(ربيعٌ في عَمّان) لجعفر العقيليّ؛ نوافذُ ضوءٍ في عتم الذّاكرة.


*د.سهى فتحي نعجة


خاص ( ثقافات )
جعفر العقيلي مبدع أردنيّ رئيّ؛ احث شاهق الرؤيا، باذخ الثقافة، مشتبك بسؤالات الكينونة اللغوية، يمتحُ رؤاه بكثافة حوارية حصيفة تغتني بروافد علمية ممنهجة
يتناصّ برؤاه العلمية مع التاريخ والميثولوجيا، ليغزل بعد طول نكث رؤيته الخاصة بمخياليّة حكيمة وبتنويعات بنائية كنائيّة ترميزيّة عالية .
في كلامه استبصار في الآن وفي الآت، واستدعاء لما كان، وبين الاستبصار والاستدعاء تعالق ضمنيّ ونفسيّ ينحاز في آرائه إلى منهجية جادة يفرضها سياق المقام ، تتباين بين معيارية مقارنة تارة، و ووصفية إحصائية تحليلية أخرى.
كيّس الحصيف في احتواء آفاق الاتّفاق والافتراق بين الأنا والآخر، المتقبّل الرأي النّاقد ببصيرة تؤمنُ بأنّ النّقد غالبًا ما يكون شرفةً مرآويّة تَسْتَكْنهُ دواخل المرء التي قلّ أن يغور فيها، فتبصّره بانعكاس صورته أو بانكسارها.
معمورة نفسه بالبشرى ، ومنحاز إلى الجمال في العربية : شعرا ونثرا، ونحوا وصرفا وبلاغة ، وإلى سياق الحال اللغوي العربي، يجبر كسره بأمل أنيق ينتصر للغة عليا شفيفة تجيد الجهر والهمس.
ينعطف بآرائه اللغوية، ومداخلاته العلمية بوعي ثقافيّ يضرب جذوته في حطب الاستسلام لنصية المأثور وقداسته، ويعلّق أجراس الفتنة في بعض طروحاته التي تشي بفراسة لغوية فريدة.
يشيع حالة من كسر التوقع في إيقاع كتابته، إذ تنسبك جملته على وفق قوانين العربية من غير تكرار أصم، أو أخطاء شائعة تشوه انسيابية الفكرة وجدّتها. تكشف مجموعته القصصية (ربيع في عمّان) في طبعتها الثانية الصادرة عن دار فضاءات عام 2013 عن قاصّ يهذي بالحياة؛ يمازج الواقعي بالتخييليّ، مهجوس بالتغيير، وفيّ للحظات المضيئة، موّار بالقلق المبدع، جسور على ارتياد المتناقضات والمفارقات التي تنتظم السلوك البشريّ؛ يقنصُ الحدث الطازج، والخبر الحيّ، والمشهدية الحاضرة، ويسلمها إلى مباضع النّقد ليضيء مكانز الدهشة والجمال، ويقلقل مكامن الفساد والتشرذم، ويكشف الكامن المستسر، ويسقط الأقنعة التي تخفي مُسوخا نفسيّة وفكرية وتضمرُ تشظيات اجتماعيّة تمتد وتتوغل في فضائنا المكانيّ والإنسيّ .
ففي قصة (ربيع في عمان) إذ يعاين العقيلي ظاهرة الاحتجاجات والاعتصامات التي طرأت على عمّان في منطقة دوار الداخلية بعفويّة حذرة، فإنه يجأر إزاء موقف طفل السابعة الذي أصرّ على المشاركة في هذه الاعتصامات بخيبة النفس، وانكسار الذات، وخوار الوعي، وخواء الذّاكرة مما تعلو به همم الشباب والعروبة وتغلو: 
“كانت أخبار الاحتجاجات تتصدّر الصفحات الأولى، فما يمور في المنطقة منذ شهور لا يسهل تصديقه، وما كان بالإمكان أن يتنبأ به أحد. انشغل بتقليب ناظريه بين الصحف وقد حار أيها يشتري، فلا واحدة مفضلة لديه. وفي الأثناء كان صغيره يتهجّى ما تقع عليه عيناه من عناوين. بدأ صوته خفيضا وهو يقرأ حرفًا حرفًا، ثم تساءل بوحي من أحدها: ما الذي يقصدونه بـ” ربيع الشعوب” يا أبي؟ هل للشعوب ربيع؟ وقع السؤال عليه كا المفاجأة، إذ عثر فيه رغم سذاجته على مفارقة تستحق الالتفات. آه يا يحيى، كلّ شعب له ربيع، مثلما هناك ربيع في كل سنة…وفي ثنايا المد البشري لم يهتد غازي إلى أحد من معارفه، لكنه شعر أنه بين أهله وناسه، ثم ما لبث أن انتابته رعشة خزيٍ حين لاحت له حقيقة أنه لم يشارك في اعتصام طيلة حياته، وهو ابن الخامسة والثلاثين بينما يتفلّت ابن السابعة للقيام بذلك”
كما تكشف المجموعة القصصيّة عن قاصّ معمور بإعادة صوغ الذات المفردة والجمعيّة، وبجدل التفاصيل في ضوء بَيْنِيّة الأنا والآخر مبنى ومعنى؛ ففي قصّته الأولى (علامة فارقة) يستعلن العقيليّ هواجس النّفس وحدوسها، ويستنهض حكمتها، ويدرّبها على تناغم شفيف وسياقات المباغتة، ويحثّها على استكناه الدواخل باسئناف إيقاع الحياة أبدا : 
“هذا ما جعلني محقّا في التمسّك بها؛ شعرتي التي أصبحت تَسِم حاجبي بالفرادة، وقعها على العين كوقع وحمة لزميلتي تزين أسفل عنقها، أو الثالولة الراقدة بسلام قرب شفة زميلتي الأخرى؛ أحبها العلامات الفارقة، ويستهويني البحث عنها أكثرمن العثور عليها، كيف لا وهي التي كثيرا ما دوخت التاريخ؛ أنف كليوبترا، شامة مارلين مونرو، فم إليسا المعوج، وقامة نابليون القصيرة، وها إنني اهتديت أخيرا إلى خاصتي: شعرة في حاجبي الأيسر” 
ويجيد العقيليّ التفكيك، وإعادة البناء، وكسر التوقع، ويحترف التفرّس في المرايا، ويمهر إلقاء الحجارة في الآبار الراكدة، ويكفر بالقبّعات والمعاطف، وبورق توت يواري السوءات، وبعين تبصر الدنيا ورقة نصيب، وبلسان بُحّ صوته، وبسراج لا يضيء عتما، ويؤثّث قصصه بتكنيك سرديّ وقور حذق حصيف؛ وبوعي ثقافيّ يمتدّ ويتجاوز ذاته ويتعدّد؛ فلا يحتجب وراء متلقٍّ واحد أو قراءة نصيّة واحدة ، ويضرب جذوته في حطب التاريخ، واستيهامات الثقافة الشعبية وسلطتها، فينعي عصانا العرجاء، ومعاطفَ الخراب التي نرتديها، والسوسَ الذي نخر هويتنا ليغزل بعد طول نكثٍ نصّه الرؤيويّ التوعويّ الجماليّ بمخياليّة حكيمة .
لقد أكّد العقيليّ في قصص المجموعة أنه للقوس باريها، فقد انبرى يفضح المسكوت عنه المشرّش في مقولاتنا المجتمعيّة والماورائية النفسية والاجتماعية والثقافية لسيرورته وصيرورته التي تنحاز دالا ومدلولا إلى كينونة ثقافيّة سلطويّة سائدة، وأنساق اجتماعيّة تتواشج والجبريّة التّشريحيّة الذّكوريّة التي غذّاها الموروث الثقافي الشعبي ولا سيما ما يتعلق بنظرة المجتمع التي تسطّح المرأة، وتشيّئها، وتهمّش فاعليّتها، وتبخسها حضورها، وتقصيها وتبصرها شكلا لا مضمونا؛ تلك النظرة التي تجليها الحوارات الآتية بين البطل وزوجته في قصة (علامة فارقة): 
” – يا ليت حرصكِ هذا من زمان. أم أن الأمر وما فيه أن الغيرة من صديقتك تأكل قلبكِ؟ لن أرتدي سوى ما يريحني، لست في منافسة مع زوجها، كحالك معها، ولا يهمّني إن كان يملك خزنة قارون.
– أنا ..أنا تقول لي هذا. أنا التي أشتري فستانا كل ثلاثة شهور، وهي تشتري واحدا كل أسبوع، وأسكت. أنا التي قبلت بيومين في العقبة شهر عسل، وراحت هي على تركيا أسبوعين. أنا التي رضيت بحظي، وفوق هذا تقلب عيشتي بالنكد.
– تحملت كثيرا، تحملتك كثيرا وأنت تغفل عني في حضرة أي واحدة تدندل آذانك لها، وتنساني كأنني غير موجودة، تزعلني ولا تطيب خاطري، وكلما فكرت بالحكي معك ترددت، وقلت: مصيره يعقل”
ويجلّي العقيلي نظرة المجتمع إلى المرأة أيضا في قصصه (انتصار)، (ووقت مستقطع)، و(تذكار)؛ ففي مجتمعات قروية تنام تحت لحاف التقاليد والعادات تأصّل أن المرأة أشبه بدجاجة همّها المفصليّ مواقعة الزوج، والتفريخ: “… وقفز في باله ما حدث هذا الصباح، (فضة) تتابع الديك إلى أن فرغ من فرخة أم محمود، ثم تحدج (أبو عقاب) حتى حدس أنها تتمنى أن تكون زوجة ديك، أو أن يكون هو يدكا. فأدرك – يالتعسه- أن الديك بات غريمه”.
بل مجتمع تأصل فيه أنْ سيان بين الزوجة والبقرة والدجاجة على حد قول (أبي عقاب) بطل قصة (انتصار) .
ومع انّ المرأة قد تورّط نفسها في ما لا يرضى عنه العرف والدين المجتمع، فتجبرها الظروف المعيشية البئيسة أن تضحي بائعة هوى لأن الزوج وراء القضبان في قضية حشيش، وأبناء خمسة، أكبرهم يعمل في محل ميكانيك، وصغراهم أنجبتها وهو في السجن كما في قصة (وقت مستقطع) فإن هاون المجتمع يهرسها، ويتغافل عن ذنب الرجل ويجلدها صوتًا وسوطًا: 
” عملتُ حاضنة أطفال في مدرسة خاصة، طردوني منها لأن زوجي (أسبقيات)، أعيل أمي الضريرة، وأبي المصاب بالسكري، قل لي: ماذا أعمل؟ كلّ الأبواب سُدّت في وجهي. نفسي أحجّ وأزور قبر النبي..لا .. لا أزوره، زوجي، لأني لا أحبّ أن يراني ضعيفة. آه كلما رأيته مقيّدا أبكي،.. لو تدهسني سيّارة وأرتاح، لكم مَن للقواريط؟”
وفي قصة (تذكار) يكثّف العقيلي مجسّاته المعرفيّة والحكائيّة السرديّة لرصد تفاصيل في سلوك المرأة البرانيّ والجوانيّ، كاشتغالها على مظهرها قبيل الخروج في قوله: 
” ولوّحت لزملائها في المكتب قبل أن تجد في نزول الدرجات وقتا كافيا لتعدّل من هيئتها مستعينة بمرآة محفظتها الصغيرة”
وكرغبتها المخاتلة في استعادة وهج العاطفة الذي بدأ ينعس في وطأة الازدحام بأعباء الحياة كما في قوله: 
” كان زوجها يتصل ليقترح عليها اصطحاب أبنائهما الثلاثة، لكنها فضلت بقاءهم في البيت مع المربية، وقد داعبها إحساس حلو خجلت الإفصاح عنه، فربما يستعيدان في أجواء الطبيعة بعضا من كلام تحنّ إلى سماعه، مستذكرة لحظات حميمة بينهما، انطفأ وهج كثير منها في غمرة الحياة”. وكتحمّلها مسامير التعب، وإزميل نكران الذات لإثبات ريادة مهنيّة وأمومية وزوجية في ضوء مجتمع يبصرها كائنا اجتماعيّا اندماجيّا غير مستقلّ كما في قوله: 
” مرّ وقت غير هيّن ازدادت فيه وجومًا، وقد أخذ منها مأخذه، وقد كابرت كي لا يشمت زوجها بها ويردد مناكفا كعادته بأن المرأة ضلع قاصر لا تجيد سوى الطبخ والجلوس في البيت”
وكتَوْقها لعبارات المجاملة والإطراء على بعض الأعمال التي يتقاسمها الرجل والمرأة ويغلب أن يمهر فيها الرجال؛ كقيادة السيّارة: 
“كانت تسعى جهدها لتحظى بإطراء منه على حسن قيادتها، وكان يتمنّع رغم معرفته أنها حصلت على الرخصة من دون واسطة”.
لكنها – المرأة- على الرغم من المناجل التي تتكاثر حولها ذات سيادة على منجزها؛ فقد أكد لها المدير الذي أشار عليها زيارة غابة برقش والتقاط صور لها 
” أن اسمها سينشر برفقتها، وهو أمر لم يحدث أن تهاونت فيه: ” حقّي المعنويّ قبل كلّ شيء”.
إن القصّة معمارٌ نثريّ أدبيّ لغويّ مترابط الأركان والعناصر؛ تتآخى فيه المكوّنات الدّاليّة: الصوتيّة والصرفيّة، والنّحويّة التّركيبيّة، والسّياقيّة والسّرديّة على نحو مدروس، وتتوزّع فيه رأسيًّا وأفقيًّا بكثافة لتجلو عقب نموّها واكتمالها بؤرَ ارتكازِها، ولتزيح السّتار عن مُضمرات الرّؤى الحسيّة والمعنويّة التي صدرت عنها، والسّؤالات والتّجاذبات والشّطحات الفكريّة والاجتماعية والمعرفيّة الثقافية التي صاغتها، وقدرة القاصّ على الإدهاش اللغويّ، وخلخلة الثابت، وتجاوز السائد والمسْتهلك والوصفيّ والتّقليديّ، ومدّ الجسور مع التراث، وبثّ الرّؤية الجماليّة والتوعويّة في العاديّ والمألوف عبر مغامرات الانزياح التي يتغيّاها. 
والنصّ القصصيّ مرآة أدوات المبدع؛ السّطحيّة والعميقة في تعاطي النّظام اللغويّ المتماسك المتين على مستوى الدّال، والمدلول، والتّركيب الجُمْلي، والتمثّلات الدّلاليّة، والمجازيّة، والتِّقنيّة، والتّقنينيّة، وقد وَشت المجموعة القصصيّة (ربيع في عمّان) بأن العقيليّ قاصّ أنيق جريء على المستوى اللغويّ، وأنه صادر في لغته السرديّة عن رؤية مهرت اللعب اللغويّ في ضوء البعد التداولي للغة، فآمنت بالتّسامح اللغويّ عبر ترويضها وتطويعها لصالح ثيمات القَصّ الذي يقارب الواقع الحكائي والمتخيّليّ الذي تغيّاه موضوعا لقصصه، وقد تجلى هذا البعد التداولي المتسامح في ما يأتي:
1- تفصيح العامّي
اعتصَم العقيلي بفهم واعٍ غير ملتبس لقيم الثّبات والتّحوّل في اللغة، فوعى بيْنيّة اللغة ودقّتها ووظيفتها من زاويتي: النّظام والاستعمال، وتفطّن أنّ للأديب سلطةً يُشَرْعنها المتلقّي، فطفق يحوك وعيَه اللغويّ، وتفطّنه للدّور السّلطويّ للأدب باستسقاء دوالّ لغويّة شعبيّة متداولة مفصّحة، مقاربًا في هذا بين صدقية الشكل والمضمون وحميميّتهما، من ذلك قوله في قصة (علامة فارقة): 
” كانت زوجتي ستصحبني لنبارك لصديقة لها اصطادت (عريسا لقطة)”. 
وقوله:” تحمّلتك وأنت تغفل عني في حضرة أي واحدة أخرى (تدندل) آذانك لها”.
وقوله: ” ووسط ذهولي و(طبطبتي) عليها…”.
ومن ذلك قوله في قصة ( ربيع في عمّان): وقوله:
“إذن أسرع الخطو، وانتبه للصحن، (ويلك إن كسرته)”.
وقوله: “الصحن عند العامل الذي أخبره أن الفلافل تحتاج بعض الوقت (ليأخذها سخنة)”.
وقوله : ” أن يبعد عن الشرّ ويغنّي له”.
وقوله: “أمسك بيدي جيدا (وإلا زعلت منك)”،
و” احتضنه الأب وما هان عليه أن يفشله”.
ومنه قوله: 
“(يا حيف عليك)، لا بدّ أنها تفكر بهذا الأمر”، و” (الزعل وصل مناخيري، الله يخليك تجنب الحديث معي، أحسن لك)” ، و( يحسّ أنهما تمرّغا بالذلّ و(تمرمطا) بالطين بعد زيجته) في قصة (انتصار). وقوله:
” ليدرسها على (رواق)”، و”فما عدا مما بدا؟” في قصة (وقت مستقطع). 
و” على أقل من مهلك لا تستعجلي” في قصة (تذكار).
و” فلا لفّ ولا دوران”، و” بلا أقفاص بلا بطيخ” في قصة (دوار) .
2- توظيف العامّي
يشي توظيف العامّيّ في البناء الدراميّ للقصّة الواقعيّة بوعي القاصّ جدلية اللغة والمجتمع، وباشتغاله على عرى الوصل والمقاربة بين المضمر والمعلن في رسم شخصيّات القصة، فتغدو أكثر إقناعيّة للمتلقّي وأبلغ في الكشف عن منسوب قلق الشخصيات وحركيتها وحركية حوارها في ضوء ابتناء بعض القصص على ساردين اثنين، من ذلك قوله: ” أوووف خلّصنا منها ياه”، و” لا تهكلي همّا” في قصة (علامة فارقة)، و “شِد حيلك” -بكسر فاء الكلمة-، و”عفارم عليك”، و” أيوه… شاطر”، و”شِكلك شاطر”- بكسر فاء الكلمة-، و”أيوه يا ستّي؛ ابنك كثير الغلبة”، و”عاد من تاني”، ” ومين قال الشعب مات” في قصة (ربيع في عمّان)، و”هاه، تحدثني”، و”يا أخي، حِلّ عني- بكسر فاء الكلمة –” في قصة (انتصار). و”ديري بالك على حالك”، و” إن خِلْيت بِلْيَتْ” في قصة (وقت مستقطع). و” ينطيكِ العافية” في قصة (تذكار). و”وااااال ما أغباني” في قصة (قشة تكفي).
3- المزاوجة بين العامّ وتفصيح العامّي في الجملة الواحدة 
كقوله: ” قد وعدتني زمان أن تأخذني إلى مسيرة وسط البلد وشِكلك نسيت” في (قصة ربيع في عمّان)”، و قوله:
“إن عشّرت هذه المرّة تِكْرم بالإيجار الذي تطلبه، وسيكون الحلوان من نصيبك”، و” وفي الثالثة أخبرته أن أصابها ما يصيب الناس وكلّها أيام وبتهون”، و” لو تدري، كرمال أشوف فضة أنا مستعدّ للعمل سائقا لديك، وأدفع لك أيضا” “في قصة (انتصار).
لقد صدر العقيلي في عبر آليات تفصيح العاميّ، وتوظيف العامّيّ، والمزاوجة بين العاميّ المفصح والعامّيّ المتداول في الجملة الواحدة عن رؤية سابرة، ومقروئيّة قَصِيّة لنفسيّة المتلقي لهذا الفنّ الأدبيّ، لتنمّ عن منهجيّة منظّمة مدروسة لهذا التوظيف؛ تنعطف على محاكاة الموقف، والاستجابة لجبرية القصة وثقافة شخصيّاتها وتكوينهم الطبقيّ وروافدهم المعرفيّة ، مما يخلق حالة من التآلف، والتّوادّ، والتّناغم بين المرسل والمتلقّي.
وفي ضوء هذا الوعي المنهجيّ نجح العقيليّ في اللاوقوع في فخ الدالّ أو التركيب العامّيّ المأنوس على حساب الدّالّ أو التركيب الفصيح ما لم يكن له داعِ؛ يؤكّد هذا خلوّ قصّة (ضيوف ثقال الظّلّ) تماما من هاتين الآليّتين، وهي القصة التي يستحيل على قاصّ محترف قنّاص للضوء في اللحظات الهاربة أن يشوّه إنسانيّتها المثقلة، و ملكوت فنتازيّتها الرئيّة، وتهاويمها بدوالّ عاميّة تخرجها من النسق النفسيّ التصوريّ الإنسانيّ الجماليّ المعقّد.
لقد باحت المجموعة القصصيّة ( ربيع في عمّان) بقاصّ يعي أبعاد نظريّة التلقّي، وفضاء الخطاب السرديّ الواقعيّ، وجدلية اللغة والمجتمع، وبتنويعات بنائية ترميزية حكائيّة عالية تتراسل في حواسّها تارة، وتجانس العرف ثانية، وتفارقه ثالثة، وترقّ وتقسو رابعة ، وتهدأ وتنفعل خامسة من غير مطّ أو ترهل لغويّ؛ فتتيه فيها الذائقة ولا تتوه.

شاهد أيضاً

أقنعةُ الهُوية والتّيه قراءة في «قناع بلون السّماء»

أقنعةُ الهُوية والتّيه قراءة في «قناع بلون السّماء» واسيني الأعرج   على الرغم من الضباب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *