*أوس داوود يعقوب
يذكر الروائي الفلسطيني الأردني قاسم توفيق، أن أمه كانت تقول عنه أنه ومنذ بدأ يفك الحرف كان يهتم بالألوان، فيكتب الواجب المطلوب منه ملونًا ليعطي للكلمات دلالة أعمق مما تعطيه الحروف، فلو حدث أن كتب كلمة (حب) أو (أم) فإنه يكتبها بلون فاتح شفاف أزرق كالسماء أو ليلك مثل الورد.
وفي حوارنا معه اليوم، يؤكد قاسم توفيق أنه في الكتابة وفي هذا القهر والعناء يجد نفسه، ماجعله في كلّ مرة يخرج منتصرًا على واقعه الحقيقيّ، وصار يفهم بأنه لا يكتب سوى لنفسه.. “لهذا كنت دائمًا متصالحًا مع ذاتي وغير منكسر أمام الشهرة أو الانتشار أو حتى باللهاث خلف جائزة أو وسام..”.
“الرواية نت” التقته ليحدثنا عن روايته “رحلة مُضنية إلى قلبها”، التي يجهز حاليًا لنشرها، كما دار الحديث معه عن آخر أعماله الروائية “حانة فوق التراب”، وعن مغامرة الكتابة وعوالمها وهمومها وهواجسها في زمن اختار فيه العزلة. فكان هذا الحوار، الذي حاولنا فيه كسر جدار عزلته..
لتكن بداية حديثنا عن روايتك التي سترى النور قريبًا، والتي اخترت لها عنوان “رحلة مضنية إلى قلبها”؟ كيف تقدمها لقراء “الرواية نت”. وفي أي أجواء كتبتها؟.
هي واحدة من مغامراتي لكنها مغامرة أكثر جرأة، فعندما بدأت حيوات هذه الرواية تتسلل إلى حياتي حاولت أن أتجاهلها وأن أبعدها عني فلم يعد لديّ من الجلد ما يساعدني على العبور في حيوات جديدة غريبة لم تلدهم أمهات ولا عرفوا الدنيا بعد. لقد أكتفيت من حمل هموم تنتظرني أن أصنعها.
ما عشته من تجارب وأحداث ومن عرفتهم من كائنات لم يكن من الممكن أن يكونوا إلا إن أردت أنا ذلك، ولا تكون إرادتي إلا بإرادتهم هم في إستلابي من حياتي والزج بي في حياتهم. فاض بي وأُثقل كاهلي لكثرة ما عانيت من هذه الناس التي صارت تدفعني للهرب وللعزلة حتى عن عالمي الخاص بشخوصه وحوادثه.
ما كان من أمر هذه الرواية أنها أقتحمت عليّ عزلتي مثلما فعلت رواية “صخب” و”حانة فوق التراب” بي من قبلها، اخترقت هذه الروايات الثلاث الجدران التي شيّدتها بيني وبين البشر وكسرت ملاذي الأخير للخروج من هذا العالم المأزوم، العزلة، عندما حزمت حقائبي وحسمت أمري بأن أفارق المدينة والناس وأن أنأى بنفسي عن كل ما يمكن أن يعيدني لمقارعة العمر بقباحاته وحتى بجماليته جاءت هذه الرواية لتكون المغامرة الجديدة في مقارعة العمر، ليس هذا وحسب بل إنها زادت في مناكفتي ودفعت بي لأن أخوض غمار علاقة غير ناجزة مع كائن صغير طيب جميل أراد أن يبحث عن وجوده بوساطتي، ففي الوقت الذي كان فيه هذا الصغير -شخصية الرواية المحورية- يحتفل بعيد ميلاده الرابع والعشرين عندما التقينا عند ناصية الكلمة الأولى من الرواية كنت قد بلغت الستين.
حين ابتدأت هذه الرواية الرحلة المغامرة أحسست بالخوف والرهبة فكيف لي أن أعايش وأن أجادل وأن أشرح نفسًا جريئة تريد أن ترى أين تقبع في هذا الكون وهي في عمر تجاوزته أنا منذ عقود؟ كنت خائفًا من أن أسقط في بئر وعيي الذاتي ولا أجتاز نبع وعي هذا الشاب فأخون نصي.
“رحلة مُضنية إلى قلبها” هي استكمال لمشروعي الروائي والحياتي، هي رحلة شاب اعتدى عليه “لا وعيه” ودفعه لأن يهجر حياته المريحة المترفة والعادية وأن يبحث عن الحياة. قد يكون للأحداث التي تلاحقت مع هذا الشاب قبل أن يصحو ويهزم القلق الوجودي الذي دفعه للبحث ولو مؤقتًا ومن باب الترف عن مخرج من لا جدوى الحياة الذي تلبسه فجأة مثلما يحدث مع كل البشر، قد يكون لهذه الأحداث دورًا بأن يظل عالقًا في متاهة البحث عن ذاته من دون أن تعطيه الفرصة لالتقاط أنفاسه والعودة إلى حياته العادية الأولى. هذه الرواية رحلة متأخرة للبحث عن الذات لكنها ليست ذاتي بل ذات ذلك الشاب.
ماهي الشواغل التي اشتغلت عليها في منجزك السردي هذا؟
منذ البداية وقبل أن أبدأ في مشروع هذه الرواية كنت منشغلًا بالبحث فيما آل إليه حال الشاب العربي المعاصر في غمرة الأحداث الغرائبية التي يعيشها عالمنا العربي، الآن على الرغم من إيماني بأن ما يجري في هذا العالم الشقي -من وجهة نظري- لا يختلف كثيرًا عن ما جرى في ذات هذا العالم المعتلّ منذ سنين أو منذ عقود أو حتى منذ قرون، مع بعض الاختلاف في كمّ الدم المتراكم وليس المنساب، فالدم العربي الذي يملأ الشوارع لن تشربه الأرض ولن تجففه الشمس، بل سيتراكم في وجدان من يعيشونه لأجيال. خوفي على هذا الجيل الذي ينتمي إليه أبنائي هو ما دفع بي لأن أبحث عن ضوء صغير خافت يفضي إلى عالم مختلف وغير هذا الذي هم فيه. من هنا قلت بأنها مغامرة، وبأن هذه المغامرة قد تكون رومانسية وحالمة على الرغم من أنها ليست كذلك فهي واقعية وبامتياز، ولكنها محاولة لتحريك البوصلة لاتجاهها الصحيح الذي يشير إلى الحياة التي تشكل على أساسها البشر جميعهم بما فيها من جمال أو قبح، إذ هي بلا شك ليست الحياة التي تريدها الإمبريالية والأفكار الرجعية المتخلفة والأنظمة القمعية المتسلطة التي ترضخ لحكمها شعوبنا العاجزة المُضللة.
لحظة الإضاءة الجريئة في مواجهة الوجود
لنتوقف عند روايتك “حانة فوق التّراب” الصادرة عن “دار الأهلية للنشر” في عمّان، والتي قلت في لقاء تلفزي موخرًا بأنك وضعت فيها “خبرة العمر .. خبرة الوعي أو خبرة الفلسفة وخبرة فهم الحياة وكيفية التعامل معها”. فما الجديد الذي حققته فيها عما سبق وتناولته في أعمالك القصصية والروائية السابقة؟
ما أؤمن به أن العقل البشري سوف يرضخ بالقبول أو بالقسر للتطور، فما قلته خلال هذا اللقاء التلفزي كان منجز وعي تلك اللحظة، وما يحدث أن خبرة الوعي والفلسفة وفهم الحياة عندي الآن وأنا أجيبك على السؤال ذاته اختلفت وتغيرت تطورًا، لأني إنسان متوافق مع نظرية قبول هذا التطور والإيمان بضرورته وسيرورته. أما ما كان من أمر “حانة فوق التراب” فقد كانت بحق هي لحظة الإضاءة العميقة والجريئة في مواجهة الوجود وبالانكشاف على مخزون حياتي كاملةً. ما يحدث عند الناس مع تقدم العمر أنهم ينكصون ويرتدون إلى ذواتهم الضيقة الصغيرة حتى وكأنهم يعودون إلى الطفولة الأولى، فيبدأون بمراجعة حياتهم والخوف يتملّكهم من قرب النهايات، ما حدث معي أني حتى مع هذه الأحاسيس اكتشفت إيماني وإخلاصي للمبادئ التي تشكلتُ عليها، وأمنتُ بها، وناضلتُ من أجلها، وعندما كتبت هذه الرواية كنت أرغب بأن أظلّ متصالحًا مع نفسي فلم أكتفِ بمواجهة ذاتي الطفلة بهذه الحقيقة بل قررت وحسمت أمري بأن أعلي الصوت، فخرج صوتي عاليًا وصاخبًا وأنجزت أكبر رواياتي حجمًا وكنت أشعر عندما انتهيت منها أنه لا يزال عندي الكثير لأقوله.
منذ البداية وفي الصفحة الأولى للرواية وضعت مانفيستو خاصًا في قاسم توفيق تحت عنوان الوصايا، ومنذ البداية وقبل أن تتشكل شخصيات هذه الرواية كان هذا المانفستو المعنون بـ”الوصايا الإحدى عشرة” هو الإعلان عما سيتلقاه القارئ في الصفحات القادمة، فالوصية الأولى تقول: “لا تعبد إلهًا يقودك إلى الشر”.
ما كان من أمر هذه الرواية أنّ المواجهة فيها كانت مواجهة شمولية فهي ليست قصة مؤطرة بعنوان أو محور رئيسٍ واحد بل هي مجموعة محاور وأحداث وشخصيات، هي عالم كامل وامتداد لسيرة تشكل شخصياتها كلها فهي ليست رواية بطل مثل أغلبية رواياتي بل رواية شخصيات وعوالم تصنع بطلًا جمعياَ.
إن ما قلته عن هذه الرواية هو ما سأقوله عن رواية “رحلة مُضنية إلى قلبها” والرواية التي ستليها.
في “حانة فوق التّراب” تقول على لسان بطل الرواية (أيهم) أو بقلمه في رسالة إلى حبيبته شيراز: “علّمني حبّك بأننا نحن البشر لا نحبّ من أجل الحبّ، بل من أجل أشياء أخرى كثيرة غيره؛ نحنُ نحبّ حتى نعي شيئًا من الحقيقة، ولكي نعرف الدّنيا”.. كيف وظفت نِعمة الحب لخدمة نصك الروائي؟.
من الحب وفي الحب تشكلت، من هذه العاطفة خرجت إلى الدنيا وبها سأخرج منها، أرى أنه يسكنني مثل لون عيني وبحّة صوتي ومثل جدلية تنفّسي ونبض قلبي، منه كان جمال عمري ومنه كان قبحها، لا أدري كيف سقطت في هاويته ولم أتّقِ من هذا السقوط؟ هل لنشأتي وبيئتي وطفولتي أم لتعلمي ووعيي؟ أم لأمر آخر صرت أحسه بعد خيباتي الكثيرات مع الحب، هو جُبني وخوفي من مواجهة الدنيا مثلما يواجهها الآخرون؟ كلّ ما في الأمر أنّي كائن يكره حدّ المقت آلام وعذابات الآخر ولربما لخلقة خطأ في جيناتي تلبسني الآخر وصار جزءًا منيّ، فلا أذكر أني آلمت أحدًا متقصدًا حتى كنتُ أشفق على من يؤلمني. لا أسوّق نفسي ولا أدعي التميز لكن هذه الحقيقة التي لم ينقضها لي أحد قريبًا كان منيّ أم بعيد.
الحب بمدلوله الشمولي حالة شقاء للمحبين فهم يحتملون ويضعون المبررات لمن يكرهونهم ويحلمون بتغيير العالم. التناقض الغريب الذي جعلني أفسر فهمي لمعنى الحبّ الذي أعيش به بأنه لا يعدو غير حالة جبن وضعف في معاركة الحياة. فكيف لك أن تواجه حياة مثل حياتنا نحن العرب أو مثل حياتنا نحن الفلسطينيين بالحبّ؟ يجب أن تقاوم ويجب أن تكره المستعمر والصهيوني والعقل المتحجر.
كلّ ما في المسألة أنني عندما أرى جثث وحوش داعش لا أرجع لما أقترفوه من أثام بحقنا وبحق وجودنا بل أفكر وأسأل ألم يكونوا في يومٍ ما أطفالًا، ألا يوجد من يحبونهم؟ وأجيب بأنّ المجرم ليس هذا الذي يسبي النساء ويقطع الرؤوس بل ما تربى عليه وما تعلمه وما صنعه فيه الفقر والجوع وما كرسته الأنظمة لتجهيله. هذا هو الحب، أو إن راق لك أن تسميه الجُبن فلن أخالفك ولن لا أحتج عليك ولن أرفضك.
أعتقد أن هذا ما أراد (أيهم) أن يقوله في “الحانة”.
إنّ كلّ ما كتبت من قصة أو رواية كان محورها الحبّ مثلما أعرفه وأؤمن به، يصفني بعض النقاد بـ”كاتب العشق” وأني أشبه نزار قباني لكن نثرًا وسردًا، وأنا أوافق ولا أجد بأسًا في هذا التوصيف على الرغم من أن أسبابي لأن أكتب بهذه الصورة لا تتفق مع ما يقصده النقاد. في الحبّ يجب أن نعرف أكثر ونفهم أكثر بأننا لم نملك غير فرصة واحدة في العيش ولن تتكرر فلماذا حتى تضيع هذه الفرصة؟
ما انعكاس الحال السياسية على كتاباتك؟ الحال التي نعاني منها الآن ونعيشها؟.
الواقع السياسي غير واضح وجلي في رواياتي ولكنه ينعكس سلبًا على الواقع الإجتماعي والنفسي والزمكاني الذي تعيشه شخصياتي الروائية وأحداثها.
إن لعنة وجودنا في هذه الهوية لعنة قديمة هي ليست وليدة مرحلة ولا صناعة حديثة، هي مأزقنا حين أغلقنا بوابة العقل وحكّمنا سلاطيننا وشيوخنا فيها. لقد نلت حظي من المعرفة منذ الصغر وعندما صرت أكتب لم أكن أرى فيما يشكل مجتمعاتنا وثقافاتنا وحتى أخلاقياتنا غير ما هو متحقق الآن. هي الحال ذاتها والعتمة ذاتها. قد يخالفني البعض وربّما أوصف بالمارق والمنشق عندما أصف ما يحدث الآن في عالمنا بأنه بداية عظيمة لأن يتحرر عقلنا العربي، لقد كشفت وعرت الأحداث التي تدور الآن الكثير من الجهالات التي كنا نعيش بها منذ عقود، لقد بدأ الإنسان العربي بغسل الصدأ الذي علق في رأسه من حشو الأنظمة، لست فرحًا بما يجري بالتأكيد لكني أرى أن نقطة خلاصنا تبدأ من هنا.
إن تحدثنا عن الربيع العربي أو عن سقوط بعض الديكتاتوريات العربية نجد أن إعلام الأنظمة التي تستلب شعوبها يعيد لذاكرتنا أمجاد هذه الديكتاتوريات، هم يقولون الله يرحم أيام مبارك والقذافي مقارنة بما يحدث الآن لكي يجعلوك ترضى وترضخ لمستبديك. ما جرى ويجرى الآن هو تحريك المياه التي أركدتها حكومات وأنظمة لسنين طويلة جعلت المواطن العربي يشكر الله على نعمة الجوع بحجة أنه ينعم بالأمن، أنا أسأل لماذا لا يكون الأمن ويكون الشبع؟ هذا الواقع وهذه الكذبات صارت مكشوفة لنا، فمثلما تعلمت الجماهير أن تسقط ديكتاتورًا فقد تعلمت الأهم وهي أنها قادرة على إسقاط ديكتاتورٍ آخر. وما يجرى الآن بعد أن صنعوا لنا ما يسمى بداعش وأخواتها فاتهم أن يفكروا بأنّ المواطن العربي المحايد الذي يعيش بقدرية مُطلقة قد تفتحت أمامه مئات بل آلاف الأسئلة. هكذا أنظر إلى المعادلة، الواقع قاس ودمويّ وبشع لكن القادم ومن رحم هذه البشاعة سيكون أجمل.
حتى لا نبتعد كثيرًا عن الكلام في الأدب أقول بأنّ واقع التخلف الذي عشناه في الماضي هو الواقع ذاته الذي نعيشه اليوم وهو مادة كتاباتي ونصوصي ورواياتي، وما يصنعه هذا الواقع من أشكال جديدة لهذا التخلف هو ما يؤثر فيما أكتبه.
في روايتي الأخيرة التي لم تُنشر بعد “رحلة مُضنية إلى قلبها” فرض شخص داعشيّ حضوره عليّ في هذا النصّ فأنا ابن هذا المجتمع وابن هذه المرحلة مثلما كنت ابنًا لمراحل كثيرة قبلها.
ترى أن “فتح المجال لخلق تابوهات هو إعلان استبدادي وقمعي لإغلاق باب التفكير، وحكم لا يصدر عن المجتمعات أو الثقافات، بل يصدر عن القوى الحاكمة والمتحكمة، وهذا بطبيعة الحال نفي لأبسط قواعد الديمقراطية”. وهنا أسألك: هل استطعت التعبير -من خلال كتاباتك- عن كل ما تشعر به بكل حرية ودون الاكتراث لأي رقيب؟.
لا أعتقد أنك ستفاجأ إن أخبرتك بأن ذكر اسم “عمّان” في الأدب (قصيدة وقصة ورواية) كان من التابوهات، هذا أمر يعرفه الجميع فلقد تسلط علينا الرقيب في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته حتى حرّم علينا ذكر اسم المدينة التي جئنا من رحمها. هذه حقيقة أقرّ بها العديد من الكتاب الأردنيين وقد كان عندهم ما يبرر خوفهم، إذ كان من الممكن أن يقع الكاتب أمام المُساءلة إن كتب رواية أو قصة تكشف حالة فساد أو قمع وأظهر أنّ مكانها “عمّان”، لذلك التجأ الكتاب إلى أسماء أخرى ومدن مختلفة. كان لبيروت والقاهرة الحيز الأوسع في الحضور.
في تلك المرحلة أصدرت مجموعتي القصصية الأولى بعنوان “آن لنا أن نفرح”، في العام 1977، في هذه المجموعة ذكرت اسم عمّان وحواريها وشوارعها وأناسها. وبعدها أصدرت مجموعة بعنوان “سلامًا يا عمّان، سلامًا أيتها النجمة”. وبقيت على هذا النسق إلى الآن. لا أدّعي البطولة ولا الجرأة ولكني إنسان معتدّ بموقفه من الحياة بكلّ تفاصيلها، فعندما حطمت هذا التابوه لم أكن معنيًا بغير أن أكون أنا وليذهب النشر إلى الجحيم، فقد كان يكفيني أن أقرأ قصتي لأمي أو لرفاقي في الجامعة. وحتى أكون أنا ابن هذه الحياة فلم أرضخ لأحكام التابوهات ولم أكن أستطيع أن أخرج من ذاتي لأفصمها، العملية الإبداعية لا تتحقق من دون الذات المبدعة، والذات المُبدعة لا تكون بلا الصدق.
لقد أتكأت على ما قرأت من تاريخنا وتاريخ البشرية وعرفت بأنّ التابوهات هي صناعة الأنظمة لكي تدجّن الناس وتفرض عليهم الرضوخ، ولتأليه وجودها حتى تظل تحكم، كتبت بجرأة عن تابوه الجنس وأخذت قوتي من تراثنا العربي ومن فضائح الفضائيات العربية التي تحطّ من قيمة الجنس وجماله في محطات التلفاز من فيديوكليبات وقحة ومسلسلات أكثر وقاحة. أنا لا أكتب لأشوه وعي القارئ ولا لأتحدى أحدًا إنما لأكشف ما أرى أنه الحقيقة.
مسألة أخيرة أريد أن أقولها فلطالما أنني لست معنيًا بما يؤول إليه حال ما أكتب سواءً نُشر أم لم يُنشر أو مُنع من التداول، فأنا بالتأكيد لست معنيًا بأن أدجن نفسي لطاعة مقصّ رقيب أصنعه من داخلي وأُسكنه فوق رأسي بإرادتي ورضاي.
كيف ترى الأدب كشهادة حية عن اللحظة التاريخية؟ وما هو دور الكاتب/ الروائي اليوم بعد خمس سنوات ونيف من ثورات الربيع العربي؟
الأدب ليس تأريخًا، وليس نتاج مناسبات، قد نستثني الشعر، هو انعكاس الواقع بالصورة التي تتجهّز في ذات المؤلف، ليس من الضروري أن يكون الواقع هو الزمن الحاضر، التسارع العجيب في حركة الأحداث التي اجتاحتنا خلال السنوات الخمس الأخيرة بتقديري لم تعطِ الفرصة لخلق أدب يعبر عن هذه المرحلة، فبعيدًا عن ذات المؤلف والآلية التي يشكل فيها منجزه فإنّ الواقع الحالي بهذه الفوضى لن يسمح بخلق نصّ متفرّد قادر على رصد هذا الواقع، أعتقد بأننا سوف نقرأ ونشاهد خلال السنين القادمة كمًا هائلًا من الأعمال الإبداعية التي ستكون مدهشة، لست متعصبًا ولكنني أعتمد على مبدأ أن المنجز الإبداعيّ الحقّ يجب أن يُخمر ويٌعتق لكي يطيب احتساؤه.
الرواية أكملت نضجها عالميًا..
هل نالت تجربتك في الكتابة حظها من المتابعة النقدية؟ وإلى أي حد أسهم النقد في تطوير مشروعك السردي؟
الحق أقول: أجل، لقد نالت أعمالي الأخيرة حظها من المتابعة والدراسة والبحث. وبالصدق ذاته أقول بأنني لم ألحظ تأثيرًا للنقد في حدود وعيي لتطوير مشروعي السردي، في مخزوني اللاواعي من الممكن أن النقد قد أضاف شيئًا لمشروعي وثقافتي مثل كلّ ما أقرأه أو أعيشه، أما أن أتأثر بقصدية وبوعي بما أقرأه فهذا أمر أفّر غالبًا منه وأتجنبه، أخاف من التكلّف والصنعة لذلك أنا أحزن على الناقد عندما يحاول أن يكتب شعرًا أو رواية إذ أراه مقيدًا بحبال النظريات التي تعلمها ويعرفها.
هناك من يرى من الكتّاب والنقاد أيضًا أن “عالم السرد والرواية يعيش عصره الذهبي” فهل أنت مع هذا الرأي؟ وبرأيك هل مازالت الفنون السردية محتفظة بقدرتها على الإدهاش والتأثير؟
العمل الإبداعي الجيد قادر على فرض نفسه على المشهد العام، أن تجد شعراء بارزين ومؤثرين كمحمود درويش وأدونيس والبردوني ومن هم مثلهم تجد أن الشعر يفرض ذاته. في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي احتلت القصة القصيرة المشهد العام كان هناك يوسف إدريس، وزكريا تامر، ومحمد خضير وغيرهم. ما يحدث اليوم أنّ الرواية أكملت نضجها عالميًا، فبعد فترة انتشار روائيين عظام منذ أواسط القرن الماضي من البير كامو وهمنجواي وكزانتزاكي وماركيز ومحفوظ وغيرهم أعطى هذا النضج نفسًا جديدًا للرواية ساعدت السينما في إثبات حضوره.
لست مُنظرًا ولا ناقدًا لكنني أرى أن موضوعة الرواية في الوقت الحالي صار لها الحضور الأبرز، بالطبع كرّس هذا الحضور الإعلام والسينما والجوائز، ما يمكن أن أضيفه تأكيدًا على ذلك وهو ما قلته من قبل إنّ الفسحة التي تمنحها الرواية للمؤلف وللقارئ لقراءة الواقع ومعايشته جماليًا هي سبب إضافيّ مهم لتتبوّأ الرواية موضع الصدارة، فمع هذا الصخب الذي في العالم ومع تسارع الأشياء والأحداث وحتى مع التطور أصبح العقل البشري عاجزًا عن ملاحقة كلّ ذلك، لا أتكلم عن المجتمعات العربية وحسب بل عن كل المجتمعات في العالم، ومع هذا الواقع جاءت الرواية لتعطي للقارئ فسحة للراحة من هذا الضجيج والصخب بأن صنعت له صخبه الخاص، فالقارئ عندما يدخل في عوالم الرواية بما فيها من أحداث وشخصيات وأزمنة يصبح هو المالك لزمام هذه الأشياء، فهو حين يروم الدخول في عالم الرواية التي بين يديه يهيئ نفسه لذلك، وعندما يريد أن يخرج من هذا العالم يكتفي بأن يطبق دفتي الكتاب. من هنا تقبل الناس على قراءة الروايات.
أين ترى الرواية الفلسطينية الآن في المشهد العربي، وهل هناك أسماء تستطيع إيجاد مكان لها عالميًا؟
هذا يعتمد على معنى “الرواية الفلسطينية”، فإن كان المقصود به أدب فلسطين المحتلة فإنني أراه أقل حضورًا من الرواية العربية، على الرغم من وجود أعمال جيدة جدًا وقيّمة، أما إن كنت تقصد بالرواية الفلسطينية أي ما يكتبه الفلسطينون بهويات عربية وغربية، فأرى أنّ الحال هنا أكثر تألقًا وتميزًا مقارنة بالرواية العربية.
لا أقدر أن أفسر كيف يمكن للأدب أن يصبح عالميًا، التعقيدات التي تسير بها مسألة النشر والتوزيع والإشهار للكتاب وللكاتب لا أرى أنها كلها تقوم على مبدأ الإبداع الحقيقي.
يلاحظ النقاد ازدياد ابتعاد الكثير من الروائيين الفلسطينيين بشكل خاص عن الموضوع الفلسطيني في الآونة الأخيرة، وتقوقعهم أكثر حول ذاتهم استنادًا لفكرة أنه “لا أدب حقيقي خارج الغوص في الذات”؟
لا شكّ في أنّ البيئة التي يعيش فيها المؤلف لها أثر عظيم على ما يبدعه وبتقديري إنّ الموضوع الفلسطيني ليس حكرًا على الفلسطينين، ما أراه حقيقة مسلّمًا بها أنّ الروائي والمبدع إجمالًا يجب أن يكون مع كل قضايا التحرر الوطني في العالم، ومع مسألة تحرّر الشعوب سواءً من الاحتلال أم من الاستبداد والظلم، فرسالة الكتابة في آخر الأمر هي مسألة تقدمية ولجهة المستضعفين والمقموعين والُمحتلين، ليست هي مسألة ابتعاد عن قضية عظيمة مثل القضية الفلسطينية ولكنها موقف جدلي يبرز من المبدعين التقدميين عندما يكتبون بمحليّة موغلة عن موضوعات القمع والفساد التي يعيشونها. ألا ترى أن هناك كتّاب سلطة في كلّ الدول العربية حتى في فلسطين؟.
إلى أي درجة تساهم الحرفة الروائية في إضفاء بعض الصفات على الواقع أو التاريخ في محاولة لإخراجهما بحلّة أدبيّة؟
بتقديري أنّ للرواية دورًا مهمًا في ذلك، فهي تجد في التاريخ مرجعية مهمة للتعامل مع الواقع، مثلما قلنا الرواية ليست تأريخًا لكنها عندما تلجأ إليه فإنّها تعيد قراءته بصورة جديدة ومختلفة عن تلك التي كتب بها المؤرخون لصالح عقائدهم أو قادتهم.
يغلب على الكثير من الروايات الحديثة اللجوء إلى التاريخ في محاولة لمحاكاة الواقع الراهن وتنجح في حال تجرّد المؤلف، فالرواية في الزمن الحاضر تحكي عن الواقع المخبوء والمُهمل والممنوع والقبيح ثقافيًا، على عكس ما كانت عليه في اتكائها على النظرية الجمالية في الماضي. وهذا ما أثاره النقد الحديث بطرح نظرية النقد الثقافي متوازيًا مع النظرية الجمالية في الأعمال الأدبية، وهذا ما أراه ضرورة مُلحة في امتلاك القدرة على خلق التناغم مع الحاضر بحيث يكون منجزًا ثقافيًا غير أنه يكون جميلًا وهذا ما أنعكس في رواياتي في حضور الجانب الثقافي المخبوء والمُهمل والممنوع فضلًا عن وجود القيمة الجمالية في الأعمال الروائية التي عشتها وكتبتها وتحاورت معها.
هناك من يرى أن المحليّة في الأدب، والمقصود هنا “المحليّة غير المنغلقة على ذاتها”، هي السبيل الصحيح لخلق أدب صادق متميز منفتح على البعد الإنساني. فما رأيك؟
بماذا تختلف المحليّة عن العالميّة؟ باللاشيء باستثناء الإبداع والجمال. عندما يكتب الروائي لا يكون معنيًا بالبيئة التي ينطلق منها ولا بالأحداث التي يتكئ عليها ولا حتى بشخوصه، عندما يكتب الروائي يكون النص قد استحوذ عليه من لحظة أن فكر بالكتابة، من الفكرة تبدأ عوالم روايته بالتشكل، قد تتشكل محليًا وتنغلق على محليتها، وقد تتشعّب وتدلف عوالم أبعد، في كلّ هذه الحالات تظل هي ذاتها. فالمحلية الضيقة عالمية بامتياز والروائي والنصّ هما من يقرران ذلك عندما ينتجان نصًا إنسانيًا.
إن الكاتب العربي يعيش هاجسين، هاجس استحواذ المكان والزمان على نصوصه فينطلق من محليته، وهاجس أخر يعيش في حالة انفصام مع المكان والزمن فيلتجئ إلى نصوص هلاميّة لا تفرق بين المحلي والعالمي لعدم أنتماءه للمكان، لأن المكان لا يشكل له حالة جمالية مستقرة والتي هي ضرورة مهمة للإبداع.
كيف تنظر إلى دور الجوائز الأدبية في تصدير العمل الإبداعي وتسويقه وتسليط الأضواء عليه؟ وهل تؤمن بأنها تساهم في صناعة الروائي وتطوير تجربته وترويج اسمه؟ وكيف ترى تأثير مثل هذه الجوائز في حركية الرواية العربية؟
للجوائز الأدبية قيمة واحدة أنها تحاول أن تعوّد الإنسان على القراءة، فمع ما تواكبها من حملات دعائية وترويج للكتاب فإنها تساعد الناس على التعوّد على القراءة. وهي بلا شكّ ترويج للكاتب وللكتاب ولكنها لا يمكن أن تطوّر تجربة الكاتب هذا إن لم تضعفها. ما يحدث عندنا أنّ من ازداد عددهم هم الكتّاب وليس القُرّاء، النقاد والشعراء والقاصون أصبحوا اليوم روائيين، لا أقول ذلك انتقادًا بل ردًا على السؤال فالكم الكبير من الروائيين لا بدّ وأن يصدر عنه أعمالًا تستحق القراءة.
لكل مبدع طقوس خاصة بالكتابة، ما هي الطقوس الخاصة التي تمارسها عند الكتابة؟
لا طقوس عندي بل احتياجات، الكومبيوتر الخاصّ بي ومكتبي وسيجاري والقهوة، يجمعهم أن أكون وحدي في المكان مع الهدوء. لا أستطيع أن أكتب إن كان بالقرب منيّ أحد. هل هذه طقوس أم عُقد؟.
لمن ولماذا ومتى يكتب قاسم توفيق؟
أكتب لنفسي، عندما عرفت بأنني عندما أعيش هذا العناء والتعب في معايشة ومصارعة أحداث وشخوص وأزمنة أنا في غنى عمّا تسببه لي من قلق وإرباك، فهمت بأنني في الكتابة وفي هذا القهر والعناء أجد نفسي، صرت في كلّ مرة أخرج منتصرًا على واقعي الحقيقيّ، وصرت أفهم بأنني لا أكتب سوى لنفسي، لهذا كنت دائمًا متصالحًا مع ذاتي وغير منكسر أمام الشهرة أو الإنتشار أو حتى باللهاث خلف جائزة أو وسام.
أما متى أكتب فأفعل ذلك حين أشرع بالكتابة ولا أتوقف طوال الوقت، لا في النوم ولا في الصحو إلا عندما أكتب كلمة “انتهى”.
أخيرًا؛ أسألك: ما هي انشغالاتك الآن وما الذي تهجس به اليوم على صعيد الكتابة؟
لقد اعتدت منذ بداية الكتابة على هجر ما أكتبه لوقت قد يطول لسنة أو أكثر حتى أنسى ما كتبت، بالطبع من غير أن أنسى الموضوع بعموميته، وعندما تأتي اللحظة المناسبة التي لا أعرف متى تأتي أعود إلى هذا العمل لقراءته من جديد بنفس قارئ وليس نفس المؤلف فأقوم بمواجهة النص كغريب عنه وعني.
أفكر الآن في العودة إلى رواية دفعني القُرّاء والأصدقاء نحو كتابتها منذ مدة حول تجربتي في العمل المصرفي، فمن المعروف وعلى الرغم من عملي في قطاع البنوك لمدة تزيد عن ثلاثين سنة لم أكتب أيّ شيء عن هذه التجربة، رواية “فرودمال” التي أنجزتها منذ وقت طويل تدق الآن على بوابة رأسي.
هاجسي الحالي، رواية “رحلة المُضنية إلى قلبها”، هذه الرواية عبرت في مخبر تجربة عقلي وطقوس الإفتراق واللقاء ومن المفترض أن أقوم بنشرها قريبًا.
قاسم توفيق في سطور..
ولد القاص والروائي قاسم توفيق عام 1954 في مدينة جنين في فلسطين، أنهى الثانوية العامة في مدرسة الأمير حسن في عمان عام 1974، وتخرج من الجامعة الأردنية في قسم اللغة العربية عام 1978.
عمل في البنوك والمؤسسات المصرفية، وهو عضو في رابطة الكتاب الأردنيين.
صدر له:
المجموعات القصصية: “آن لنا أن نفرح”، عمان 1977. “مقدمات لزمن الحرب”، بيروت1980. “سلاماً يا عمان… سلاماً أيتها النجمة”، عمان 1982. “العاشق”، عمان 1987.
الروايات: “ماري روز تعبر مدينة الشمس”، بيروت 1985. “أرض أكثر جمالاً.. الريق المر”، بيروت 1987. “عمان وردٌ أخير”، عمان 1992. “ورقة التوت”، القاهرة 2000. و”الشندغة”، رام الله 2006. “حكاية اسمها الحب”، عمان 2009. “البوكس” عمان 2012. “رائحة اللوز المر”، عمان 2014. “صخب”، بيروت 2015. و”حانة فوق التراب”، عمان 2015.
__________
*الرواية.نت