فائدة الشّعر



*منير الادريسي


ما ضرورة أوجدوى أوبالأحرى ما فائدة الشّعر؟
سؤال بدأ يتكرّر بمناسبة أودونها. والرغبة في تبرير فائدته دفاعية خجولة أمام عالم يطالب بجدوى وجود الأشياء وضرورتها للانتفاع بها أوتصريفها إلى دولارات وسلعة. يطرح السؤال وتكون الإجابة غير مقنعة، عاجزة عن ردّ الاعتبار بقوّة إلى هذا الجنس الأدبي الملتبس المتملّص من التحديد والتعريف، والذاهب أبعد في الأشكال والرؤى والتعدّد، القابل للتحوّل ومفاجأة من ظنّوا أنّهم قد أطبقوا عليه في قواميسهم الضخمة. 
وجود الرواية مبرّر اليوم بمقروئيتها أوّلاً، ثمّ بضروراتها تاليا. يمكنك أن تكتب رواية، فتُقتبَسُ لفيلم سينمائي أو تربح جائزة استحدثت خصيصا لسطوة هذا الجنس الأدبي، وصناعة كتّابها إعلاميّا. فتقرأ على نحو واسع. يمكنك أن تضمّنها موضوعا قد يكون على قياس مطالب اللّجنة والسياق العام للواقع السياسي والاجتماعي وأحداث اليوم.. بقصد أو عن غير قصد. يمكنك أن تضمّنها الإثارة التي تُستلذُّ وتدفع إلى الفضول والمعرفة. ثمّة تنويعات لا حصر لها تأخذ بالأنفاس، ومساحة يمكن ملؤها بالتعابير المباشرة والعميقة والانتقال برشاقة من الحكي المعتاد إلى المقالة والعودة منها إلى المونولوج أو الوصف وتعزيز الفضاء السردي عبر وسائل الإقناع التي يمتلكها الكاتب ومهاراته. إنّها مادّة مُتاحة بحرارتها وإغوائها الدافع إلى الفضول ومتعة النظر من خلف ثقب باب يصنعه الكاتب للنفاذ إلى شخصياته وعوالمها.
لكن الشّعر الصّافي الغارقُ في الذاتية وفي التأملات الرطبة، وفي الصوت الخافت والنبرة المرتخية بلا ضجيج ولا إدّعاء ماذا عنه؟
ثمّة موقف يتأسّفَ على حال الشّعر مقارنة بالماضي القريب أو البعيد، حين كان للشّعر حضور فاعل – مع أنّني أتحفّظ على هذه الفاعلية – حين كان الشّعر صوتَ الجميع، ويمكنه أن يصدح في أبواق السياسيين والمظاهرات، حين كان الشّعر القمّة التي يجلس عليها طموح الشعوب الواثق من نفسه، بتلك الوضعية الحالمة في زيّ شيوعيّ ماركسيّ أو قومي عربي، أو ما يخطر على البال من أيديولوجية لم يساهم في مطبخها الشّعر بأيّ شيء. مطالب لتحسين الحياة اليومية، الصّحة والعدل و.. و.. إلخ. حين كان الشّعر يردّد بأجمل وأقوى العبارات التي يردّدها العاملُ والمتحزّبُ. الشّعر اليوم عاجز برأيه عن أن يكون في وظيفته القديمة. الشعر اليوم عاطلٌ تماما عن هذا الدور، لذلك فالمطابع ودور النشر تتهرّب من وضعه في قائمة عناوينها. ربّما وبدون أدنى شكّ لكتب تفاسير الأحلام أهميّة أكبر منه. لا يخرج هذا الموقف للأسف الشديد من دائرة الباحث عن استغلال الشّعر، وإيجاد وظيفة له خارجه. ولا يعلم من حيث لا يدري أنّ الشّعر بقفزه إلى هذه الذاتية وهذا الانطواء الذي ليس سوى خدعة بصرية قد شسّع مساحة الشّعر. فما كانت تلك القفزة إلاّ بعد معرفة ووعي شعريّين كبيرين ساهمت فيهما الأسئلة الجوهرية في شأن الشّعر، التي خاضتها المدارس الشعرية في العالم عبر تجاربها المتعدّدة. نسيَ المكابدة الفكرية والتاريخية من أجل تحرّر الأفكار. التحرّر الصحي والإيجابي لأفكار الفرد من سلطة الجماعة. نسي العلوم التي صدمت الإنسان بالكون وبنفسه، لكي يسعى الشعر حثيثا إلى جوهره في مساحة لا جمهور فيها، بل قرّاء.
ينحسر الشّعر، ويتراجعُ من حيث الاهتمام والمتابعة، لكنّه يتقدّم نحو نفسه، يعرف سقطاته المتتالية من أجل وثبة واحدة إلى جماله لكنّه يثب ويتقدّم. لا يريدُ وظائف تاريخية صغيرة، فإذا كنّا نبحث عن العدالة فإنّه باطن العدالة، وإن كنّا نبحث عن السلم فهو اليد الممدودة إلى الآخر، أكثر من أيّ وقت مضى. لا يلهج شعر اليوم ببطولات الحروب كالأمس ولا يعلي من اللّغة التي يستخدمها، بل يُعتدّ بنفسه بأيّ لغة كتب أو قيل، طالما استعمل كوعاء لحفظها.. الآن على الأرجح يبدو أنّه يتعذّر ذلك.
بعيدا عن اللّعب بالكلمات والتهويمات على سطح العالم الصّلب، يحفر الشّعر الصّافي وعيا جديدا به. يحرّرنا من هذا الوهم الذي نسميّه واقعا لنرى العالم الواقعي متحرّرا من أوهام تورطنا فيها كالجميع، لذلك يغدو الشّعر عمل الفرد الحرّ. يمرّ العالم المنظور عبر مصفاة الذات الشاعرة ليصل مقطّراً في القصيدة. ما يتحقّقُ إذن في النّص هو الواقع غير المنظور من هذا العالم الذي ينطوي على رؤية نقدية مُضمرة لمنظوره. واقعٌ متأمّلٌ فيه بوعي شفيف، وليس واقعا مُحدّدا بانفعال جماعيّ تلقائي بسيط محمولا في زفّة ،حتى نطلب من الكلمات أن تأتي في الأخير لتضرب له على صنجها الخاص. 
إنّ الشّعر إذ يقرأ الواقع يقرؤه على نحو أبطأ في حياة سريعة، ويفرز بذلك وعيا وانتباها حادين. يمرّ على الأشياء فيحوّلُ قراءتنا المعتادة لها إلى قراءة مُغايرة تجعلنا ننظرُ إلى عالمنا بطريقة مختلفة، مندهشين من لقائنا الأوّل به على هذا النحو، وقد كان مستترا باطنيّا فينا. هذا هو فعل الدّهشة الذي يحرّكه الشّعر، دهشة الوعي، والتحرّر من الأوهام التي نراها كحقائق بعيون الجميع، تلك التي تمسح غبار سطح العالم، فمهمّة الشاعر لا تقف عند وصفه للواقع، ولا الانفعال به على السطح، بل النفاذ إلى جهته الأخرى الباطنة، فإذا كانت من فائدة للشّعر فتلك هي، مع ما يحيط بها من ذرّات لهالة الجمال والغبطة التي لا تنفصلُ أبداً عنه.
يبدو أن ثمّة فتحا عظيما كان ولايزال للشّعر الصّافي، لا ينفصل عن الفتح الخاطف للأنفاس لميكانيكا الكم. مع أنّ لكل طريقه ووسيلته لبناء العالم من جديد، ذاك الذي نأمله.
هل ثمّة فائدة للشّعر؟ نعم، فائدته هي الأخذ بيد القارئ إلى نقلة في الوعي عبر فنيّته وحسيّته المرهفتين. هي دفعه إلى النظر من جديد إلى نفسه والعالم كأنه ولد للتو خارج تلك الأفكار التي تجعل عالمنا متثاقلا؛ بتأويلها السريع للواقع المزيّف حتى أعمت البصيرة وتسبّبت في المزيد من اليأس والخراب. إنّ فائدة الشّعر اليوم أهمّ وأعمق، بمقاس ذلك الفراغ الذي يعاني منه العالم، فراغ من الإيمان بالطبيعة والإنسان، ومن رؤية الواقع متحرّرا من كلّ وهم، إن كلّ نظرة ضيّقة هي بالتأكيد نظرة بعيدة عن الشّعر. فليتقدّم الشّعر الصّافي مُعتدّا بدوره الكبير، لأنّ معيار قوّته لا يقاس أبدا بالمتحلقين حوله مع كأس شاي، بل قوّته في ذاته. لا يقاس بتهرّب الناشرين، ولا غياب جمهور. الشّعر يبحث عن قرّاء فقط، ويكفيه شرفا ذلك.
________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *