. والواقع أن هذا الانتقال النوعي، من ضفة إلى أخرى، ليس متاحا لأي كان. حتى أننا نفترض أن الكتابة عن “المدينة ” قد يكون ممكنا لأي كاتب ينهل عوالمه من النصوص، لأن العلائق المدينية ، وإن اختلفت، تبقى، بظننا، متقاربة، إن لم نقل هي هي. فيما تظل عوالم الريف أشتاتا أشتاتا، وكل واحد منها لايشبه سواه إلا ليختلف معه. من ثم يكون المتخيل الريفي متمنعا على الكتابة إلا على من عايشوه فعلا وعن قرب. ويبدو أن هشام ناجح نجح في كسب الرهانين، لأنه عاش التجربتين بشكل مباشر وخبر أسرارهما مَدَرا ووَبَرا. والدليل هو كونه عمدَ إلى استغوار عوالم “المدينة التي…”- وهذا عنوان باكورته الروائية بعد مجموعتين قصصيتين مشتركتين- برؤية كاتب موغلٍ في أوصال المركز المديني وهوامشه، كما قام بتشخيص التحولات السوريالية التي عرفها الريف المغربي( في مجال مخصوص) بحنكة من عاش “الكيّة” ليحكيها، إذا ما حورنا قليلا عبارة غارسيا ماركيز الشهيرة. يتجلى ذلك في حجم الوقائع المادية والموروثات الرمزية التي أثث بها مسرديتيه الإثنتين، الغنيتين بالتفاصيل السوسيوتاريخية والإثنوغرافية المدهشة.
ويمكن إدراج رواية هشام ناجح الجديدة ضمن ما بات يطلق عليه متخيل الريف(أو البادية) والذي راح ينتعش في السنوات الأخيرة بصورة لافتة في المشهد السردي المغربي. وخاض فيه كتاب ينتمون، ولادة، بالهوامش الأرباض العميقة من الوطن. ولئن كان الكاتب قد بالغ قليلا في جرعة “اللاأدب” ضمن نصه الأدبي، بحيث شكّل المعجم الحسي، بمعناه السوقي والرعوي، حيزا معتبرا في السرد والحوار على السواء، حتى أنه لاتكاد تخلو فقرة من الفقرات من جمل وأقوال وتعابير وتسميات تخدش الحياء العام المتواضع عليه. (ونحن هنا نصِف ولا نحكم) فإن ذلك، فيما يبدو، لم يكن من باب الاعتباط، وإنما لغرض الإيغال في “المستنقع” أكثر، لأن ما يقبع في القيعان قد يكون أكثر سوقية وابتذالا مما يلوح من غثاء أحوى، بل غثاء أقسى. سيما وأنه لا مناص من التأثر بالسلح والبراز لمن ولجَ خم الدجاج، كما يقال لدى العامة. والحال أن “دوار الكية ” أكثر من خم دجاج يملأه السلح، ما لم يكن وكرا آدميا تخترقه الرذائل والقداسات في واقعية سحرية يلتقي فيها الشيء ونقيضه في آن، وبسلاسة تليق بالفانتازيا والتخييل. والغريب في الأمر أن الوقائع والشخوص والأمكنة، وبهذه المواصفات، متحققة الوجود، أو على الأقل ممكنة الوجود. بمعنى أن كل التفاصيل موجودة فعلا، في فعلٍ هو من وحي الخيال ويفوق الخيال أحيانا.
إن رواية “دوار الكية” حافلة بالشخوص إلا أن “بوغابة” و “ولد الفول” هما الشخصيتان الفاعلتان في “الرواية”، رغم أنهما تعيشان على هامش “دوار الكية”، في أحد سهوب دكالة، المنذور بدوره للتهميش والهشاشة، في فترة من المرجح أنها فترة الثمانينيات من القرن الماضي. لكنها فترةـ بالنسبة للدوار خارج التاريخ والجغرافيا. كلاهما مشرد أو أقرب، وكلاهما ركنَ إلى الآخر لاعتبارات لن نجد لها من مبرر سوى انتمائهما إلى هذا الفضاء المغلق على أسراره، المنفتح على المكائد والوشايات والتخفي خلف الأقنعة. والشخصيتان معا، قررتا، بعدما شبّتا عن الطوق، وأدركتهما سوْرة الغريزة والغلمة، أن تشيّدا “نوالة”، ككناية على الملاذ الآمن لاستقلالية تبيح ما لا تجوّزه الإقامة مع الأهل. علما بأن التواطؤ قائم دوما بين “بوغابة” و “ولد الفول”، من جهة ، والعشيرة، من جهة ثانية. من ثم فإن إجراء من هذا النوع، من طرفهما، كان يرمي إلى تقليص مجال الرقابة والإيغال في الطيش الذي تزّينه لهما مراهقتهما التي لايحصنها تعليم ولا تهذبها تربية أو أوزاع. سيما وأن الأول(أي بوغابة)، وكما يشير اسمه ، في الظاهر ، ألِفَ أن يعيش غابويا متوحشا، ضالا خائبا، إلا أن هناك “تورية” تخترق هذا الاسم فتمنحه إيحاء ينسجم و”معجم” الدوار”. فكنية “بوغابة لاتتداولها سوى النساء. منهن زهرة بنت الأعمى وبحرية والخودة”(ص.56)، فيما الثاني(ولد الفول) فمجهول الأب، وهو ثمرة اغتصاب أو نزوة اقترفتها أمه ( الخودة): الأرملة اللعوب مع رجال غرباء في حقل من حقول الفول ذات ربيع. فقد قصَدتْ، كما تحكي، فدّانا بجانب واد فليفل تبغي الفول فتلقفها” أربعة رجال، تقول إنها لم تتمكن من معرفة سحناتهم، تناوبوا عليها، ينزل العيان، ويطلع المستريح، بقت(كذا) مشبوحة حتى أبواب الفجر…وقع ما لم يكن في الحسبان، راحت حبلى من ليلتها…”(ص.72). ولمزيد من الشحن الدرامي فإن الرواية أبت إلا أن تجعل من بوغابة، فضلا عن صداقته لابن الفول ونديمه، عاشقا لأمه أيضا، وكلاهما يعي أن صاحبه يعي بأن صاحبه يعي “واقع الحال”. وتلك حالة غير غريبة على التجمعات والمجتمعات المدثرة بطهرانية خداعة، ولا على “دوار الكية” الذي يتجاور فيه الأولياء و”الشياطين” في دعة ووئام. فعلى أحجار “للاشافية” تمارَس الفاحشة، من أبناء الدوار، غير موفرة من الحساب لا الأوادم ولا الحيوانات. من دون أن يعني ذلك أن “الدوار” متروك للفوضى والعربدة، فبقدرما يبدو منخورا من الداخل فإنه غير مستباح للغرباء. وما يجوز لأهله من “خروج” لايحق لسواهم.. لذلك فإنهم يتصدون ، بلا شفقة، لكل من يحاول تلويث”شرف الدوار” من غير ذويه، و”خبز الدار لايأكله البراني”(ص.161).
هكذا تتوالى الوقائع في “دوار الكدية” ضاجة بالغرابة والمفارقات: مغامرات في واضحة النهار وتحت جنح الظلام، زيجات وأفراح ووفيات وأعياد ومواسم وأحقاد، خمر وحشيش ورذيلة. كل واقعة تتم في أقصى تجلياتها،حد المبالغة والتطرف، مادامت محكومة بالأهواء والغرائز. إذ لااعتدال في الأمكنة الكاوية التي تحرق الكائناتِ المستوطنة في أرباضها الحارقة. و”الكية”، هنا وفي إيحاءاتها الدارجة، لا تنحصر في المعاناة الآنية التي يعيشها الأهالي، وإنما في تلك الشيطوطة الساكنة طي الضلوع خارج حدود الزمان والمكان، والتي لاتفارقهم وإن فارقوا الديار. إذ تظل وهاجة وقادة في الكلام وفي الصمت الشجي. حتى أن لكل حادث حديث يستعاد في الأمثال الشعبية والمواويل المترحلة بين الأجيال. وهو ما اجتهد الكاتب في تدوينه بحنكة من عاش التجارب واكتوى بنارها فظل الـ “وشم في السعير” واخزا على الدوام. وهذا ما حفلت به الرواية بصورة تشد انتباه قارئها …حتى أن النص يشكل مرجعا مهما للمرددات والمواويل والأغاني الشعبية المعلومة مراجعها أو المجهولة، والمتغنية بمختلف الأحوال والانفعالات، المؤرحة لأفراح أهل “الدوار” وأتراحهم. وهي في أغلبها تسعى إلى التنفيس عن مكبوتات جمعية، وتكسير طابوهات الدين والجنس والسياسة، بل والمؤسسة عموما. كل هذه الخطابات تأتي بنصها أو مشخصة تبعا لتحويرات يقتضيها المقام. ويتم استدخالها بسلاسة ضمن أسيقة لغوية تقارب بين الفصيح والدارج، وتجترج تعابير جديدة من صلب الدارج والمهمل والمهجور في هارمونيا متناغمة تمثل عصب البصمة الأسلوبية لدى هشام ناجح في “دوار الكية” الذي مازال يحمله معه أنى حل وارتحل.
هشام ناجح، دوارية الكدية، رواية، مطبعة نجمة الشرق، بركان. 2016.